في الأشهر التي سبقت الانقلاب العسكري في مصر، في الثالث من يوليو الماضي، كان من الشائع أن تسمع في القاهرة جمل متعددة مثل: الرئيس مرسي ليس إلا فرعونا جديدا، إنه ديكتاتور تحت الصنع، أو، إنه يمثل نوعا جديدا، وخطيرا من الفاشية.
كان مرسي الذي انتُخب بعد ثورة يناير التي أطاحت بحسني مبارك من الحكم، غير كفء بلا شك، وفشل في الحكم بشكل كلي. نعم، لقد كان الرجل الخطأ، في التوقيت الخطأ. لكن هل كان حقا حاكما ديكتاتوريا؟ بعبارة أخرى، هل كان “غير ديمقراطي” كما يدعي كثير من المصريين، بل ومحللين غربيين أيضا؟
قد يبدو هذا سؤالا أكاديميا، لكن لفهم ما حدث في مصر، وانتقالها إلى اللحظة الحالية، أسيرة الهيمنة العسكرية واليد الحديدية للسياسي القوي الذي يحكم، وعلى ما يبدو أسيرة لقمع لن ينتهي، يجب أن نفهم ما الذي حدث وما لم يحدث.
إذا كان مرسي، بشكل واقعي، ديكتاتورا جديدا فإنه يمكن تبرير، أو على الأقل تفسير، الإطاحة به بأنها كانت أمرا لابد منه، لكن من المهم كذلك فهم عملية التحول الديمقراطي في المجتمعات شديدة الانقسام، ويجب تحديد توقعاتنا من مصر، ومرسي وعما إذا كانت النتائج التي حققها تختلف كثيرا عن المفترض أن يحدث بعد الثورات أو الانتفاضات.
إن الطريقة الوحيدة للإجابة على هذه الأسئلة هو ألا ننظر إلى ما فعله مرسي بمعيار الثوار الذين لم يرق إلى تطلعاتهم ما فعل، ولكن تحديد أساس معرفي حول معايير سياسية واضحة. وأن ننظر إلى الذي حدث أيضا في عمليات التحول الديمقراطي الأخرى في أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية وأفريقيا وآسيا.
للإجابة على هذا السؤال، سجلنا عام حكم مرسي طبقا لمؤشرات “بوليتي” واحدة من المعايير الأكثر استخداما لرصد الديمقراطية والسلطوية. اخترنا “بوليتي” ليس فقط لأنها واسعة الانتشار بين المهتمين بالعلوم السياسية، ولكن أيضا لأن قياساتها حساسة بما يكفي لرصد التحولات من سنة إلى أخرى.
يقيس مؤشر بوليتي ثلاث معايير أساسية للديمقراطية: 1- الوصول للسلطة، وعما إذا كان الرئيس منتخبا أو مُعينا، 2- القيود على السلطة التنفيذية، 3- انفتاح النظام للمشاركة السياسية.
ولأن مؤشر بوليتي يصنف فترة مرسي على أنها فترة “تحول مجتمعي”، فإننا أخذنا سجلات 32 دولة أخرى من ذات الفئة، ولأن الكثير من الدول قد خضعت لتحولات استغرقت أكثر من سنة واحدة، فإننا سجلنا عدد السنوات ب70 سنة للدول التي درسناها. وفي بحث منفصل آخر، قارننا مصر تحت حكم مرسي بثلاث فئات أخرى من مؤشر “بوليتي”، 1- التغيير الإيجابي الذي تم في النظام السياسي، 2- التحولات الديمقراطية الطفيفة، 3- التحولات الديمقراطية الكبرى. وتشمل هذه الفئات تقريبا 400 سنة أخرى.
مرسي لم يكن مانديلا! لكنه لم يكن مستبدا كذلك!!
مؤشر بوليتي يسجل الديكتاتورية والديمقراطية على مقياس من (-10) عشرة تحت الصفر، إلى (+10) عشرة. ومن قراءتنا فإن الحد الأعلى الذي سيحصل عليه مرسي هو 4. ومع ذلك فإننا نعتقد أنه للحصول على نتيجة أدق، فإننا سنلتزم بروح “بوليتي” وليس فقط أرقامها، ولذلك فإننا سنعطي لمرسي 2.
بكلمات أخرى: فإننا سنقول إن عام حكم مرسي كان خليطا بيد الديمقراطية، والتسلطية في بعض الأشياء. مرسي كان رئيسا منتخبا، وكان خاضعا لقيود مؤسسية ومجتمعية معتبرة. عندما نحى مرسي وجهه قليلا ناحية الاستبداد، وقام بعمل إعلان دستوري حصن فيه قراراته من المساءلة في نوفمبر 2012، قامت احتجاجات واسعة النطاق أجبرته على التراجع عنه.
حكومة مرسي والإخوان المسلمين فضلت الجماعات الإسلامية، وانحازت لها، وضيقت أو هددت بعض الأصوات المعارضة البارزة، واعتقلت نشطاء مدنيين مثل أحمد ماهر، ولكن خلافا لحكومة الجيش الحالية، فإن الإخوان لم يقوموا بقمع منهجي مؤسساتي أو بسجن المعارضين، علاوة على ذلك، فإن مرسي الذي أراد أن يأخذ الدولة بأكملها ضمن فلسفة “الفائز يحصل على كل شيء”، لم يستطع ذلك إذ ووجه بما يسميه “ناثان براون” (أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورج واشنطن وباحث رئيسي بوقفية كارنيجي) “الدولة الواسعة”، وهي تضم الجيش والقضاء والمؤسسات الأمنية ونخبة من رجال الأعمال.
من هذه النتائج، كيف يمكن مقارنة مرسي ببقية الدول محل الدراسة؟ متوسط النتائج لمعايير مثل “التغيير الإيجابي للنظام”، و “التحول الديمقراطي” هو 2.18. لكن الأكثر اقترابا من الحالة المصرية هي الدول تحت فئة “التحولات المجتمعية” إذ كانت متوسط القيمة فيها “-0.97”. التحولات المجتمعية تشمل بعض اللحظات الأكثر تقلبا في تاريخ البلاد، وخلالها يتم القبض، ليس فقط على النخب، ولكن على المواطنين العاديين في الاضطرابات السياسية والاجتماعية. ويمكن تقسيم العينة إلى أربعة أرباع: الديمقراطيات، الأنظمة (المختلطة بين السلطوية والديمقراطية) التي تميل نحو الديمقراطية، و الأنظمة (المختلطة) التي تميل نحو السلطوية، والأنظمة الاستبدادية.
الفئة التي يقع فيها حكم مرسي، هي الفئة الثانية، أي الأنظمة المختلطة التي تميل نحو الديمقراطية.
عندما قال وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري في أغسطس 2013، أن انقلاب الجيش المصري كان “استعادة للديمقراطية” كان يتجاهل حقيقة أن مصر تحت حكم مرسي كانت تمر بمرحلة انتقالية بشكل اعتيادي للغاية، ليست استبدادية بالكامل ولا ديمقراطية بالكامل، تقع بالضبط -تقريبا- في وسط الدول ذات التحولات المجتمعية عالميا.
أي نوع من الديمقراطية تلك التي استعادتها الحكومة التي عينها الجيش في مصر؟! النظام الجديد الذي تلى الانقلاب كان ليسجل -4 على نفس المقياس الذي نستخدمه، هابطا ست درجات ناحية الديكتاتورية!
وعلى خلاف مرسي، وحتى الرئيس القوي السابق حسني مبارك، أو أنور السادات، فإن حكومة الجيش قامت بعمليات اعتقال تعسفي غير مسبوقة للمعارضين السياسيين، وكذلك عمليات قتل جماعي خلفت مئات القتلى. كما أصدرت تلك الحكومة قانونا يحظر بشكل كامل أي احتجاجات في الشارع، وتستخدم قوات الأمن القوة المميتة ضد المتظاهرين بشكل مستمر. وبالنسبة لمعيار “القدرة على المشاركة” فإن الدولة ستُصنف على إنها “قمعية”، ما يعني أن النظام السياسي يقوم بتقييد الحريات بشكل حاد وبشكل منهجي، ويقوم باستبعاد مجموعات أساسية من المشاركة. كقاعدة ديمقراطية أساسية، فإن حظر حزب سياسي حصل على أكثر من 10٪ من الأصوات في آخر انتخابات وطنية، يُعد دليلا كافيا على قمع المنافسة. في مصر الحالية، هناك منافسة داخل إطار النظام الحاكم، وأي منافسة خارج ذلك الإطار لا يتم السماح بها.
في الحقيقة، إن انخفاضا بقدر ست نقاط بين حكومة مرسي وحكومة عبدالفتاح السيسي، الذي أعلن ترشحه لرئاسة الجمهورية، يُعد تقليلا من الفارق بين الحكومتين! فالفارق أكبر كثيرا من تلك النقاط الست.
مع ترشح السيسي، بعد انقلابه العسكري، نتوقع أن تنخفض مصر إلى -6 أو -7، أي أقل بثمان نقاط من عام حكم مرسي.
التلميح الأمريكي إلى أن مرسي والإخوان المسلمين، بشكل ما، خطفوا العملية السياسية في مصر، أدى لشرعنة الانقلاب العسكري في يوليو من منطق أن الانقلاب كان ضروري لإنقاذ الديمقراطية المصرية. لكن كما ظهر من الأرقام، فإن مرسي في منصبه كان أكثر -كثيرا- ديمقراطية من منتقديه، والحكومة التي استولت على السلطة بعد انقلاب عسكري كانت أكثر استبدادية، بشكل ملحوظ، عما كان عليه مرسي في أي من أوقات حكمه.
بطبيعة الحال، فإن الطبيعة القمعية بعد الانقلابات العسكرية ليست مفاجئة، ومصر ليست استثناء، لكن نظرا للطبيعة المصرية الفريدة، والانقسامات الأيديولوجية التي تقسم الشعب، والصمت الدولي أو الدعم الصريح للانقلاب، بالإضافة لكراهية الإخوان من جانب شريحة كبيرة من السكان، تبشر الإطاحة بمرسي بفترة أكثر قمعا من تلك التي حدثت في الغالبية العظمى من الانقلابات الأخيرة، وتضع مصر على قدم المساواة مع تشيلي، الأرجنتين في السبعينات، والجزائر في التسعينات.
لا شيء من هذا يغير حقيقة أن حكومة مرسي، بالأرقام أيضا، كانت فاشلة! لكن مع ذلك، كان بإمكان المعارضة المواجهة بقوة من خلال تقييد السلطة التنفيذية عبر الاحتجاجات وتنظيم الأحزاب السياسية ومن خلال وسائل الإعلام، وهذه هي المعايير الرئيسية للديمقراطية. كل تلك القنوات السابقة للمعارضة، ممنوعة تماما تحت القيادة الحالية في مصر، والتي تجرم بشكل واضح المعارضة، كما هو الحال عندما حُكم على ثلاثة من أعضاء حزب “مصر القوية” بالسجن ثلاث سنوات للدعوة للتصويت بلا في الاستفتاء على الدستور، كما أن النظام السياسي الجديد يحرم شريحة ضخمة من السكان من المشاركة السياسية بشكل لم يوجد إبان حكم مرسي بل وحتى حكم مبارك.
العديد من الانتقادات التي وُجهت لعام حكم مرسي قامت على افتراضين أساسين، أن حكومة مرسي كانت غير كفء واستبدادية. بالنسبة للادعاء الأول، فيمكن القول أن لديه من الأدلة ما يكفي، أما ادعاء الاستبداد فهو كما ظهر، ادعاء متهافت للغاية.
إن مأساة التحول الديمقراطي في مصر، هي مأساة إدراك الواقع، والتوقعات. عقود من التحولات في دول عديدة عبر العالم تثبت أن مرسي رغم كونه غير كفء، إلا أنه لم يكن استبداديا أكثر من زعيم فترة انتقالية نموذجي. وكان أكثر ديمقراطية من غيره من القادة خلال التحولات المجتمعية.
لقد فكك الانقلاب العسكري المؤسسات الديمقراطية الهشة استنادا إلى مخاوف وهمية من المستقبل، وما سيبقى (ربما لفترة طويلة قادمة) هو مؤسسة واحدة، الجيش الذي يقود نظاما سياسيا.