هل يقودنا الوعي بالعلاقات إلى حل الصراعات؟
لم تكن لثورات الربيع العربي أن تندلع دون شباب واعٍ وقادر على إدراك الواقع المتطور من حوله، ولم تكن لثورة المعلومات وحدها أن تنتج هذه الزخم الثوري الناضج دون وعي وعلم وقراءة متأنية من قبل شباب استطاع أن يمزج بين قوة الانسان وقوة اللحظة، وبعد نحو عامين من الثورة صارت هناك حاجة ماسة للحديث عن قوة الانسان من جديد، حتى نخرج من هذا المأزق الصعب الذي يمر به الوطن بالعمل والتطوير والتنمية، فدون العمل الدؤوب، والبحث المستمر عن تنمية البشر، لن تقوم للبلاد قائمة، فلم يعد أمامك خيار إلا أن تكون عالمًا أو متعلمًا، حتى لا تكون ثالثهما فتهلك.
ومن بين النظريات الحديثة التي قد يفيد الإلمام بها في تنمية البشر نظرية الوعي بالعلاقات، والتي أسس لها العالم النفسي إلياس بورتر، الذي يعد من أهم الإنجازات العلمية له ما كتبه في نظرية الوعي بالعلاقات والاختبارات النفسية التي أعدها والتطبيقات المرتبطة بها، وتعتمد نظرية الوعي على مبدأ رئيسي مفاده أن سلوك الإنسان يتسق مع ما يحقق له الرضا والإشباع الداخلي في علاقاته الشخصية مع الآخرين، وكذلك مع المفاهيم أو القناعات التي يؤمن بها حول طريقة تعامله مع الآخرين من أجل تحقيق هذا الرضا، وبالرغم من وجود العديد من النظريات حول شخصية الإنسان، إلا أن هذه النظرية تعنى بالإنسان نفسه. فهي تهدف إلى توفير وسيلة فعالة لفهم شخصية الإنسان وفهم الآخرين، حتى تصبح العلاقات الشخصية بناءة وتحقق الرضا الداخلي لكلا الطرفين.
وتفيد نظرية الوعي بالعلاقات بأن الحافز الداخلي للإنسان (أو ما يُطلق عليه اسم منظومة دوافع القيم Motivational Value System) يختلف في حالتين: الأولى عندما تسير الأمور على ما يرام، والثانية عندما يواجه الإنسان صراعًا أو خلافًا، وتقوم النظرية على أربعة مبادئ أساسية: أن سلوك الإنسان تقوده منظومة الدوافع الداخلية، وأن الدافع الداخلي يتغير في حالة تعرض الإنسان للصراع، وأن نقاط الضعف ما هي إلا نقاط قوة مبالغ في استخدامها، وأن الرؤية الشخصية تؤثر على الذات وعلى الآخرين.
فمن خلال دراساته العميقة للنفس البشرية انتهى إلياس بورتر إلى أن الدافع الرئيسي الذي يشترك فيه كل الناس هو الرغبة في الإحساس بأن الإنسان جدير بالاهتمام وأنه يستحق التقدير، وهكذا فإن كل إنسان يسعى إلى أن يحقق شعور تقدير الذات بطرق مختلفة ومتعددة، وتهدف النظرية إلى تنظيم مفهوم الناس عن أنفسهم وعن الآخرين حول ثلاثة دوافع أساسية: الرغبة في تقديم المساعدة للآخرين، والرغبة في تولي زمام القيادة، والرغبة في الاستقلال بالذات، كذلك يرى بورتر أن نقاط الضعف هي في الأساس نقاط قوة أفرط الشخص في استخدامها، وأن "السلوك غير البناء" ما هو إلا سلوك غير فعال ناتج عن دافع إيجابي؛ فالإنسان الذي يبالغ في نقطة كونه "واثق بنفسه" يفسره الآخرون على أنه "متغطرس"، كما يؤمن بورتر بأن رؤيتنا الشخصية للأمور تؤثر على انطباعاتنا؛ بمعنى أن الإنسان يميل إلى استخدام منظومة دوافع القيم الخاصة كأداة قياسية عند تقييم سلوك الآخرين. وبعبارة أخرى، كلما كانت الدوافع الداخلية للشخصين مختلفة تمام الاختلاف، كلما رأى كل منهما سلوكيات الطرف الآخر على أنها نقطة ضعف، أو مبالغة في السلوكيات.
وهناك تطبيقات عديدة لنظرية الوعي بالعلاقات، أولها استبيان تحديد نقاط القوة أو Strength Deployment Inventoryوهو استبيان ذاتي يقوم الشخص بالرد عليه لتحديد منظومة دوافع القيم الخاصة به. وهذا الاستقصاء يصنف منظومة دوافع القيم لدى البشر إلى سبعة أصناف ويشير إلى كل منظومة دوافع بلون مختلف على مثلث؛ الأزرق والأخضر والأحمر بالإضافة إلى المحور الأوسط بالمثلث وكذلك ثلاثة مناطق تجمع بين لونين مختلفين، ومن أهم استخداماته أنه يحدد لكل إنسان "تسلسل الصراع" الخاص به، فكل إنسان يمر بثلاث مراحل عند التعرض لصراع كما ذكرنا سابقًا، وهكذا نجد أن منظومة دوافع القيم لكل إنسان قد تتغير عند مواجه صراع من الآخرين، فقد نرى إنسان منظومة دوافع القيم الخاصة به تقع في اللون الأزرق من المثلث ولكن عن التعرض لصراع تتغير منظومة دوافع القيم لتصبح في اللون الأحمر، وبالتالي تتغير تصرفاته وسلوكياته.
وهكذا نرى أن هذه النظرية تعتبر من الأهمية بمكان لنشرها بين الأفراد والمنظمات من أجل تحسين العلاقات وتطوير طريقة التعامل بين الناس وكذلك إدارة الخلافات والصراعات بحيث تصبح خلافات منتجة وبناءة من أجل تقليل المعارضة بين الناس بعضهم البعض، سواء بين أفراد الأسرة الواحدة أو بين العاملين في نفس المؤسسة.