استكمالاً للحديث الذي بدأناه في مقالتين سابقتين عن الاستهداف الأمريكي للتيار العام في الأمة (السنة)، وما يبدو في سياق هذا الاستهداف من مشروع إيراني خاص مفارق لعموم الأمة كما تبدا في العراق بما يستحيل تأويله لصالح الدعاية الإيرانية، وكذا في سوريا واليمن، وكما يجري الاستحواذ على لبنان بما ينذر بانفجار طائفي غير مسبوق؛ فإنه لا بد من تحرير بعض المسائل لمنع الالتباس عن الفكرة الأساسية في هذه المقالات، ولدفع ما قد يطرأ من اعتراض عليها.
فإن هذه المقالات لا تخلي هذا التيار العام في الأمة من مسؤولياته الذاتية عن إخفاقاته بما في ذلك القوى الإصلاحية والتحررية والجهادية فيه، بيد أن المسؤولية الذاتية لا تعني أبدًا انتفاء الأسباب الخارجية من استهداف غربي مركز، ومشروع إيراني خاص مفارق لهذا العموم، وقابل للتلاقي مع الاستهداف الاستعماري، فالأسباب أكثر تعقيدًا وتركيبًا من اختزالها في سبب واحد.
ومن ناحية ثانية فإن انتفاء الدور الإيراني في مكان ما، كما هو الحال في ليبيا كما يبدو حتى اللحظة، لا يعني أن هذا الدور منعدم بالكلية في المنطقة العربية، فالاستدلال على انعدام الدور الإيراني كليًا بانتفائه في ليبيا مثلاً من التعسف الذي يمارسه بعض أتباع هذا المحور صدورًا عن حالة الارتباك التي يعانونها جراء السياسات الإيرانية المتعارضة تمامًا مع دعايتها عن الثورة ومعاداة الاستعمار والوحدة الإسلامية، ذلك لأن الحضور الإيراني في صورة المشروع الخاص المفارق لعموم الأمة واضح بما يغطي أكثر المشرق العربي، بل وبعضًا من المشرق الإسلامي كما هو في أفغانستان.
هذا وإن غياب المشروع المتبلور بما يعبر عن السنة بما هم التيار الرئيسي في الأمة، وإن كان يعدّ من معالم إخفاقات هذا التيار في مقابل المشروع الإيراني الذي يرتكز في بعض أدواته وسياساته على التشيع، فإنه من جانب آخر من معالم أن السنة أقرب إلى حقيقة معنى الأمة من كونهم طائفة في الأمة، إذ لا يمكن لأحد أن يحتكر التمثيل السني مهما حاول أو ادعى تجسيده لهذا المفهوم، ولذلك فإن هذه الحركة التاريخية الكبرى التي تغطي المنطقة العربية هي ثورة أمة تتحرك في داخلها العديد من القوى والأفكار، وكأن هذه الأمة تحاول أن تتحرك إلى الإمام بكل ما فيها وبكل ما عرفته من نظريات وأفكار وبكل الأدوات المتاحة على ما بينها من اختلاف، وهو الأمر الذي يحول في مرحلة التحول العميقة هذه دون الإشارة إلى طرف قائد أو مشروع نهائي متبلور.
بيد أن هذه الحركة الكبرى باندفاعتها الضخمة بكل صور التدافع التي تنطوي عليها قابلة لأن تسفر في النهاية عن مشروع يعبر عن هذه الأمة، وهو ما تعمل على إجهاضه بعملية استباقية القوى الغربية تقودها أمريكا تتلاقى في ذلك مع المشروع الإيراني ومع أدوات أمريكا في المنطقة من بعض الأنظمة العربية التي يهدد وجودها ومصالحها قيام هكذا مشروع.
وهذا يعني؛ أن الأنظمة العربية التي تُحسب على السنة ليست من ضمن هذه الحركة التاريخية الكبرى التي تعني ثورة أمة، وليست مقصودة حين الحديث عن مشروع السنة-الأمة، والموقف نفسه ازاء الدولة الوطنية بما هي وحدة سياسية متعارضة مع مفهوم الأمة، ومرتبطة بالنظام الدولي الاستعماري، وإنما هي النقيض الأساسي لهذا المشروع، وحسبانها على السنة أو تمثيل السنة بها من سوء الفهم أو من التضليل المقصود، وإن لم تكن تلك الأنظمة والدول شيئًا واحدًا ما يجعل بينها اختلاف في الدرجات ويتيح التعاون المصلحي مع بعضها في بعض المحطات.
وفي جانب من هذا الذي جرى عرضه؛ ما يجيب على السؤال المركزي عن إسراع المنظومة الاستعمارية الغربية إلى ضرب هذه الحركة دون التفريق بين قواها السلمية وتلك الأخرى العنفية، وقبل أن تتبلور في صورة مشروع قادر على تهديد تلك المنظومة، بخلاف التسامح النسبي الذي تبديه مع المشروع الإيراني، إذ تدرك هذه المنظومة أن معنى الأمة أكثر التصاقًا بالسنة الذين حملوا رسالة الإسلام الكونية للعالمين، واصطدموا بالحضارة الغربية منذ البواكير الأولى وبقوا على ذلك حتى واجهوا الهجمة الاستعمارية إن في القرون المتأخرة، أو في هذه الهجمة التي لا تزال تتجلى عسكريًا في أفغانستان والعراق وسوريا.
فأهل السنة من حيث العدد والاتساع الجغرافي والبنية الفكرية الأساسية التي تقوم على الشورى ومستوى التعدد المذهبي والفكري داخلهم وافتقارهم للوعي الطائفي وكونهم الحامل التاريخي الرئيسي للرسالة إلى خارج المجال الإسلامي؛ هم الأكثر تعبيرًا عن مفهوم الأمة، فالوعي الطائفي داخل المجال السني حديث ومرتبط بتطورات الأحداث منذ احتلال العراق في ٢٠٠٣، فهو ليس أصيلاً بخلاف البنية الشيعية التي تقوم على هذا الوعي في الأساس، كما أن الأنماط الطائفية التي تنتسب للسنة لا تستغرق عمومهم وتبقى أيضًا بدورها أضعف أصالة وأكثر ارتباطًا بتطورات الأحداث، وحتى العمليات التاريخية التي جرت في محاولة مذهبة السنة على حساب كونهم المعبر عن الأمة، بقيت فكرية وتاريخية وداخل المؤسسة الفقهية، وبالكاد تجاوزت ذلك إلى عموم الأمة.
بينما يفارق المشروع الإيراني الأمة من حيث الركيزة الطائفية التي يرتكز إليها ويستخدمها كواحدة من أهم أدواته، خاصة وأن التشيع الإمامي كان حركة داخل الأمة يستهدف "تصحيح المسار التاريخي الخاطئ الذي بدأ منذ سقيفة بني ساعدة"، ولم يكن حركة إلى خارج الأمة، وبقي كذلك رغم ما حصل من بعد الخميني من اصطدام بالمجال الخارجي وذلك بتبني خطاب معادي للاستعمار وتأسيس "حزب الله" الذي قاتل العدو الصهيوني لأكثر من عقدين من الزمان، إلا أنه ورغم هذا الجانب المشرق؛ فإن البنية الأساسية التي تقوم على الوعي بالافتراق عن عموم الأمة وتغذية هذا الوعي بتمايز مذهبي لحوح يستدعي التاريخ وكأنه الحاضر بقي كما هو، بل إن المشروع السياسي الإيراني بنى شرعيته على نظرية سياسية فقهية منبثقة عن هذه الدعوى التاريخية الافتراقية وعلى نحو يتجاوز المجال الإيراني نفسه، ومن جانب آخر فإن هذا المشروع يفارق الأمة من حيث الركيزة الأخرى التي يرتكز إليها وهي القومية الفارسية.
من الواضح أن المنظومة الاستعمارية الغربية، تدرك عناصر الاختلاف هذه بين السنة بما هم مشروع أمة رغم كل ما هم فيه من تمزق وتخبط، ما يفرض عليها عدم التسامح مع أي بواكير تحول لدى السنة، وبين المشروع الإيراني بما ينطوي عليه من عوامل تتناقض مع الأمة إن من حيث البنية الطائفية أو القومية، ما يجعل التسامح معه أكثر إمكانًا، وإن كانت عوامل الاصطدام بينهما واردة أيضًا وغير ممتنعة، وهو ما ينبغي أن يفرض على الإيرانيين إعادة النظر في سياساتهم الافتراقية وصياغة نظريات تعيد دمج مشروعهم بملحقاته الطائفية داخل الأمة.