لا صوت يعلو فوق صوت التخريب والهدم والتحريض فى الإعلام المصرى هذه الأيام. فثمة سعى حثيث لتفجير العلاقة بين النظام القائم والجيش. إذ منذ عدة أسابيع والشائعات تتحدث عن تذمر وغضب فى أوساط القوات المسلحة، وهناك دعوات صريحة فى حوارات البرامج التليفزيونية إلى ضرورة تدخل الجيش لوقف التدهور الحاصل فى البلد. وقرأت تصريحا نشرته إحدى الصحف على رأس صفحتها الأولى قال فيه أحدهم صراحة إن هذا هو الوقت المناسب للقيام بانقلاب فى البلد، وخلال اليومين الماضيين تحدثت الشائعات عن إقالة وزير الدفاع وبعض قيادات القوات المسلحة، فتسابقت الصحف (المستقلة) فى التنديد بالخطوة التى لم تحدث، فمن قائل إن ذلك بمثابة انتحار للنظام، وقائل بأن الوزير السيسى يمثل خطا أحمر يتعين عدم المساس به، ومحذر من أن الإخوان يلعبون بالنار مع الجيش. وذهبت إحدى الصحف إلى اختراع تصريح لمصدر عسكرى مجهول نقلت على لسانه قوله إن الجيش لن يسمح بتكرار سيناريو طنطاوى وعنان (المقصود المشير طنطاوى والفريق سامى عنان اللذان أحالهما الرئيس محمد مرسى إلى التقاعد). ووسط هذه البلبلة قرأنا تصريحا للمتحدث الرسمى باسم القوات المسلحة قال فيه إنهم لا يتعاملون مع الشائعات !
وإذ يفترض أن يحسم هذا التصريح المسألة، إلا أن ماكينة البلبلة لم تتوقف، والساعون إلى التحريض والتشويش لم يهدأوا، آية ذلك مثلا أنه إلى جانب العبث بملف الجيش والسلطة، فهناك لعب آخر يمارس بخبث شديد فى مسألة العنف، فمن ناحية، لا نكاد نجد إدانة لممارسة العنف الذى يوجه ضد المرافق العامة ومؤسسات المجتمع، وإنما لا تخلو الصحف من حفاوة بمظاهره واعتبارها من تداعيات معارضة النظام، ومن قبيل ممارسة التظاهر المشروع الذى يكفله القانون، متجاهلين أن المشروع هو التظاهر السلمى الذى له نظامه وحدوده. وأن رشق المؤسسات العامة ومحاولة إحراق مقار الحكم، وتعطيل شبكة المترو أو قف العمل بمجمع التحرير الذى تقضى فيه معظم مصالح الخلق ذلك كله يخرج عن المشروعية، ويعد من الجرائم التى يعاقب عليها القانون فى كل الديمقراطيات المحترمة.
فى الوقت الذى تتم فيه رعاية ومباركة العنف الذى يمارس ضد مؤسسات الدولة والمجتمع، ثمة حفاوة مبالغ فيها من جانب أى طرف يتطرق للموضوع ناسبا نفسه إلى الساحة الإسلامية. وفى إطار تلك الحفاوة تفرد صفحات الصحف لأى شخص ملتح يهدد بالقتل أو يتوعد المخالفين بالاغتيال.
وقد طالعنا قبل أيام حوارا مطولا مع مجهول يدعى أبوحبيبة، لا يعرف له شكل أو وزن، قال إن وراءه كتائب تحمل اسم (مسلمون) ويتحدث عن تصفيات ينتوونها وقوائم سوداء ضم أسماء (المتأسلمين والخونة من العلمانيين والليبراليين). وهؤلاء سيتم اغتيالهم إذا سقطت الدولة. كما تحدث عن تجسس على (النصارى) وخططهم لتقسيم البلاد. ووسط الحوار صورة مكبرة لأشخاص ملثمين يرتدون ثيابا سوداء ويحملون رشاشات، يفترض أنهم عناصر تلك الكتائب. وإلى جوارها صورة للسيد أبوحبيبة وقد ظهر بدوره ملثما وأمامه مدفع عرف به نفسه. وبدلا من أن يعد الكلام بلاغا للنائب العام للتحقيق فى صحة الأقوال وهوية الأشخاص المسلحين والدعاوى التى يطلقونها، فإن الجريدة هللت للكلام واعتبرته (انفرادا).
ذلك واحد من عشرات النماذج الأخرى التى جرت فيها الحفاوة بدعوات العنف، وتقديم الذين يباشرونه بحسبانهم مناضلين ومخلِّصين. وقد تابعنا قبل حين مظاهرة التهليل التى قوبلت بها فرقة الملثمين الذين انتحلوا اسم (بلاك بلوك)، وكيف أن بعض البرامج التليفزيونية استضافت عناصرهم، رغم ما نسب إليهم من مظاهر للعنف، الأمر الذى يفترض أن يسوقهم أمام العدالة، لا أن يحولهم إلى ضيوف ونجوم فى التليفزيون.
الملف الثالث الذى يتجلى فيه خطاب التحريض والبلبلة يتمثل فى الدعوة الملحة إلى العصيان المدنى، التى قيل إنها لقيت استجابة فى بورسعيد، أغلب الظن بسبب الحكم بإعدام 21 شخصا من أبناء المدينة الذين أدينوا فى مذبحة ستاد المدينة. ورغم أن الدعوة فشلت فى الإسكندرية إلا أن الصحف الصباحية مازالت تدعو إليها، وتلح وتؤكد على أن ثلاث محافظات أخرى على (خط العصيان) هى كفر الشيخ والغربية والدقهلية.
ماكينة البلبلة مستمرة ولا أعرف إن كانت تلك مجرد مصادفات أم أن فيها شيئا مرتبا، لكن الذى أعرفه وألمسه أن أحدا من الذين يحركون تلك الأحداث ليس مشغولا ببناء أى شىء فى البلد، وأن ذلك كله يصب فى وعاء الثورة المضادة، شاء هؤلاء أم أبوا.