– كيلو البطاطس بكام يا عم الحاج
– ب ٧ جنيه
– طيب ممكن تدينى نصف كيلو بـ 3.5 لأن مش معايا فلوس تكفى
نظر اليه البائع باحتقار وصاح به بغلظة: ياعم غور هى ناقصة شحاتين على آخر اليوم علي الطلاق أرمى البطاطس على الارض ومابعهاش فرط
من خلف الرجل ظهرت طفلة امسكت بيده وهى تبكى بكاءً مكتوما
من بين عبراتها قالت: يللا يابابا مش لازم نتعشى النهاردة
نظر اليها الرجل بحزن عميق
ثم انهمر سيل دماء من أنفه وفمه وفي لحظات سقط بلا حراك
تجمع المارة حول الرجل ولم تمض دقائق حتى نزل أحد الأطباء من عيادته المجاورة وبعد كشف سريع على الرجل نظر إلى الأهالي المجتمعين وأعلن وفاة الرجل
الشاهد العيان الذي روى تلك الواقعة منذ أسابيع أخبر أن سبب الوفاة كما تبين بعد ذلك هو ارتفاع شديد في ضغط الدم تسبب في نزيف داخلي أودى بحياة الرجل
لا شك أن سبب ارتفاع الضغط هو ذلك القهر الذي شعر به الرجل
لقد مات حسيرا وهو يطالع الدموع في عيني طفلته الكسيرة بعد أن لم يتمكن من توفير جنيهات بها يشتري لها ولأخواتها عشاء
مات وقد شاهدت ابنته ذلته بين يدي إنسان لم يرحم حاجته
وكم من فقير ينتظر دوره في تلك (المطحنة) التي لا يشعر بها كثير من الناس
لحظة قاسية كمثل هذه اللحظة تنكسر فيها كرامته وتوطأ فيها عزته ويعجز المرء عن التحمل
لم يجد من يرحمه في الدنيا فصعدت روحه إلى أرحم الراحمين
إن المتابع للحالة الاقتصادية المصرية منذ سنوات طويلة وليس فقط الآن يدرك ببساطة أن هنالك عنصرا رئيسيا وقيما محوية تعد من أهم أسباب (الستر) الذي جعله الله سببا لتستمر حياة أكثر من ربع المصريين ممن لا يختلف حالهم كثيرا عن هذا الرجل المسكين ويمثلون نسبة من هم تحت خط الفقر طبقا لآخر بيان للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء منذ أسبوعين تقريبا
هذا العنصر الذي يساعد بشكل رئيسي في (ستر) حياة هؤلاء هو العمل الخيري وتلك القيم هي قيم البر وصنائع المعروف والتراحم والتكافل بين الناس
قيم تعتبر من أهم معاملات دعم الفقير في صراع البقاء الذي يعد سمة للحياة في بلادنا العامرة أو التي كانت عامرة
يندرج تحت مصطلح العمل الخيري كل أنواع البر والإحسان سواء كانت مؤسسية أو فردية
فالجمعيات خيرية ومؤسسات الكفالة ولجان الزكاة في المساجد الأهلية أو الرسمية و المنفقون الجوادون من أغنياء الناس أو حتى من بعض متوسطي الحال الذين نذروا حياتهم للدلالة على الخير والسعي به بين الناس كان أولئك هم العمود الرئيسي -إن لم يكن الوحيد- الذي تقوم به حياة هذا الجزء الكبير من الشعب المصري والذي لم تلتفت إليه الدولة والأنظمة التي مرت عليها ولا أعتقد أنها ستلتفت حتى إشعار آخر
المشكلة التي أريد مناقشتها في هذه السطور هي تلك الشروخ الخطيرة التي اعترت ذلك العمود مؤخرا والتي تكاد أن تنقضه وتسقطه تماما
شكى لي كثير من الأصدقاء القائمين على تلك المؤسسات الخيرية التي يعد بعضها شهيرا مشهودا له بدور رائع في ذلك المجال أن هزة زلزالية رهيبة تمر بهم في الشهور الأخيرة وتهدد استمرارهم في كفالة الأسر التي يتولونها
هزة تتمثل في عجز شديد في الموارد قد أصابهم مؤخرا
كثير من المنفقين والمتبرعين توقفوا عن التبرع ومن لم يتوقف قلل من عطائه بنسبة كبيرة
هالني الأمر فبدأت في تتبعه واستقصائه قدر وسعي فوجدت مثل تلك الشكاوى تتكرر على مسامعي بشكل يكاد يكون متواترا ومع مؤسسات وجمعيات خيرية لا توجد لها أي علاقة لا بأحزاب ولا بجماعات بل ربما يكون القائمون عليها مختلفين فعليا مع تلك الجماعات والأحزاب
لكن العنصر المشترك أنهم جميعا يشتكون من ذلك العجز
في تقديري تعد تلك الهزة وذلك العجز في المواد الخيرية أحد آثار حالة التردي والاستقطاب السياسي التي نمر بها والتي يعد تسربها إلى العمل الخيري من أخطر الأمور على الفقير والمسكين الذي لا يشعر به أحد وربما لا يدرك كثيرا من أبعاد الصراع ولا تهمه كثيرا تلك الأحداث الدائرة من حوله طالما هنالك أفواه جائعة يتفطر لها قلبه كلما تذكر أنها تنتظره آخر اليوم ليطعمها وأنه لا يملك ما يسد به رمقها
ذلك المعدم العاجز عن العمل الذي لا تأتيه إعانة بطالة
وعائل الأسرة الضخمة الذي لا يغطي نفقات أسرته حتى مننصف الشهر ذلك الراتب الزهيد الذي يتلقاه مقابل وظيفته الأساسية بالإضافة لعمله بعد الظهر
أو تلك المرأة الغلبانة التي لا تملك إلا قصعتها تضع فيها كل صباح بضعة حزم من الخضروات في مجموعها لن تأتي لها في آخر اليوم إلا بجنيهات معدودة ربما لن تكفي لسد أفواه الأيتام القابعين في حجرتها الضيقة
هؤلاء ومن على شاكلتهم لن يهتموا بحاكم أو دستور ولن يصيب أغلبهم حد أدنى من الأجور لأن أغلبهم فعليا لا يتلقون أي أجور
وهؤلاء هم من يعانون الآن بسبب عجز الجمعيات الخيرية وأهل البر والإحسان عن مساعدتهم في الوقت نفسه الذي تتغول فيه الأسعار بشكل محموم لا أحد يدري إلى أين سيصل
إن هذا العجز في قدرة ما تبقى من المؤسسات الخيرية له أسباب وعوامل لا شك أن من أهمها تردي الحالة الاقتصادية ونقص السيولة حتى لدى متوسطي رجال الأعمال الذين كانت تلك المؤسسات تقوم على تبرعاتهم وزكوات أموالهم وصار بعضهم يقترض اليوم نفقات بيته
لكنه ليس السبب الوحيد
دعونا نتحدث بصراحة أكثر
إن الكراهية المتبادلة والتشكك المستمر وربما الرغبة في الانتقام تعد أسبابا رئيسية في هذا العجز الخيري وإمساك اليد عن الإنفاق
وهذا للأسف من جميع الأطراف
فما بين شائعات استغلال المؤسسات المستقلة لأموال الزكاة والصدقة في الشأن السياسي وامتناع الكثيرين من أصحاب الانتماءات السياسية المخالفة أو المغايرة أو حتى من غير أصحاب الانتماءات عن إعطاء تلك المؤسسات خشية أن تؤول للإخوان وما بين امتناع في المقابل من بعض المنتمين للتيارات الإسلامية عن تلك النفقات بسبب شعورهم بالإقصاء والكراهية ممن كانوا يوما ينفقون عليهم ويكفلونهم حتى بلغ الأمر ببعضهم أن أطلقوا دعاوى بمنع الأضاحي هذا العام ودعوات أخرى على نفس النسق ناقشناها في وقتها وتم التراجع عنها بفضل الله
لكن في الحالتين يصعب الآن أن تغير تلك المشاعر أو تزيل تلك الشكوك و التربصات المتبادلة
وفي النهاية الفقير غالبا هو ضحية لا ذنب لها
وهو الذي لا يعنيه كل ذلك وربما لا يدركه
وهو الذي لم يكلفنا الله أن نعقد له امتحانا فكريا أو أيديولوجيا لنعطيه
بل كلفنا أن نرحمه ومن لا يرحم لا يُرحم
لذلك أدعو من خلال هذا المقال كل من لم يستطع تجاوز شكوكه ومشاكله السياسية والأيديولوجية ألا يكون قراره هو التوقف
فليبحث عن مؤسسات أخرى يثق بها أو لينزل هو بنفسه ما دام لا يستأمن تلك المؤسسات التي كان مندوبوها يأتونه حتى بابه وأن يلمس حاجة الفقير على أرض الواقع وأن يواسيه بماله في هذا الشتاء القارس وذلك الغلاء الفاحش فهو في النهاية لم يزل مكلفا بالبر والعطاء
وأما إخواننا من أبناء التيارات الإسلامية فأقول لهم ما قاله الله للصديق رضي الله عنه وقد أوقف نفقته على رجل كان ينفق عليه أعواما بعد أن خاض في الإفك وتكلم في عرض ابنته مع من تكلم فقال الله: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
إن هذا في تقديري من أهم المحكات الذي تظهر حقيقة الصدق والإخلاص والعمل المتجرد لله وحده وليس لأي مصلحة دنيوية
فلتكذبوا عمليا اتهامات التجارة بالدين التي يرمونكم بها ولتتجاوزوا فكرة العقوبة الجماعية التي تعانون من مثلها وليظل الأصل هو العطاء و الخير ما لم تتأكدوا أن المتلقي فعليا قد استحل الدماء أو شارك في الظلم و القتل
لتكن لنا أسوة في نبي الله شعيب عليه السلام إذ عامله قومه بالعداوة والبغضاء والشقاق وعلم مشاعرهم تلك تجاهه لكنه مع ذلك ظل حريصا عليهم ولم تغادر نفسه الرغبة في الخير لهم ولم يتحول عداؤهم له وبغضهم إياه إلى رغبة انتقامية أو نزعة عقابية بل ظلت مهمته الأساسية ورسالته الرئيسية ماثلة أمام عينيه فلم تكن قضيته شخصية ولم يجعل ذاته محورا للمعاملة مع قومه ولم يعتبر عداوتهم إياه وشقاقهم له سببا كافيا لإنهاء رسالته التي يتعبد بها لربه بل استمر الخطاب الحسن والموعظة الحكيمة التي تقطر حرصا على من يعادونه وذلك يظهر في كلمته الخالدة لهم: "وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ"
ولتكن القاعدة والنية التي ينطلق منها الجميع على اختلاف توجهاتهم في معاملة الفقير والمسكين تلك المستمدة من الحديث النبوي الجامع
حديث: ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء