من سنن الله (تعالى) الواضحة في أحداث الثورة المصرية المباركة: سنة الله في التدافع بين الحق والباطل, وقد بانت تلك السنة الباهرة بصورة واضحة بينة, وما زالت تبدو آثارها, وستظل في تدافع بين طلاب الحق والعدل والحرية, وبين عُبَّاد الاستبداد والاستعباد, والقهر والظلم والجَوْر والعدوان, تلك سنة الله التي لا تتبدل وناموسه الذي لا يتخلف في الحياة والأحياء.
ومن بداية أحداث الثورة وتلك السنة ماضية لا تتوقف, قاهرة باهرة لا تتغير ولا تتحول, فمن أول أيامها, وانطلاق شرارتها, والدولة العميقة تتربص بها ريب المنون, وتتطلع للقضاء عليها, وتصفيتها وروادها بأي صورة من الصور, وعندما أخذت الثورة طريقها نحو النجاح في خطواتها الأولى تربصت بها تلك الأيدي الآثمة, الملوثة بالرشى والمحسوبية والدماء -تربصت بها الدوائر, وخنست عنها في الظاهر حينا من الدهر, ثم غدت مرة أخرى في الظهور وإعلان نية السوء, وقالة السوء, وخطط الاستهداف علانية دون مواربة أو استتار, وقبل بيان تلك السنة في واقع الثورة علينا أن نعرف معنى التدافع فأقول:
معنى التدافع
مادة الدفع تدور حول: المزاحمة, والصرف, والانتهاء, والتنحية, والإزالة بقوة, ولا يخفى صلة تلك المفردات بفكرة الثورة نفسها, ودلالتها اللغوية, كما لا يخفى صلة تلك المفردات بواقع التدافع الذي تعيشه حالة الثورة مع الثورة المضادة, وتلك من سنن الله (تعالى), كما سيبين من تلك الدراسة, تقول كتب اللغة: (تدافع القوم: دفع بعضهم بعضاً والدُّفَّاعُ: الشَّيءُ العظيم يُدفعُ به عظيمٌ مِثْله، وفلان سيد قومه غير مدافع، أي: غير مزاحم فيه، ولا مدفوع عنه. وهذا طريق يدفع إلى مكان كذا. أي: ينتهي إليه.ويقال: غشيتنا سحابة فدفعناها إلى بني فلان، أي: انصرفت إليهم عنا,
والانِدْفاعُ: الُمضِيُّ في الأمر.والمدافعة: الُمزاحَمة, دافع عنه مدافعة ودفاعا حامى عنه وانتصر له, ومنه الدفاع في القضاء, ودفع عنه الأذى أبعده ونحاه, ودافع فلانا في حاجته ماطله فيها, فلم يقضها وزاحمه, ويقال: دافع الرجل أمر كذا أولع به وانهمك فيه, ودافع السيل اندفع, والقوم دفع بعضهم بعضا ودافع القوم الشيء دفعه كل واحد منهم عن صاحبه ([1])
ونلحظ في تلك المادة: الحرص على الإزالة, والتنحية, والصرف, والمزاحمة؛ لأن كل فريق حريص على بقاء منهاجه ورؤيته, وثبات قيمه ومبادئه, وتلك الدلالات هي وقود التدافع ومادة تلك السنة الربانية الباقية.
(والمقصود بالحق ما هو ثابت وصحيح وواجب فعله أو بقاؤه من اعتقاد أو قول أو فعل بحكم الشرع. ونريد بالباطل نقيض الحق أي ما لا ثبات له ولا اعتبار ولا يوصف بالصحة ويستوجب الترك ولا يستحق البقاء، بل يستوجب القلع والإزالة وكل ذلك بحكم الشرع. وعلى هذا فالحق يشمل كل ما أمر الله به، والباطل يشمل كل ما نهى عنه.
ونريد (بالتدافع بين الحق والباطل) تنحية أحدهما للآخر أو إزالته ومحوه بالقوة عند الاقتضاء.)([2])
وقد رصد القرآن الكريم تلك السنة في التدافع بين الحق والباطل في آيتين كريمتين, هما قول الله (تعالى):
(وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَبَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّوَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252), البقرة: 251, 252.
وقوله (تعالى): (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَآَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ(39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُإِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ(40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41),الحج: 38-41.
من سنن التدافع بين الحق والباطل
من خلال تتبع الآيات الكريمة التي تحوي سنة الله في التدافع بين الحق والباطل يمكن أن نلمس ملامح السنة في الآتي:
1-حتمية التدافع بين الحق والباطل
إن التدافع بين الحق والباطل حتمي, وضرورة من ضرورات البقاء, فهي سنة ماضية لا تتخلف عبر الأفراد والأزمان, والأفكار, والمعتقدات؛ وهي مرتبطة بسنة الله في الاختلاف, فما دام الاختلاف بين الناس باقيا فسيظل التدافع بينهم باقيا, حتى يكتب الله النصر للحق وأهله, ويخذل الباطل وحزبه, ويمكن أن نفهم ديمومة هذا الصراع من تعبير القرآن في الآية الأولى: (يدافع) الدالة على التجدد والحدوث, ودلالة المصدر في الآية الثانية: (ولولا دفع الله الناس), الدال على الدوام والاستمرار.
وسر كون التدافع بين الحق والباطل حتميا (أنهما ضدان، والضدان لا يجتمعان، ولأن تطبيق أحدهما يستلزم مزاحمة الأخر وطرده ودفعه وإزالته، أو في الأقل إضعافه ومنعه من أن يكون له تأثير في واقع الحياة. فلا يُتصوَّر إذن أن يعيش الحق والباطل في سلم من دون غلبة أحدهما على الآخر إلا لعلة كضعف أصحابهما أو جهلهم بمعاني الحق والباطل ومقتضيات ولوازم هذه المعاني أو ضعف تأثير هذه المعاني فيهم.)([3])
وقد رأينا في الواقع المصري بعد الثورة مدى التدافع بين الحق والباطل, وبين العدل والظلم, وبين الحرية والاستبداد والاستعباد, ومارس كل فريق وسائل الدفع والتدافع, وعملت كل فئة على بذل كل ما لديها لتقرير مبدئها من خلال الإعلام المقروء والمسموع والمرئي, ونشر رؤيته عبر الأفراد والمؤسسات,وما زال الصراع مستمرا, والتدافع قائما, حتى يأذن الله بنصر الحق على الباطل,ودفع الباطل وإزهاقه, ودحض حجته بل شبهته,وتحق كلمة الله على الطاغين الباغين,والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
2- سعي الباطل في دحض الحق لا يتوقف
ومن سنن الله في هذا التدافع حرص الباطل على الإنهاء على الحق؛ حتى يعيش هو في الجو الذي لا يعيش مثله إلا في مثله, ويستعين أهل الباطل في ذلك بالمال والإعلام, بل القتال إن لزم الأمر, وإغراء النفوس الضعيفة, والقلوب المريضة, باذلين في سبيل ذلك الغالي والرخيص, مستخدمين في إغرائهم الشهوات والشبهات.
(وهذا هو شأن الباطل وقوته، تطغيه هذه القوة فتدفعه إلى إزالة الحق وأهله ولو بالقوة. قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ(, الأنفال، الآية 36. وقال تعالى : (وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ), البقرة، الآية217)([4]).
وقد رأينا في أحداث الثورة رأي العين, وما زلنا نرى, كيف تداعى ذئاب الداخل والخارج بأموالهم, ونفوذهم وسلطانهم في سبيل إزهاق الحق, ونصرة الباطل, والظلم والجور الذي عم البلاد والعباد, حتى سالت الدماء, وخربت البلاد, وتوقفت مصالح الناس, وهرب رأس المال , وتقلص الإنتاج لغياب الأمان وفقد الاستقرار, لقد استعانوا على ذلك بالنفوس الضعيفة, والأيدي الرخيصة الممتدة إلى الوطن بالاعتداء والعدوان, وإلى أعداء الحرية بالمذلة والسؤال.
3- لا بدّ للحق من قوة تحميه
وحتى يحدث توازن الرعب, وتتكافأ القوى المادية, ويحدث التدافع بحق يجب أن يكون للحق قوة تحميه, وترفع شأنه وتعليه؛ ولهذا أمر الله (تعالى) أهل الحق بإعداد القوة لإرهاب أهل الباطل ومنعهم من البغي على الحق، فقال (تعالى) : (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ), الأنفال، الآية 60.
(فإن قوى الشر والضلال تعمل في هذه الأرض, والمعركة مستمرة بين الخير والشر والهدى والضلال; والصراع قائم بين قوى الإيمان وقوى الطغيان, منذ أن خلق الله الإنسان.
والشر جامح والباطل مسلح . وهو يبطش غير متحرج , ويضرب غير متورع ; ويملك أن يفتن الناس عن الخير إن اهتدوا إليه, وعن الحق إن تفتحت قلوبهم له . فلا بد للإيمان والخير والحق من قوة تحميها من البطش, وتقيها من الفتنة وتحرسها من الأشواك والسموم.
ولم يشأ الله أن يترك الإيمان والخير والحق عزلا تكافح قوى الطغيان والشر والباطل اعتمادا على قوة الإيمان في النفوس وتغلغل الحق في الفطر , وعمق الخير في القلوب . فالقوة المادية التي يملكها الباطل قد تزلزل القلوب وتفتن النفوس وتزيغ الفطر . وللصبر حد وللاحتمال أمد, وللطاقة البشرية مدى تنتهي إليه, والله أعلم بقلوب الناس ونفوسهم, ومن ثم لم يشأ أن يترك المؤمنين للفتنة, إلا ريثما يستعدون للمقاومة , ويتهيئون للدفاع , ويتمكنون من وسائل الجهاد . . وعندئذ أذن لهم في القتال لرد العدوان)([5])
4-غلبة الحق وأهله
ومن سنن الله (تعالى) في التدافع بين الحق والباطل أن الله ينصر الحق وأهله, ويدافع عن أصحابه؛ وذلك لأن رسالة الإسلام هي الحق, ولأن أهل الباطل لا يقومون إلا على الخيانة, والله لا يحب الخائنين, ولا ينصرهم, ولا يهديهم, بل يحبط كيدهم, وقد قال الله (تعالى) في آيات سنة التدافع: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39), الحج: 38, 39.
عن قتادة رضي الله عنه، في قوله: (إن الله يدافع عن الذين آمنوا)، قال: (والله ما يضيع الله رجلا قط حفظ له دينه")([6])
وقد تكفل الله بنصر من ينصره, فقال (تعالى): (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) الحج: 40.
وقال تعالى: (وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ)الشورى: 24, والآيات في تأكيد نصر الله للمؤمنين غزيرة وفيرة.
وقد ورد في تفسير هذه الآية: أن من عادة الله أن يمحو الباطل ويثبت الحق بكلماته أي بوحيه أو بقضائه كقوله (تعالى): (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق). الأنبياء : 18, وسواء أكان هذا المحو للباطل وإحقاق الحق بالوحي, أو بالقرآن, أو بالمعجزات, أو بالقضاء الذي لا مرد له, أو بوعده بمحو الباطل, و تلك سنته في إقرار الحق وإزهاق الباطل)([7])
والمقصود بعادة الله هنا كما هو واضح سنته وطريقته, وناموسه وقانونه.
5-قد يتأخر النصر الحق لحكمة يريدها الله
في ميدان الكلام كنت أقول: لا يضرك أن يتأخر طلوع الصباح, إنما يضرك أن يطلع الصباح فيراك بين النائمين. وفي ميدان العمل رأيت ثباتا على الحق لا يخالجه شك, في صورة بشرية أقرب إلى صور الملائكة: تضحية وبذلا, وعطاء وصبرا, وثقة لا تضعف, ويقينا لا يزول وإن زالت من أماكنها الجبال الرواسي, بداية من سمية بنت خياط التي كانت أقوى من جلادها,وأعلى من سيدها, وأخلد من قاتلها, وبلال العبد الذي راح في سبيل نصر الحرية والعدل والمساواة, ووصولا إلى شهداء الحرية في ميادين مصر, على تكرار تلك المجازر التي غطت بدمائهم أرضها, وروت بها ثراها, وهم في بشر عجيب, وأهلهم في صبر أعجب.
لقد مضت سنة الله (تعالى) في التدافع بين الحق والباطل أن نصر الحق قد يتأخر, لحكمة يدبرها, يعلمها ولا نعلمها, فنقيس نحن بمقاييس البشر, ونترقب بطبيعة البشر, ولكن الله (تعالى) لا يعجل لعجلة أحدنا, بل كل شيء عنده بمقدار, ولكل أجل كتاب, ونصره (تعالى) للمؤمنين وعد صدق, في الدنيا والآخرة, فهو القائل: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَاوَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ), غافر: الآية 51.
.. قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (وهذه سنة الله (تعالى) في خلقه في قديم الدهر وحديث إنه ينصر عباده المؤمنين في الدنيا, ويقر أعينهم ممن آذاهم, ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة (رضي الله عنه) عن رسول الله (r)أنه قال: «يقول الله تبارك وتعالى: من عادى لي ولياً فقد بارزني بالحرب» وفي الحديث الآخر: «إني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث بالحرب»؛ ولهذا أهلك الله (عز وجل) قوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الرس وقوم لوط وأهل مدين وأشباههم وأضرابهم ممن كذب الرسل وخالف الحق. وأنجى الله (تعالى) من بينهم المؤمنين فلم يهلك منهم أحداً, وعذب الكافرين فلم يفلت منهم أحداً, قال السدي لم يبعث الله (عز وجل) رسولاً قط إلى قوم فيقتلونه أو قوماً من المؤمنين يدعون إلى الحق فيقتلون فيذهب ذلك القرن حتى يبعث الله (تبارك وتعالى)لهم من ينصرهم فيطلب بدمائهم ممن فعل ذلك بهم في الدنيا قال فكانت الأنبياء والمؤمنون يقتلون في الدنيا وهم منصورون فيها.)([8])
وقد يكون للباطل صولة وجولة, ولكنها لا تدوم, وصولة لا تستمر؛ لأن الحق أقوى وأبقى, وأعز على الله (تعالى) من أن يتركه بلا نصر ولا تأييد, بل إن من إحقاق الله للحق أن يعترضه الباطل ويصول أمامه, فتنكشف للخاصة والعامة ملامح الحق الغائبة, ومعاني الهدى والضلال الباهتة, فيعودوا ناصرين للحق بعد أن غدوا ناقمين عليه, متذمرين من صبره على الباطل,يقول الشيخ السعدي رحمه الله: (حتى إن من جملة إحقاقه (تعالى) الحق، أن يُقَيِّضَ له الباطل ليقاومه، فإذا قاومه، صال عليه الحق ببراهينه وبيناته، فظهر من نوره وهداه ما به يضمحل الباطل وينقمع، ويتبين بطلانه لكل أحد، ويظهر الحق كل الظهور لكل أحد.)([9])
وهذا ما عاينه الناس في أحداث تلك الثورة, أن صولة الباطل مع الحق كشفت زيف الباطل وغرره, وخُدَعَه ومكره, فعاد من كان يلوم ويعتب إلى صفوف الأحرار, يثبتهم ويربط على قلوبهم ويشد على أيديهم, وقد كان قبل من أشد الناس عليهم, ومن أحدِّ الناقدين لهم, وسبحان من كان هذا صنعه وتبارك من كانت تلك سننه.
6- نصر المؤمنين فيه أمان لغيرهم
ونلمح في الآيات الكريمة التي تحدثت عن سنة التدافع بين الحق والباطل, أن في نصر الحق ودفعه للباطل, حماية لغير المؤمنين, ويظهر ذلك جليا في قوله (تعالى): (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40), الحج: 40.
يقول الحسن: (يدفع عن هدم مصليات أهل الذمة بالمؤمنين).([10])
إن هذا الدفاع من المسلمين ليس دفاعا عن مساجدهم فحسب, بل هو( دفاع عن الحق والدين ينتفع به جميع أهل أديان التوحيد من اليهود والنصارى والمسلمين، وليس هو دفاعا لنفع المسلمين خاصة….والمعنى: لولا دفاع الناس عن مواضع عبادة المسلمين لصري المشركون ولتجاوزوا فيه المسلمين إلى الاعتداء على ما يجاور بلادهم من أهل الملل الأخرى المناوية لملة الشرك ولهدموا معابدهم من صوامع ، وبيع، وصلوات، ومساجد ، يذكر فيها اسم الله كثيرا ، قصدا منهم لمحو دعوة التوحيد ومحقا للأديان المخالفة للشرك . فذكر الصوامع، والبيع، إدماج لينتبهوا إلى تأييد المسلمين.)([11])
وقد رأى من يرصد الأمر بتجرد كيف نعم الناس بالحرية في فترة قيام الحق, وكيف تقلصت تلك الحرية وانعدمت في مرحلة من مراحل التدافع بين الحق والباطل في الواقع المصري المشهود,حتى غدا أصحاب الديانات الأخرى مستهدفين تفجيرا وقتلا, في كنائسهم وأفراحهم, وفي مواسمهم وأعيادهم, حتى ضج الصادقون منهم بأننا عدنا إلى عصر الشمولية والاستبداد, وبان الصبح لكل ذي عينين, أما من تنكب الطريق ووضع لفافة على بصره, فلا يلم إلا نفسه
وكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم
وكما قال إمام المادحين البوصيري:
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفم طعم الماء من سقم
7-كشف المنافقين في مرحلة التدافع بين الحق والباطل
ومن سنن الله في مرحلة التدافع أن تنكشف أستار المنافقين والمداهنين, الذين يعلون مع كل صيحة, ويأكلون على كل الموائد, وفضح لسترهم الخبيث, وبيان لطواياهم السيئة التي تنعق مع كل صارخ؛ رغبة في لعاعات الدنيا, وشغفا لشهوات الحياة, فتظهرهموتكشف أنهم ليسوا أصحاب مبادئ, ولا طلاب حق, بل أصحاب مصالح ومنافع يبيعون من أجلها المبدأ الحق, والمنهاج الصدق, وصدق الله إذ يقول: (وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين), الأنعام:
وقد رأينا في تلك الثورة من المنظور ما يعاضد المسطور, ويؤكد لكل ذي عينين أن الأول صنع الخبير, والثاني كلام الخبير, ولا يناقض كلام الخبير صنعه, لقد رأينا علماء دين ورموزا,واقتصاديين ومحللين سياسيين, وفقهاء ومحدثين غيروا مواقفهم, وتنكبوا طريق العلم الصحيح الذي درَّسوه لطلابهم سنين عددا, واستدلوا على الشيء ونقيضه بنفس الدليل, كما رأينا هامات سقطت في الاختبار, ولم تصمد أمام المغريات, فما كانوا يمدحونه بالأمس أضحوا يسبونه اليوم, وما كانوا يمشون في ركابه في الصباح غدوا يعدون عليه في المساء, لا لشيء إلا لأن الوجهة تغيرت, ورأينا علماء أجلاء لم يخفهم سطوة الباطل,ولم يرعبهم سلطان البنادق, ولم ينكصوا عن الحق,ولم يتراجعوا عن مؤازرة العدل والحرية, فعزوا عز العلم والحق والعدل, وأعادوا إلينا صورة العز بن عبد السلام سلطان العلماء, وبرهنوا على عدم خلو الزمان من قائم لله بحجة.
إن الذي خلق الحقيقة علقما لم يخل من جيل الحقيقة جيلا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أستاذ التفسير وعلوم القرآن المشارك في جامعة الأزهر
وجامعة حائل- المملكة العربية السعودية
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
[1]– لسان العرب (8/ 87), العين للخليل بن أحمد (1/ 95), المحكم والمحيط الأعظم (1/ 208), وما بعدها, المحيط في اللغة لابن عباد (1/ 76), المخصص لابن سيده (2/ 3), المعجم الوسيط (1/ 289), تاج العروس (ص: 5208) تهذيب اللغة للأزهري (1/ 229) مقاييس اللغة (2/ 235).
[2]– السنن الإلهية: 45.
[3]– السنن الإلهية: 46.
[4]– السنن الإلهية: 46.
[5]– في ظلال القرآن: (16/ 29).
[6]–تفسير ابن أبي حاتم: (9/ 384).
[7]– الكشاف: (4/ 226(.أنوار التنزيل وأسرار التأويل: 3/ 331, روح المعاني: 18/ 266، إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم (8/ 31, أنوار التنزيل: (5/ 129,تفسير القرآن للسمعاني: (5/ 75, مراح لبيد: 18/ 9, في ظلال القران: 34/ 29, تيسير الكريم الرحمن: 758.
[8]– تفسير ابن كثير : ج4 ، ص 83 ـ 84, والحديث في السنن الكبرى للبيهقي: (3/ 346).
[9]– تيسير الكريم الرحمن: 758.
[10]– أحكام القرآن للجصاص:5/ 83.
[11]– التحرير والتنوير:(17/ 276.