أبي البطل، هذا الحر الأبي الذي يقبع خلف قضبان العسكر الآن ..
علمتنا يا أبي منذ الصغر أن نرفض الظلم، علمتنا معنا مقاومة العدو، نعم فكان الكرتون المفضل لأولادك جميعا هو كرتون "البطل نور"، ذلك الطفل البطل الذي كان يقاوم الاحتلال، الذي رفض الظلم رغم صغر سنه.
علمتنا معنى الحرية، وكانت في بداية حياتنا تتمثل في أنك دائما كنت تأخذ رأينا في كل أمور بيتنا، كنت تجعل كل فرد من أسرتك يقول رأيه بكل حرية، رغم علمك بأننا مازلنا صغارا وقلة خبرتنا، لكنك كنت تعي معنى أكبر من ذلك، هو أن نثق بأنفسنا وأن نشارك في صناعه القرار.
كنت أنت دائما يا أبي من تقف خلفنا لتشجعنا وتغرس فينا القوة والثبات على الحق في وجه سلطان جائر، أتذكر جيدا تحفيزك لي عند نزولى يوم 25 يناير بداية الثورة المصرية، كنت دائما تقول ‘نك تفخر بي. ولكن الحقيقة يا أبي أنك أنت الفخر بعينه. منك تعلمنا أن نكون أحرارا، شاركت يا أبي بكل قوة وبجدارة في ثورة يناير بداية من جمعة الغضب.
شجعتنا على أن نضع صوتنا فى العملية الديموقراطية في كل من انتخابات مجلس الشعب والرئاسة والشورى والاستفتاء على دستور بلادي، وكنتَ دائما توجهنا لما فيه الخير من وجهة نظرك، وتترك كل منا يختار بنفسه القرار الذي يراه مناسباً.
أتذكر جيدا ذلك اليوم، أنه يوم خطاب الخائن عبد الفتاح السيسي، يوم الانقلاب العسكري، انهالت يومها عليك الاتصالات من كثير من الشباب الذين يشعرون بالإحباط والانكسار والقلق بعد هذا الخطاب القمعي، وكنت أنت من تحتويهم وتقول لهم نحن نعمل لدين الله مهما كانت الظروف، وأن ليس من المنطقي عندما يؤتينا الله بنعمه نعمل له ونفرح بذلك وعندما يأخذها نغضب ونترك العمل.
يوم مذبحة الحرس الجمهوري، إنه ذلك اليوم الذى رأيتك فيه ولأول مره بحياتي تبكي بشدة، بالنسبة لنا كان هذا اليوم مفجعا لنا جميعاً؛ لأنه كان بداية لمجازر الانقلاب الدموي، ومن بعدها انهالت علينا المجازر تلو الأخرى.
أتذكر وجودك بجانبي يوم أحداث مدينة الإنتاج الإعلامي، يوم أن أغشي علي بسبب كثافة الغاز المميت، ومع ذلك لم تمنعني من النزول والمشاركة في مسيرات ضد الانقلاب، بالعكس كنت دائما تحفزني بشدة لأنك كنت تشعر بالتقصير في المشاركة بسبب عملك، فأنت طبيب تؤدي مهنتك على أكمل وجه، كان الأطفال جميعاً يحبونك بشدة، كيف لا وأنت كنت أيضا تحفزهم وتعلق رسوماتهم البسيطة على حائط عيادتك.
ليلة الفض كنت متفقا معنا أنك ستنتهى من عملك بالعيادة ثم تذهب للبيات بميدان النهضة، يومها كنت أود أن أبقى معك ولكن كنت منهكة، حيث إننا تعرضنا لضرب شديد بمسيرة فيصل، كما أن أمي الحبيبة كانت تود أن ترجع للبيت، فكان لزاما عليَّ أن أرجع معها.
تركتك يا أبي بالميدان وقلبي مشغول عليك، ولكن ما كان يصبرني أني سأنزل في الصباح الباكر حيث إنه كان من المفترض أن يكون هناك وقفة عند محافظة الجيزة.
وبالفعل تحركت أنا وأصدقائي من أكتوبر إلى الجيزة، وفي الطريق حدثتَني آخر مره قبل الفض بدقائق، كانت تقريبا الساعة 6 وربع، سألتنى عن مكاني واطمأننت علي وقلت إنهم على وشك أن يقتحموا الميدان، وكانت كلماتك كلها ثبات، ومن بعدها انقطع الاتصال بيننا.
وباقترابي من ميدان الجيزة ورؤية الدخان بكثافة بدأت أتوقع وأتخيل ما تعيشونه داخل الميدان، وبعدها بفترة من الزمن تقريبا الساعة 8 علمت بخبر اعتقالك.
لا أنكر أني أنهرت باكية، ولكن هذا لم يدفعني ولم يدفع غيري ممن كانوا معي بميدان الجيزة رغم ما رأيناه من شهداء ومصابين أن نرجع إلى بيوتنا، فمن يسترد حقوق هؤلاء؟
بدأت أسترد قوتي وانطلقت بعد التضييق علينا بميدان الجيزة من قبل الداخلية والبلطجية والجيش إلى مصطفى محمود، وهناك عشنا ما عشناه هناك، بدأت تنهال علينا أخبار أعداد الشهداء.
انتهى اليوم ورجعنا إلى منازلنا في حالة صدمة، ولكن أقسم بالله أن هذا زادنا صمودا وثباتا وإصرارا على أن نسترد حقوقنا المسلوبة من العسكر.
نعم يا أبي، إنَّا والله على العهد باقون، الآن تكون مسيراتنا فى كل حارة، في كل شارع، نهتف بأعلى أصواتنا: "يسقط حكم العسكر" "الحرية لمعتقلين" "يا شهيد ارتاح ارتاح وإحنا نكمل الكفاح"، منكم أنتم نستمد الأمل.
بدأت بعدها حملة الاعتقالات واقتحام البيوت، ومنها كان بيتنا يا أبي، نعم اقتحم البيت فى غيابك، ورغم أنك تُقمَع عندهم، إلا أنهم أتوا ليأخذوني يا أبي! تمنيت بشدة أن تكون بجانبي حينها، ولكن حمدت الله أيضاً أنك لم تكن موجودا، فأنا أعلم صعوبة الموقف عليك، فمن الصعب على أي رجل حر أن يسمح باعتقال بنت في منتصف الليل، ولكن لا تقلق يا أبي، فأنت تركت لنا رجلا بالبيت، إنه أخي، أبى أن أنزل معهم بمفردي ونزل معي.
لا تقلق حبيبي، فهذا الاعتقال والسجن لن يهزنا أو يضعفنا أبداً.
والله لو عاد بنا الزمن لشاركنا وبكل قوة، فهذا حق، والحق واضح وضوح الشمس، وعلى يقين بنصر الله، فالله وعدنا بالنصر ولو بعد حين.
والله إننا صامدون في وجه الطغاة، فكيف لنا أن نهدأ أو نرتاح وهناك أطفال يُتِّموا ونساء رُمِّلن وأطفال ستأتي للحياة دون رؤية والدها، وأحرار يقبعون خلف القضبان؟.
ثوار أحرار … هنكمل المشوار.
________________
عضو حركة "نساء ضد الانقلاب"، وابنة الطبيب المعتقل عبد الرحمن الشواف.