عموم الناس منشغلون بلقمة العيش، والمهتمون بالشأن العام منهم يركزون على التغيرات السياسية التي تحدث في المجتمع، بينما لا أحد تقريبًا يتناول الطفرات الاجتماعية التي تحدث، وتغير وجه المجتمع بشكل خطير يصعب علاجه حتى مع أي نصر سياسي منتظر!
نتناول هنا ثلاثة أوجه فقط، في سلسلة من ثلاث مقالات تحت عنوان “ماذا حدث للمصريين”، بانتظار أن ندق ناقوس الخطر عند أحد ما؛ لعله يبحث الأمر ويقدمه بشكل علمي.
1- الثقافة الاستهلاكية
_________________
ورث عبدالناصر دولة غنية، تقرض بريطانيا، وتنتج الأرز والقطن وتصدرهما للعالم أجمع، وعملتها الورقية “الجنيه المصري” أقوى من الجنيه الذهب. وأظن أن كثيرًا من الشباب اليوم صاروا أكثر وعيًا لكي يعلموا أن الوضع الاقتصادي لمملكة “مصر والسودان” أيام الملكية الدستورية قبل انقلاب يوليو 1952 أفضل بكثير من الوضع الاقتصادي بعد الحكم العسكري.
قام ناصر -وفق قوانين الإصلاح الزراعي- بتوزيع بعض أراضي الأعيان والإقطاعيين الموالين لبريطانيا على بعض فقراء الفلاحين الذين يعملون في هذه الأراضي؛ تنفيذًا لأجندة أميركية بتصفية نفوذ بريطانيا في مصر لصالح أميركا.
ورغم ذلك، كان الوضع الاقتصادي لمصر سيئ، وتدهورت العملة المصرية كثيرًا، وازداد عدد الفقراء، إلا أن الخدمات العامة المقدمة للمواطن كانت معقولة إلى حد كبير (الصحة- المواصلات- التعليم).
وزاد من هدوء الأوضاع -رغم الفقر- وجود مشروع كبير أقنع عبدالناصر به كثيرًا من المصريين، مستفيدًا من قبضة إعلامية جبارة، دعمتها المخابرات الأميركية بخبراء نازيين جهابذة في مجال الإعلام، سقطوا في أيديهم عقب الحرب العالمية الثانية، وهم الذين اقترحوا بالمناسبة حادثة المنشية لاستجلاب عطف المصريين العاطفيين.
كما زاد من هدوء الأوضاع الجو الاشتراكي السائد في هذا القوت، والذي كان يجعل معظم المصريين يرتدون ذات الملابس تقريبًا في المدارس والجامعات والمصالح الحكومية، ونسبة التوظيف العالية التي كان يحظى بها كل خريج جامعي، حتى وصل عدد الموظفين بالملايين!
لكن مع زيارة السادات للقدس عام 1977، وتوجهه نحو الانفتاح الاقتصادي، بدأت مصر تعرف ثقافة السوبر ماركت والهايبر ماركت، وصار تطلع المصريين يتزايد يشده، وصار الشراء والتسوق وثقافة الـ Shopping هدفًا في حد ذاتها.
شاع في ذلك الوقت من السبعينيات مصطلح “القطط السمان” للإشارة إلى رجال الأعمال الذين تربحوا بشكل سريع جراء سياسة الانفتاح التي اتبعها السادات بشكل مفاجئ! كان الاقتصاد المصري حسب جريدة الإيكونميست 1977 غير مؤهل لسياسة الاقتصاد الحر مهما تلقى من جرعات اقتصادية من الغرب، ثمنا للصلح مع إسرائيل، ناهيك أن كثيرًا من هذه الأموال تصب لصالح المؤسسة العسكرية والنفاذين في المؤسسات الأمنية والحكومية، ولا يذهب منها إلا اليسير إلى الشعب!
والآن، صار المصريون أصحاب نهم مستعر نحو الشراء والتسوق، وأصبحت المولات والهايبر ماركت في كل مدينة تقريبًا، ولو قدر للمصريين أن يحوزوا قدرًا يسير من المال، لأتوا على هذه المولات واشتروها عن بكرة أبيها!
الثقافة الاستهلاكية ليست في الطعام والشراب فقط، بل في أمور كانت من أبواب الرفهاية والكماليات فصارت من الأساسيات الضرورية لدرجة تثقل كاهل المواطن.
خذ مثلا بند الاتصالات، ففي الوقت الذي قارب فيه عدد المصريين 88 مليون نسمة؛ يبلغ عدد مشتركي المحمول قرابة 96 مليون مشترك! بل إن عدد المشتركين وفق بعض الإحصائيات تجاوز منذ عدة أشهر 102 مليون مشترك!
وفي تصريح رسمي في نهاية العام الماضي للرئيس التنفيذي للجهاز القومي لتنظيم الاتصالات، المهندس هشام العلايلي، فإن المصريين ينفقون 45 مليار جنيه سنويًا على “مكالمات” التليفونات! المكالمات فقط! بينما أكدت الجمعية المصرية لمهندسي الاتصالات أن المصريين ينفقون 35 مليار جنيه سنويًا على الهواتف المحمولة. ليصبح ما ينفقه المصريون على بند الاتصالات فقط “تليفونات ومكالمات” ما يقارب 80 مليار جنيه سنويًا!
لقد صار المصريون مستهلكين لكل ما يُنتج، دون أن تنتج مصر أي شيء مما يستهلكه المصريون، بعد أن كانت مصر تنتج السيارات والثلاجات والغسالات والتلفازات ومحركات الطائرات! فكل شيء يستخدمه المصريون من العلكة “اللبان” إلى أجهزة المحمول اللاب توب هي صناعة أجنبية ويقوم المصريون فقط بدور المستهلك!
وحين جاءت تجربة ديمقراطية أنتجت لنا رئيسًا منتخبًا أنتج محاولة لتصنيع أول حاسب ذكي مصري “إينار” وجدنا انقلابًا عسكريًا يدهس هذه التجربة ويخرج لنا رئيس للوزراء يطالب المصريين بالعمل كسائقي “توك توك”!