لا يشك أحد في أن ما قامت به عصابة العسكر في مصر – ولا أقول النظام المصري، لأنها عصابة وليست نظاما – وما فعلوه من جرائم يندى لها جبين الإنسانية، وانتهاكات تبكي لها الفضيلة، لا شك أنها لم تمر في تاريخ مصر على يد حاكم من حكامها، ولا أكون مبالغا إن قلت إنه لم يحدث على يد محتل!
فقد نجح المحتلون لأوطاننا بعد أن تم إجلاؤهم وتحرير البلاد من احتلالهم ظاهريا، أن يزرعوا لنا عملاء لهم ووكلاء عنهم، يقومون بما كانوا يقومون به، بل يفعلون أسوأ مما كان يفعله الاستعمار الأصيل .. وتَرْكُهم للوكلاء بهذه الصورة قد يلتبس على البعض فيقولون: إن الاحتلال كان عدوا ظاهرا ومقاومته لا شك في أنها جهاد والمقتول فيها شهيد صريح؛ لأنها حرب بين مسلمين وغير مسلمين، أما هؤلاء السماسرة والمحتلون بالوكالة فهم من بني جلدتنا، ويأخذون من الليل كما نأخذ، ولكنهم نهَّاكون لمحارم الله، ومرتكبون لأبشع ما يمكن ارتكابه بحق البشر، ويستنزلون به غضب الله على البلاد والعباد، ولهذا فإن النفاق أخطر على الإسلام وأهله من الكفر، وانظروا إن شئتم مساحة “سورة الكافرون”، ومساحة “سورة المنافقون”، أو تأملوا مساحة الحديث عن الكفر في القرآن مقارنة بحديثه عن النفاق والظلم.
ومن أجل الحفاظ على مصالح هذا المستعمر أنشأ الجيوش العربية، والشرط العربية، والمخابرات العربية، ومارست هذه الأجهزة الأمنية ما لم يكن يحلم به المستعمر نفسه، مما يدل دلالة قاطعة على أن ولاءها ليس للعرب ولا المسلمين، وإنما لمن أنشأها ورباها وأنفق عليها، وفي الجزائر وما حدث فيما عرف بالعشرية السوداء، وما يجري في مصر، وسوريا، والعراق، واليمن، وليبيا، وغيرها في عالمنا العربي وللربيع العربي خير دليل.
لم تنشأ هذه المؤسسات من أجل حماية حدود الأوطان، ولا تأمين الناس وحمايتهم وحفظ أرواحهم وأعراضهم .. وإنما هي أدوات في يد وكلاء الاستعمار في مرحلة ما بعد الاستعمار، لتأمين عروشهم، وتنفيذ خطط من ولاهم ووالاهم، وحفظ مصالحه، وإذا تحركت الشعوب تحركا مغايرا تنشد فيه كرامتها وحريتها واستقلالها، فمصيرها القتل والطرد والاعتقال وسفك دمائهم، تلك الشعوب التي تنفق على هذه الجيوش وتلك الشرط ومؤسساتها من قوت يومها، فحُقَّ فيهم المثلُ العربي: “سمِّن كلبك يأكُلْك” .. وهو ما ظهر جليًّا، واتضح كما الصبح لذي عينين، بعد نهضة الثورات المضادة لثورات الشعوب، والتي ستكون آخر نهضة لها بإذن الله، وبعدها ستنكسر ولن تعود إلى الأبد.
من أجل هذا نقول لمن ينادون بالاستسلام والانبطاح أما هذه الجرائم وأصحابها: أربعوا على أنفسكم، إذا كانت لكم ترتيبات وأوضاع ومصالح لا تصب في نهضة الأمة وتخليصها من طغاتها لتستعيد عافيتها وتبرأ من عللها، وتنتزع حريتها من المستعمرين بالأصالة أو الوكالة .. فدعوا الأمر لأهله، وإن الله تعالى لن يتخلى عن عباده المجاهدين، ولن يترك أولياءه يُتخطفون في الأرض!
إنني أرى أن الذين يرون التراجع سبيلا، وينادون بالاستسلام المنبطح طريقا الذي يترك أموالنا وأعراضنا وأنفسنا فريسة لذئاب البشر .. ما هم إلا خونة للأعراض والدماء والشهداء التي سالت منذ بدء الاحتلال الغربي وفرض الهيمنة الغربية على بلادنا وحتى ما بعد ثورات الربيع العربي في ظل الثورات المضادة، وأحسبهم خارج عجلة التاريخ، وفهم الواقع، واستيعاب ما يجري من تحول في عالمنا، وإدراك اللحظة الفاصلة وفلسفتها السُّنَنيَّة.
وليس معنى هذا أن نتهور في المقاومة بشكل غير محسوب، ولا أن نفعل ما لا يُحدث نكاية في المجرمين، بل لابد أن يُفهم الواقع، وتحسب مآلاته، وتقام الموازنة بالقسط بين المصالح والمفاسد وفق الضوابط الشرعية المقررة في هذا المجال.
إن اعتماد المقاومة الشاملة للعصابات الإجرامية سواء في مصر أم سوريا أم اليمن، أم ليبيا أم العراق أم غيرها، هو واجب شرعي، وفرض حتمي، وضرورة حضارية وسننية وواقعية، وانتصار لقيم الحق والخير والعدل والجمال، ووفاء لدمائنا وأعراضنا وعذاباتنا وأرواح شهدائنا، ولا طريق أمامنا سواه في هذه اللحظات الفارقة من تاريخ أمتنا التي يعرفها من له أدنى صلة بفقه دورات التاريخ وسنن قيام الأنظمة وانهيارها، أما الذين هم خارج عجلة التاريخ وفهم سننه، بل خارج نطاق الجغرافيا أساسًا، فسوف تتجاوزهم حركة الشعوب الواعية وتطوي صفحتهم وتلفظها من التاريخ، أو يخضعوا لسنة الله في الاستبدال: “وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ”. [سورة محمد: 38].