هناك بلا شك أخطاء سياسية للإسلاميين تذوب في بحر التضحيات والجهود المضنية لخدمة بلدهم وأمتهم، ولا يمكن مقارنتها بالجرائم الإنسانية للانقلابيين التي أدت إلى مجازر ومحارق ومجارف واعتقالات وانتهاكات تمثل عارًا وشنارًا بوجه الانقلابيين، فنحتاج بين زخم القيل والقال، وزحام الافتراءات، وتلطيخ الوجوه الحسنة، وتلميع الوجوه القبيحة، إلى التعرف على الفرق بين الاجتهادات السياسية والجرائم الجنائية.
إذا جئنا إلى ما يسمى بالأخطاء السياسية فلم يمنع نزول الوحي من وقوع بعض هذه الأخطاء في عهد النبوة، وإذا كان الجميع الآن – وهذا حقهم – يحلِّل الأسباب والعلل التي أدت بالمشهد السياسي إلى هذا المستنقع فيوجه اللوم سخيًا للإسلاميين، لأنهم السبب في وصولنا إلى ما نحن فيه، فهذا يجب أن يكون مقبولا بشرط ألا نجلد أنفسنا، ولا نزيد من ثخونة دمائهم التي تنزف بالليل والنهار والمطاردات والاعتقالات والتعذيب، وأعداد الشهداء قتلا وخنقا وحرقا، ونهب أموالهم وحرق مقراتهم وشركاتهم، وتدمير بيوتهم، فليس من اللائق أخلاقيا الحدة في لومهم، واللجج في تأنيبهم فقد حدث اجتهاد مع وجود النص القطعي دلالة وثبوتا في غزوة أحد، حيث قال صلى الله عليه وسلم للرماة: (احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا)
وفي رواية البخاري أنه قال: (إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هَزمنا القوم ووطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم)، ومع هذا خالف أربعون من خمسين ونزلوا يجمعون الغنائم بعد أن بدت أمارات النصر وفر المشركون، وكان من أثر هذا الفعل أن التف خالد بن الوليد من هذه الثغرة، وقتل بقية الرماة العشرة بقيادة عبد الله بن جبير بن النعمان الأنصاري الأوسي البدري، واستداروا فقتلوا سبعين وجرحوا سبعين منهم النبي صلى الله عليه وسلم، ومع هذا نزلت كلمات الله بردا وسلاما على الجميع كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (آل عمران: 155).
انظروا معي إلى رد الفعل الرباني أمام هذه المخالفة الرهيبة للنص، فقد نزلت الآيات بلسمًا، وفيها نسبة المخالفة للشيطان الذي استزلهم، وقدم الله لهم العفو كرمًا منه سبحانه، وخُتمت بالمغفرة والحلم، فأين نحن اليوم من هذا المنهج؟!.
لو جمعنا كل ما يقال عن تقصير الإسلاميين عامة والإخوان خاصة فهي كلها لا تعدو الأخطاء السياسية، سواء قبول الحوار مع عمر سليمان، أو قبول إدارة مؤقتة للمجلس العسكري مقابل فض الاعتصامات في التحرير والميادين، أو التردد في الترشح للرئاسة بين الرفض ثم القبول وتقديم م.خيرت ثم د.مرسي، أو عدم قدرة الإسلاميين أن ينزلوا بمرشح واحد حتى لا تتبد الأصوات، أو الإعلان الدستوري الذي حصّن الشورى ولجنة الدستور وقرارات الرئيس لأيام، أو قصة الدستور وبعض مواده التي لم يتوافق عليها الجميع، أو عدم مصارحة الشعب أولا بأول بمعاناة الرئيس من الأجهزة الأساسية إعلاما وجيشا وشرطة وقضاء، والسعي لإفشال أي برنامج إصلاحي، أو عدم الاستيعاب الكافي لطاقات الشباب والأخوات، أو الثقة في السيسي والثناء عليه لغاية يوم 26/6/2013م، و….
أقول: مع أن عندي في كل نقطة كلاما طويلا عريضا في رد الكثير منه، لكني سأعتبرها كلها حزمة من الأخطاء السياسية، ولو ماشينا – حوارا فقط – من يقول لا توجد إنجازات في فترة الرئيس مما حدا بي أن أكتب في أبريل 2013م "مفارقات بين إنجازات الرئيس وتطلعات الناس" فإنني سأسلم – جدلا – أنها أخطاء فتعالَوا إلى منهج التقييم الإسلامي العادل وفقا للروايات التالية:
1- ألم يجتهد النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في أسارى بدر؟ ونزل القرآن معاتبا لكن اعتبر هذا تركًا للأولى وأباح الله تعالى الأكل من عائد الفداء كما قال تعالى: (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (الأنفال:69)، ولو كان جناية لوجب قتل الأسارى، ورد المال، وعدم جواز استعماله فضلا عن أكله، خاصة أن التهديد فيها كان شديدا – لأنه بعد عز وانتصار ـ
والمشهد يرويه الإمام القرطبي في تفسير قوله تعالى: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (الأنفال:67-68)، فيقول القرطبي: هذه الآية نزلت يوم بدر، عتابا من الله عز وجل لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم، والمعنى: ما كان ينبغي لكم أن تفعلوا هذا الفعل الذي أوجب أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم أسرى قبل الإثخان – وهو قتل المشركين المحاربين-. ووجه لهم هذا الإخبار بقوله: (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا)، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر باستبقاء الرجال وقت الحرب، ولا أراد قط عرض الدنيا، وإنما فعله جمهور مباشري الحرب، فالتوبيخ والعتاب إنما كان متوجها بسبب من أشار على النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ الفدية، هذا قول أكثر المفسرين، وهو الذي لا يصح غيره.
2- ألم يأمن النبي في التعامل مع اليهود وهو الموحى إليه وأحسن إليهم، وعاهدهم؟! ومع ذلك ظل يعاملهم – كأهل بلد لا محتلين – وهمّوا خمس مرات بقتله، منها ما يرويه البخاري ومسلم بسندهما عن أنس أن امرأة يهودية وهي زينب بنت الحارث، امرأة سلام بن مشكم أحد زعماء اليهود أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن ذلك فقالت: أردت لأقتلَك، قال: ما كان الله ليسلِّطكِ عليَّ قالوا : ألا نقتُلُها ؟ قال: لا، قال: فما زلتُ أعرفها في لَهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم" فلما مات بشر بن البراء بن معرور متأثرا بهذا الطعام ، قتلها قصاصاً.
وروى البخاري في صحيحه معلقا والحاكم في مستدركه موصولا عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه: "يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلتُ بخيبر، فهذا أوان وجدتُ انقطاع أَبهري من ذلك السم"، وهو يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الموحى إليه خُدع من اليهودية، ومات بشر بن معرور من أكلته، وعاش النبي صلى الله عليه وسلم معلولا من القليل الذي لاكه بفمه قبل مجِّه لما جاءه الوحي.
فلِم اللوم كالسياط على ظهور الإسلاميين والإخوان عامة والدكتور مرسي خاصة في ثقته بالمجلس العسكري والسيسي؟ وهم مسلمون مع كل جناياتهم وليسوا يهودا، ونحن نقرأ الآية صريحة أن هذا الخداع وارد حتى مع النبي صلى الله عليه وسلم، ويبدو هذا في قوله تعالى: (وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) (الأنفال:62)، وقال تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) (النساء: من الآية 142) وقال عنهم: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) (البقرة:8-9).
3- ألم تكن هناك معاهدة سلام عشر سنوات في الحديبية، فلما حرَّضت قريش حلفاءها من بني بكر على قتل مسلمين من بني خزاعة وهم سجود؛ فجاء عمرو بن سالم الخزاعي شاكيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فغيَّر ما اتُفق عليه نتيجة غدرتهم، وجهز عشرة آلاف ودخل مكة فاتحا؟!
فما الغرابة أن يعدِل الإخوان عن عدم الترشيح للرئاسة عندما غدر المجلس العسكري، وأراد أن يقدم مرشحا عسكريا للرئاسة ليستمر في الحكم بدلا من الفترة الانتقالية، وإلا حلَلنا مجلس الشعب، وزار المندوب السامي للمجلس العسكري دائما مصطفي بكري الأستاذ المرشد مرتين يطلب عدم ترشيح أحد في وجه المرشح العسكري للرئاسة، فلما رفضوا حلُّوا المجلس، ودار الإخوان على الكثير من الكرام من غير الإخوان للرئاسة فأبوا، فلم يكن إلا كما قال الإمام مالك: "يُستحدث للناس من الأقضية على قدر ما يستحدثون من المفاسد"، أو كما قال الشاعر الكميت بن زيد الأسدي:
إذا لم تكن إلا الأسنة مركبا فما حيلة المضطر إلا ركوبها
وماذا جنى الإخوان من السلطة سوى التشويه والتلطيخ والجهد والتعب، ووالله لقد كان د.مرسي لا ينام من الليل إلا قليلا، وجهده في هذا العام يزيد عن جهود مبارك المريضة في الوزن الكمي لا النوعي عشر سنوات كاملة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ