في فقرة ساخرة على موقع “يوتيوب”، يظهر مواطنون يدلون برأيهم في استطلاع ساخر عن ماذا بعد مسح خط الاستواء، فتأتي الإجابات مضحكة حتى البكاء، بين شاعر بالاضطراب والضياع بعد مسح الخط وقائل إنه لم يكن له أي فائدة، وجيد أنهم ألغوه.
هذا بالضبط ما تفعله الحكومة المصرية مع شطب اسم “رابعة العدوية”، ووضع اسم النائب العام السابق، صاحب قرار ارتكاب المذبحة بحق المعتصمين في الميدان الشهير في القاهرة، تتوهم أنها قادرة على مسح خط الاستواء، والكتابة على صخور الكوكب الأحمر.
وكما قلت سابقا عن “رابعة العدوية” إنها خط الاستواء، أو الحد الفاصل بين الإنسانية والحيوانية، ولا أتصور أن شخصًا أيد مذبحة رابعة يمكن أن يكون معنياً بالفرق بين الخير والشر، أو بين الحق والباطل، بين الثورة والثورة المضادة”.
رابعة معنى وقيمة وقصة مكتوبة بالدم على جدران ذاكرة تأبى النسيان، ليست مجرد مكان، يمكن محوه بتغيير معالمه، أو تبديل اسمه، وليست مجرد ذكرى، سوف تشحب وتنطفئ بالتقادم، بل هي العنوان الدائم للوجود الإنساني، بمعناه النقي الشفاف.
هي مسألة أخلاقية تخص الإنسانية كلها، عصية على التصنيف، أو الحبس في إطار حزبي أو سياسي ضيق، ومن ثم لا يستطيع طرف أن يحتكر الألم والوجع، ويعتبره موضوعا يخصه وحده، كما لا تستطيع كل ماكينات الدعاية السوداء في الكون أن تحولها من “قضية الإنسان”، أينما وجد، إلى أزمة تخص جماعة الإخوان، أو تيار الإسلام السياسي وحده. وبالتالي، يمكنك القول إنه صار هناك “الإنسان الرابعاوي” في قارات الدنيا الست، ذلك الإنسان الرافض للدم وللظلم وللوحشة. وبناء عليه، ليس كل رابعاوي إخوانيا، كما أنه ليس كل إخواني رابعاويا، فالجرح أعمق وأوسع من الدوائر الحزبية والسياسية الضيقة. رابعة قضية تخص رامسي كلارك، وزير العدل الأميركي الأسبق، وديفيد هيرست الكاتب البريطاني، والمنصف المرزوقي الرئيس التونسي السابق، ورجب طيب أردوغان رئيس تركيا، بالقدر نفسه الذي تخص به قيادات الإخوان.
هي جرح البشرية النازف، هي الطفل الباكي الذي يدق أبواب الضمير ونوافذه، سقط فيها آلاف الشهداء، كما سقطت آلاف من أقنعة التحضر الزائف والإنسانية الشائهة، عن وجوه طالما مثلت أدوار المدافعين عن حق الإنسان في الحياة وفي الاختلاف، فرآهم الناس عراة من كل ما نظروا له وبشروا وتاجروا به، وانزاح الستار عنهم وأيديهم وأفواههم ملوثة بدماء الضحايا، ممن حرّضوا على تصفيتهم بفض اعتصامهم بالقوة.
في الذكرى الثالثة لسقوطهم الحضاري، هل يعلم الليبراليون المتوحشون أن مئات من ضحايا المذبحة التي حرّضوا عليها، لا يزالون في عداد المفقودين، لا هم أحياء عند ربهم يرزقون، ولا هم أموات على قيد الحياة في السجون والمعتقلات؟
من هؤلاء طالب في هندسة الأزهر، اسمه عمر محمد حماد، اختفى منذ الفض، لم يترك والده بابا في مصر إلا طرقه. لكن، لا مجيب، فلم يبق له من أمل سوى أن يكون ابنه في عداد المعذبين داخل سجن “العازولي” الذي علم أنه يضم مفقودين عديدين، بلا أوراق أو قضايا.
ومثل “عمر” هناك “ياسمين”، طفلة لم تتم عامها الخامس عشر، اختفت منذ الفض، ولا يعلم أهلها مصيرها، هل قتلت أم حبست، أم خطفت.
بعد ثورة يناير، تكونت حركة في مصر باسم “هنلاقيهم” أخذت على عاتقها مهمة البحث عن المفقودين من جمهور الثورة، وأذكر أني شاركت في أحد المؤتمرات الجماهيرية للحركة، بمقر نقابة الصحافيين، مع كبير الحقوقيين المحترمين، الراحل أحمد سيف الإسلام، والد علاء وثناء، القابعين في سجون الدولة العسكرية الآن، وكان الخطاب حاميا ولاذعا، في تحميل الرئيس محمد مرسي الذي لم يكن قد مر على انتخابه سوى أيام، مسئولية البحث عن المفقودين والغائبين.
الآن، هل يجرؤ أحد على أن يرفع صوته بالسؤال عن مصير مفقودي مذبحة السلطة؟
أكرر: إننا مدينون بالشكر لشهداء الاعتصامات الرافضة للانقلاب مرتين: مرة لأنهم قدموا النموذج لبذل النفس والدم دفاعا عن المبدأ والفكرة، والأخرى لأنهم أسقطوا قشرة التحضر والليبرالية الزائفة عن جلود موشومة بالوحشية.