الحج الشكلي قد يستوفي كل الأركان الشرعية، والأحكام الفقهية والسنن النبوية، لكنه يكون مثل صلاة بلا خشوع، وصيام بلا تقوى، وجسد بلا روح، أما الحج المقاصدي فلا يترك ركنا ولا واجبا ولا سُنة من سنن الحج، لكنه يحقق مقاصد رب العالمين من الجهد الجهيد بأداء هذا الركن العظيم.
وهو تعلق قلوب حجاج بيته بذكر الله تعالى، وترك لكل شواغل النفس عن الله تعالى، ولذا نجد أن الله تعالى قد ذكر اسمه نصًا وصفة وإشارة في سورة الحج وحدها قرابة مائتي مرة، وكل آيات الحج في بقية السور تصب في هذا المقصد الأسنى والهدف الأعلى وهو ذكر الله عز وجل. ومن ذلك قوله تعالى: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ) (البقرة: 198)، وقوله تعالى: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) (البقرة: 203).
والذكر المقاصدي هنا ليس ذكرا على اللسان وإنما أن يتحول أمر الله ونهيه في كل شيء وحمده وشكره مع كل نعمة والدعاء له والثناء عليه في السراء والضراء والتضحية لأجل دينه في العسر واليسر، وهي الشاغل الأول لكل حاج.
الحج الشكلي تؤدَّى فيه الأركان والواجبات والسنن في قوالب جامدة، أما الحج المقاصدي ففيه عين تدمع، وقلب يخشع، ودعاء بتضرع، وطلب علم ينفع، وعمل صالح يُرفع، وتقوى لله تهز القلب من الأعماق تدفع إلى المكارم إذا اشتدت المغارم وتمنع عن الفواحش اذا انتشرت المحارم، لقوله تعالى في أول آية من سورة الحج: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) (الحج: 1)، وختم الله مناسك الحج في السورة نفسها في قوله تعالى: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنْكُمْ) (الحج: 37).
ويرجع الحاج وقد تشبع بالتقوى وتشربها قلبه، فيكسو وجهَه نور الهداية ويعود خائفا من الجليل عازما على العمل بالتنزيل، قانعًا من الدنيا بالقليل، مستعدًا بالكثير من البِر ليوم الرحيل، فتعاف نفسه أن يخوض مع الخائضين، أو يسامر بالليل في الشاشات مع الفاجرين، أو ينام في النهار عن البذل والعمل والإنتاج مع الكادحين.
الحج الشكلي فيه انعزال فردي حتى في تطهير النفس من أدرانها والنجاة يوم القيامة من أهوالها فلا يكاد يرى الحاج من أهداف مناسكه سوى ما جاء في الحديث: (من حج هذا البيت فلم يفسق ولم يرفث رجع كيوم ولدته أمه) متفق عليه.
أما الحج المقاصدي فيعتبر هذا الإصلاح الفردي لا يتم إلا من خلال نسيج اجتماعي تعبدي؛ وإلا كان من حق كل من لطخته الآثام أن يذهب وحده للحج في أي وقت من العام، حتى يسارع بتطهير نفسه ويعود كما ولدته أمه، لكن الحج أشهر معلومات، والحج عرفة، والطواف والسعي والرمي والمبيت بمنى ومزدلفة كل ذلك يؤتي ثماره وسط جماعات المسلمين الوافدين من كل فج عميق، فيستشعر المسلم امتداده زمانا ومكانا منذ سيدنا آدم عليه السلام، ثم إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام عندما رفعا القواعد من البيت، ودعيا لمكة بالأمن وسعة الرزق إلى يوم القيامة، ويتمدد مكانا في كل بقاع الأرض حيث يرى إخوانه الذين وفدوا إلى مكة قد أحرموا مثله، ووقفوا بعرفة معه، وجاوروهم في الطواف والسعي فيتحمل المسؤولية عن هداية وسعادة العالم كله، كما فقهها ربعي بن عامر عندما قال: "إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد…"، فهل من حجاج اليوم من يرى في وجوده بين أجناس الخلق وألوان البشر ما يجعله يستشعر المسؤولية عن العالم كله؟!
ولهذا الهدف المقاصدي للحج ورد لفظ "الناس" في سورة الحج 15 مرة رغم أنها سورة مدنية في القول الراجح لأن للحج رسالة عالمية بدأت بالنداء إلى الناس أن يتقوا الله، وانتهت بتحدٍّ لمن كفر بالله بخلق ذباب له روح.
نحن نحتاج بحق أن ندرس خطبة الوداع على جبل الرحمة ونقارنها بخطب اليوم لنفهم الفرق بين الحج الشكلي والمقاصدي، وكيف كان رسول الرحمة صلى الله عليه وسلم ينادي على الناس جميعا بدون فضائيات ولا إنترنت، لكن قلوب وعقول الرجال والنساء، والشباب والفتيات حفظوا الدرس المقاصدي ونقلوه لنا، فحفظنا رسمه وضيعنا حقيقته، وخرَّجنا نصه وخرجنا من مضمونه، وخطبنا به في المساجد والجوامع، واختفت آثاره في الشركات والشوارع، فلا تزال الطبقية تنخر في وحدة الأمة، والربا ينذر بالخراب، والعري يطرق كل باب، وظلم النساء لا يخلو منه واد، والعجيب أن بعض شيوخنا قد استهواهم رفع الصوت بهذه الكلمات الرنانة في خطبة الوداع دون أن يقودوا أمتهم نحو عمل تربوي دعوي إنتاجي إبداعي جاد ينقل الأمة إلى مقاصد الحج العليا، من الفقر والتسول إلى الغنى والاستغناء، من الاستهلاك إلى الإنتاج، ومن الاستضعاف إلى الاستخلاف، ومن الذلة إلى العزلة، ومن الفرقة والاختلاف إلى الوحدة والائتلاف، ومن العصبية الذميمة إلى الأخوة الحميمة.
إنني أدعو الحجاج العائدين وإخوانهم الراغبين أن تتشبع قلوبهم بذكر الله قولا في تسبيحات وتكبيرات وتحميدات تخرج من أعماق القلب في خلوات تنعش الروح، ثم في جولة من الذكر العملي تنقلنا من زيارة المساجد إلى عمارتها، ومن الوِرد المتقطع إلى الوِرد الدائم مع القرآن، ومن الجرأة على الشبهات إلى تقوى تجعل اليد ترتعش وهي تستمتع بكل المباحات وسط هذه الأزمات.