إذا كان سفر الرئيس محمد مرسى إلى الخارج مهما فإن بقاءه فى مصر أهم، لا أريد أن أقلل من قيمة مشاركته فى مختلف المحافل التى يمثل فيها الرؤساء. أو زيارته للعواصم التى ينبغى التواصل معها. كما أننى مستعد للمزايدة على الجميع والدعوة إلى وجوب حضوره مؤتمرات القمة العربية والأفريقية لما يمثله ذلك من أهمية خاصة بالنسبة لمصر. ومستعد أيضا للقبول بفكرة أن الرئيس لا يذهب سائحا، ولا مستمتعا بالانتقال بين مختلف العواصم، ولكنه يؤدى عملا لا يكاد ينتهى منه حتى يسارع بالعودة إلى القاهرة، حتى أن مرافقيه أصبحوا يتحدثون عن الساعات وليس الأيام التى تستغرقها كل رحلة. وقد قيل لى إن رحلته إلى جنوب أفريقيا استغرقت 18 ساعة، فى حين أنه قضى هناك 16 ساعة فقط. ورحلته إلى تركيا استغرقت عشر ساعات، كما أن سفرته إلى ألمانيا لم تتجاوز الساعات العشر. أما رحلته إلى طهران فلم تستغرق أكثر من 4 ساعات. وقد أمضى فى باكستان عشر ساعات، وكانت أطول رحله له إلى الصين التى قضى فيها 48 ساعة والهند التى أمضى فيها 36 ساعة.
هذا كله أفهمه، ولا أنكر أيضا أن رحلاته لها فوائدها. وقد فهمت أن أهم ما خرج به من اجتماعات القمة العربية فى الدوحة، تجدد ثقته فى مساندة قطر للحكومة المصرية واقتناعه بسلبية موقف بقية الدول على ذلك الصعيد، بما فى ذلك الدول التى كانت قد وعدت فى السابق بالوقوف إلى جانب مصر فى أزمتها الاقتصادية. ناهيك عن الدول التى لم تقدم وعدا وكان ردها حين أثير الموضوع معها تلخصه عبارة «يصير خير». ومن أهم ما تحقق أثناء حضوره قمة مجموعة دول «البريكس» فى جنوب أفريقيا (التى تضم إلى جانب جنوب أفريقيا روسيا والصين والهند والبرازيل) اجتماع مطول (استغرق ساعتين) مع الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، ولقاء الرئيس مرسى مع رؤساء الدول الأفريقية الذين شهدوا المناسبة وهو ما اعتبر حلقة فى مسعى تجديد وتنشيط علاقات مصر الأفريقية التى تجاوزت مرحلة الركود خلال الأشهر الأخيرة.
قصدت التفصيل فى إيجابيات تواصل الرئيس مع العالم الخارجى، لكى أدلل على اقتناعى بأهميتها، ولكى لا يتصور أحد أننى أدعو إلى الانكفاء على الذات وإدارة الظهر للخارج فى زمن العولمة الذى سقطت فيه الحدود الجغرافية بين البلدان، لكنى مع ذلك مازلت أدعى أن الداخل هو الأهم كقاعدة، ثم إن الظروف المضطربة التى تمر بها مصر تضاعف من تلك الأهمية. ولا يعنى ذلك انقطاعا عما يجرى خارج الحدود، ولكنه يعنى أن سفر الرئيس ينبغى أن يكون فى أضيق الحدود، ولا يتم إلا حين يتأكد أن المصلحة المرجوة لا تتحقق بغير وجوده، وأن تمثيل مصر برئيس الوزراء أو الوزراء والسفراء قد يهدر تلك المصلحة. وأرجو ألا أكون مضطرا إلى التنبيه إلى أن ثمة فرقا بين الوجود والحضور، لأن الوجود حالة مادية محملة بفكرة السكون. أما الحضور فهو فعل إيجابى تجسده الحركة. علما بأن هناك وجودا يستوى معه الغياب، ووحدها الحركة التى تحوله إلى حضور محسوس. وحين أدعو إلى بقاء الرئيس مرسى فى مصر فإننى أتحدث عن حضوره المتمثل فى سهره عل تحقيق الوفاق الوطنى وإشاعة الاستقرار والأمن فى البلد. وتحريك عجلة الاقتصاد المتوقفة، وليس مجرد وجوده بمكتبه فى قصر الاتحادية ملتزما الصمت ومتفرجا على ما يجرى.
إن الرئيس يرى بشعبه وليس فقط بشخصه، رغم ما قد يتمتع به من فضائل وسجايا. والذين يستقبلونه فى أى محفل أو عاصمة يحترمونه بمقدار التفاف شعبه حوله ورضائه عنه وليس صحيحا أن السياسة الخارجية منفصلة عن الداخلية. وإنما الأخيرة هى الأصل وهى المرآة التى يرى فيها وجه الرئيس، كما أن السياسة الخارجية تعد صدى وترجمة للسياسة الداخلية. إذ عندما يكون الأمن منفلتا ومهددا فى مصر، والاقتصاد مأزوما والفوضى السياسية تطل برأسها فى الميادين فإن الذين يستقبلونه فى أى مكان بالخارج يجاملونه ولا يقدرونه، ويعطفون عليه وربما يرثون لحاله بأكثر مما ينصتون إليه ويأخذونه على محمل الجد. إن شئت فإن الرئيس حين يذهب إلى الخارج وسط الأنواء التى تعصف ببلده فإنه يُرى عليلا ومجرحا والأجانب الذين يجلسون أمامه فى جلسات الحوار أو العمل لا يرون قسمات وجهه ولكنهم يطالعون صورة شعبه ويستمعون إلى صوته.
يمتدح المتصوفة الرجل الذى إذا غاب حضر (أى افتقده الناس بشدة وظلوا يبحثون عنه). وتلك مرحلة لم نبلغها بعد، لكننا نريد أن نتجنب موقف الرجل الذى إذا حضر غاب. وغاية ما نطمح إليه الآن أن نصبح بصدد رئيس حضر ولم يغب. ولأن الرئيس مرسى يتأهب للسفر إلى السودان فى نهاية الأسبوع فإننى أذكره بأنه إذا كان للسفر سبع فوائد كما قيل، فإن بقاءه مع حضوره المرجو بمصر فى الوقت الراهن له سبعون فائدة على الأقل.