أتلقى هذه الأيام، نصائح عدة تدعونى إلى الحذر فى الكتابة، وتذكرنى بين الحين والآخر بأن الدنيا تغيرت وان أجهزة مبارك الأمنية استعادت عافيتها. ولست واثقا مما إذا كانت تلك النصائح من قبيل الحرص أم انها رسائل للتخويف والترهيب. لكنى استطيع أن أقرر بأن ما صدر عن الأهل على الأقل من الصنف الأول، كما اننى أسجل ان ما جاءنى عن غير طريق الأهل لم يعلن منه شىء عبر القنوات الرسمية وان قيل ان بعضها منها يعبر عن رأى تلك القنوات.
وقد نبهنى أحد الأصدقاء الناصحين إلى أن الهجوم الذى بات يستهدفنى مع غيرى عبر بعض وسائل الإعلام فى الآونة الأخيرة ليس مصادفة، وما كان له ان يتم إلا إذا كان هناك ضوء أخضر من جهات أعلى، خصوصا أن بعضه صادر عن أشخاص يعرف كثيرون أن أداءهم ليس مستقلا دائما، ولكنه صدى لغيرهم فى أغلب الأحيان.
لم يفاجئنى ما حدث، لأننى مررت بتجارب مماثلة فى السابق، لكن ما فاجأنى هذه المرة، ثلاثة أمور:
الأمر الأول ان مشاعر الخوف والقلق انتابت كثيرين بسرعة فى ظل مرحلة مستجدة كان الظن انها تخلصت من أجواء تلك التأثيرات وطوت صفحتها.
الأمر الثانى ان الناصحين ما برحوا يقولون فى كل مرة ان المشكلة ليست فيما أكتبه، لكنها تكمن فى عدم قدرة الآخرين على احتماله، لا لشىء سوى انه يبدو أحيانا تغريدا خارج السرب. وهو ما لا تقبل به أجواء التربص المحمومة الراهنة.
الأمر الثالث أن الناصحين لم يكتفوا بالتنبيه والتحذير، ولكنهم كانوا يقدمون لى مقترحات معينة لتجنب المخاطر والسير إلى جانب الحائط، فى سكة الأمان والسلامة، حين سجلت تلك النصائح وجمعتها وجدت انها ترسم معالم سكة السلامة المعتمدة هذه الأيام، التى يمكن تلخيص أهمها فى النقاط التالية:
• عدم الإشارة إلى وصف ما جرى فى 30 يونيو بأنه انقلاب. وحبذا لو جرى التأكيد على أنه ثورة شعبية كاملة الأوصاف. ما كان لقيادة القوات المسلحة أن تتدخل فيها إلا بعد إلحاح الجماهير التى أمرت ولم يكن هناك بد من الاستجابة.
• تجاهل اعتصامات الطرف الآخر ومظاهراتهم، مع التأكيد على أن الاجماع الشعبى ملتف حول الفريق السيسى، أما معارضوه فهم فئات هامشية تضم عناصر إرهابية لا تستحق الذكر، فضلا عن أنه يتعين «تطهير» المجتمع منها.
• الحذر فى الحديث عن الحشود الكبيرة التى خرجت يوم 30 يونيو، مع الالتزام بالرقم المعلن للمتظاهرين، الذى لا ينزل عن 20 مليونا وحبذا لو ظل عند حدود الثلاثين مليونا. وعدم تكرار الخطأ الذى سبق أن وقعت فيه حين أشرت فى وقت سابق إلى تقديرات هيئة الإذاعة البريطانية BBC وحسابات أحد الخبراء التى اعتمدت على أسس علمية معتمدة، وقدرت طاقة استيعاب ميدان التحرير بما يتراوح بين 400 و500 ألف نسمة.
• الكف عن الإشارة إلى تدخل الجيش فى السياسة وعدم الحديث عن التجربة التركية فى هذا الصدد (قيل لى إن ما ذكرته عن إصدار البرلمان التركى قانونا يحظر على الجيش التدخل فى الشأن الداخلى ويحصر مهمته فى الدفاع عن الوطن قوبل باستياء وامتعاض من جانب الدوائر المعنية فى القاهرة).
• التركيز على أخطاء الدكتور مرسى التى لولا تكرارها لما اضطر الجيش إلى التدخل وعزله، مع التحذير من خطر الإخوان على السلم الأهلى والدولة المدنية.
• عدم الإلحاح على مسألة الدستور أو الانتخابات التشريعية أو حتى الرئاسية فى الوقت الراهن، مع عدم التركيز على فكرة الشرعية أو الدعوة إلى المصالحة والاحتواء، لأن من شأن ذلك شق الصف الوطنى الذى أصبح يقف بوضوح ضد ادماج الإسلاميين فى الحياة السياسية. بل ضد السماح لهم بتكوين أحزاب سياسية من الأساس.
• عدم إبداء أى تعاطف مع حركة حماس وقناة الجزيرة، مع عدم إغفال المعلومات التى تتحدث عن تهديد حماس للأمن القومى المصرى وسعيها لإثارة القلاقل فى البلاد، وتلك التى تعتبر قناة الجزيرة ضمن المربع المعادى لمصر والمتعاطف مع الإخوان.
هذه النصائح تلقيتها بصورة متفرقة من بعض المحيطين من أقارب ومعارف، لكن النصيحة التى تكررت على مسامعى أكثر من مرة منهم ركزت على أهمية الانطلاق من خريطة الطريق التى أعلنت فى الثالث من شهر يوليو الماضى، والتعامل معها باعتبارها شهادة ميلاد النظام الجديد، التى ينبغى البدء بالاعتراف بها، فى حين يعد عدم التسليم بها من دلائل المروق التى تصنف صاحبها ضمن قوائم الترقب والاشتباه.
لا أستطيع أن أخفى قلقا ودهشة إزاء مشاعر الخوف والحذر التى باتت تنتاب كثيرين فى الأجواء الراهنة، ولولا ان تلك النصائح تكررت على مسامعى عدة مرات لما القيت لها بالا ولما شغلت أحدا بها. أما إذا سألتنى لماذا ذكرتها، فإن السؤال يذكرنى بخطيب الجمعة الذى تلقى تعليمات من الحكومة بضرورة حث المصلين على تحديد النسل، فى حين أنه لم يكن مقتنعا بالفكرة، فما كان منه إلا أن سكت على مضض وفى أول خطبة له قال ان التعليمات التى تلقاها طلبت منه إقناع المصلين بكذا وكذا، وها هو يمتثل ويبلغهم بما طلب منه إبراء لذمته وإيثارا للسلامة. وقد حذوت حذوه وأبلغت بما طلب منى متوخيا ذات الهدف.