لأول وهلة ينشرح صدر المرء حين يطالع تصريحات المسؤولين والقادة المصريين التي تحذر من المساس بأمن مصر، ويكاد يستبشر خيرا حين يجد أن ذلك التحذير يلوح بقدرة مصر على تأديب المتطاولين وردعهم.
إلا أنه لا يهنأ بتلك النشوة طويلا، حيث يفاجأ بأن هذه الرسالة موجهة إلى حماس في غزة وليس إلى الإسرائيليين.
وهو ما يحول النشوة إلى خليط من مشاعر الغم والصدمة.
صحيح أن مثل هذه اللغة خاطب بها الإسرائيليون حكومة القطاع وقيادات المقاومة هناك، وهو أمر مفهوم لأن غزة لا تزال تمثل شوكة في حلوقهم، سواء لأنها تشكل رمزا للاستعصاء الرافض للاستسلام والركوع،
أو لأنها لا تزال تمثل جبهة للمقاومة التي تحدث الاجتياح الإسرائيلي ونجحت في صده أكثر من مرة، أو لأنها باتت تشكل حجرة عثرة يحول دون استمرار التنازلات والمساومة على المصير.
صحيح أيضا أننا مازلنا نذكر قول وزير الخارجية المصري الأسبق الذي هدد يوما ما بكسر أي رجل تعبر الحدود المصرية. وكان كلامه موجها إلى الفلسطينيين في غزة.
إلا أن ذلك بدوره كان مفهوما في ظل نظام كان يعد كنزا استراتيجيا لإسرائيل ومشاركا في حراسة أمنها.
وهو النظام الذي لم يحرك ساكنا أمام التعديات الإسرائيلية على الحدود المصرية، وقتلها لبعض الجنود المصريين ثم مداراة ذلك بالتعبير عن الأسف وبالوعد بإجراء تحقيق في ملابسات ما جرى.
أفهم أيضا أن يروج المغرضون من عناصر اللوبي الإسرائيلي بين الفلسطينيين والمصريين «المتعاونين» للادعاء بأن استمرار المقاومة في قيادة قطاع غزة يمثل تهديدا لأمن مصر واستقرارها لأسباب عدة بوسع أي عقل لم يخترق ولم يشوه يدرك دوافعها.
فهو من ناحية يصرف الانتباه عما تمثله إسرائيل من خطر،
وهو من ناحية ثانية يصفي حساب نظام رام الله المتورط في التنسيق الأمني مع إسرائيل.
ومن ناحية ثالثة فإنه يوقع بين مصر وبين حماس لكي يستدرج الأخيرة في إحكام الحصار حول غزة والإسهام في التنكيل بأهلها.
فضلا عن أنه يشيع بين المصريين أكذوبة أن الخطر على مصر يأتيهم من غزة الصغيرة والمخنوقة وليس من إسرائيل المدججة بالسلاح النووي.
ذلك كله أفهمه. لكن ما يتعذر فهمه أن تنفجر في مصر ثورة تطيح بنظام مبارك وسياساته، ويرتفع في ظلها منسوب الوعي والجرأة والمشاعر الوطنية،
ثم تفاجأ بتحذيرات نظام مبارك تطلق بنفس المفردات تقريبا في مواجهة القطاع وحماس.
ولا أستطيع أن أتصور أن ذلك راجع فقط لعزل الرئيس محمد مرسي وإسقاط نظام الإخوان في مصر، وهو عنصر ثانوي وليس أصيلا في المشهد، لأن ملف حماس مفتوح بصورة إيجابية مع الأجهزة الأمنية في مصر قبل الإخوان وبعدهم.
لقد أعلنت في غزة نماذج من وثائق الدس والوقيعة بين حماس في مصر، ولم تعرف أن الأمر أخذ على محمل الجد في مصر.
ويتردد الآن أن بعض القيادات الأمنية الفلسطينية الهاربة من القطاع والتي كانت تدير عملية التنسيق مع الإسرائيليين، عادت إلى القاهرة مؤخرا من مقرها في الخليج، لكي تستأنف مهمتها في التنسيق والكيد للمقاومة في غزة.
إلى جانب ذلك فإنني لا أستطيع أن أتجاهل اللغط المثار حول الأنفاق، التي أشيع بين المصريين أنها أحد منافذ الخطر الذي يهدد مصر.
لقد تجمعت عوامل كثيرة أسهمت في إنجاح مسعى تسميم العلاقة مع المقاومة الفلسطينية وإقناع كثيرين بأن حماس أصبحت خطرا يهدد أمن مصر، الأمر الذي أدهش قادة المقاومة الذين اعتبروا ذلك من المستحيلات التي لا تخطر على البال.
وهو ما دفع الدكتور موسى أبومرزوق نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إلى كتابة مقال نشرته صحيفة «الحياة» اللندنية مؤخرا نفى فيه التهمة جملة وتفصيلا.
ولأن الأمر لا يتعلق بمصير حماس ولكنه وثيق الصلة بأمن مصر، فقد تمنيت أن يخضع لتدقيق نزيه من جانب أي جهة تتقصى حقائقه وتكشف ما فيها من تدليس وزيف.
وأحسب أن المنظمات الحقوقية المصرية أو حتى الجامعة تستطيع أن تقوم بتلك المهمة بجدارة، تخلصنا من الشعور بالخزي والعار الذي ينتابنا حين نجد أن المسؤولين أصبحوا يتحدثون عن خطر حماس على أمن مصر، ولا يشيرون بكلمة إلى ما تمثله إسرائيل من تهديد لا تخطئوه عين مفتوحة أو عقل رشيد.
إن إنذار حماس ليس شجاعة وتهديدها ليس تعبيرا عن القوة
كما أن أي عمل عسكري ضد القطاع ليس بطولة،
لأنك لا تستطيع أن تفوز بشيء من ذلك لطمت خدك أو غرست سكينا في قلبك.
لكن ذلك كله يختبر حين تكون المواجهة مع العدو القابع وراء التل الذي يتهلل فرحا كلما رآك مستسلما للعمى وفاقدا للبوصلة.