في مدونتي التي ضاعت -وفشلت حتى الآن محاولات استرجاعها- كتبت مقالا عن "الكتابة للحظة والكتابة للتاريخ"، خلاصته أن الكتابة للحظة تأتي هادئة وناصحة وتراعي الموقف وتختار أرق العبارات، ولكن صلاحيتها قصيرة، وفاشلة تماما في المستقبل إذا أريد التعرف على حقيقة الأمور، بينما الكتابة للتاريخ تضر بالمصالح الحالية للكاتب وتأتي زاعقة وصارخة ولا مبالية بالحسابات اللحظية، ولكنها تصف الواقع بصدق، وتظل صلاحيتها التاريخية طويلة ممدودة.
أقدم المقال بهذه العبارة لأصارح القارئ بأنه إذا كان غير مستعد ليسمع كلاما لا يريحه فعليه أن ينصرف عن المقال مأجورا ومشكورا..
***
الأفكار لا تموت، ولكن الكيانات كلها تموت، ولكل كيان عمر، وهو يمر بمراحل الولادة والفتوة والكهولة.. ثم الموت.
هكذا كانت الحضارات والامبراطوريات والدول والمؤسسات والهيئات والأفراد.. ومن ظن أنه فوق هذا القانون البشري التاريخي الكوني فهو يعيش في خيال ساذج!
بقيت الأديان والأفكار والمبادئ والفلسفات، ولكن الكيانات البشرية التي حملتها تعرضت بعد فترة دامت أو قصرت إلى الفناء.. ومن ظواهر التاريخ ما أسميه "سلسلة حياة الأفكار" (ربما ييسر الله أن أكتبها قريبا في دراسة) وهي كالآتي:
تموت الفكرة مع موت حاملها إذا لم تغادر شخصه.
فإن صنع له تلاميذ فهي تموت مع موت آخرهم، وبهذا يطول عمرها قليلا.
فإن صنع لها هيئة أو مؤسسة أو جماعة أو حركة فهي تعيش فيما بين الثلاثين والمائة عام تقريبا.
فإن استطاعت الهيئة أو المؤسسة أو الجماعة أو الحركة أن تصنع لها دولة فهي تستمر مئات الأعوام بحسب ظروف كثيرة تخضع لها وتتأثر بها.. وهذه الهيئة أو الجماعة أو الحركة إذا لم تستطع تكوين الدولة في خلال ثلاثين سنة من عمرها في المتوسط فهي لا تستطيع أن تفعل ذلك فيما بقي من أعمارها.
في كل هذه الحالات تكون البداية بمؤسس قوي وشخصية فذة، وتكون النهاية على يد شخصيات أضعف كثيرا.. وأهم ما في الأمر أن الحركات الجديدة يصنعها في العموم شباب صغير ويقاومها شيوخ كبار، وفي العموم ينتصر الشباب ولا يستطيع الكهول مواجهة تيار الزمن الذي يتجاوزهم.
ما أريد التركيز عليه في هذا المقال بكل الوضوح هو: قرارات اللحظة الأخيرة..
في نهاية أعمار الكيانات يتخذ أصحابها قرارات مؤثرة، قليلون هم من أدركوا لحظة الزمن فاتخذوا قرارات جعلت نهايتهم مشرفة ورائعة، وكثيرون اتخذوا القرارات التي ساهمت في انحدارهم أكثر وأكثر وتسريع النهاية.
***
في مصر الآن حركتان مهمتان وقضية مهمة، أما الحركتان: فالإخوان المسلمون، والسلفيون، والقضية المهمة هي انتخاب رئيس للجمهورية.
الإخوان المسلمون عمرها الآن ثلاثة وثمانون سنة، وعلى رغم ما يبدو ظاهريا من أنها توشك على التمكين إلا أن النظرة الفاحصة تقول أنها في آخر أيامها كحركة، وسيكتب التاريخ أنها أعطت كثيرا للعمل الإسلامي في فترات حرجة ولكنها فشلت في هدفها النهائي (تحرير البلاد الإسلامية وإقامة الخلافة وأستاذية العالم).. والفشل بحد ذاته أمر لم يدركه كثير من المصلحين الكبار الأفذاذ، ومنهم من يعذر ويقدر، وهو في كل وقت يُجلُّ ويُعظَّم.. والتاريخ مليء بالنماذج ولكن حسبنا أن نتذكر أمثال: جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، رشيد رضا، عز الدين القسام، عمر المختار.. وغيرهم!
الإخوان منذ سنوات تلفظ خيرة أبنائها، وتقدم الثقة على حساب الكفاءة، وكثير من علامات نضج المؤسسات كالشفافية والمؤسسية والتواصل بين القيادة والقاعدة وصلت إلى حد سيء تماما، وأضف إلى ذلك تعصبا ظاهرا واستعلاء وإيمانا بالقيادة وقراراتها إلى حد التقديس.
لا يهمني الآن إلا القول بأن قرار الجماعة دعم مرشح غير إسلامي قد يكون أول قرارات اللحظة الأخيرة التي تسرع بنهاية الكيان وتساهم في انتثار آخر العناصر التي بقيت في الجماعة بغرض الإصلاح من الداخل والتي ما زال بها شيء من استقلالية الرؤية والفكر والقرار.. ذلك أن دعم مرشح غير إسلامي يضرب أساس الأفكار التي قامت عليها الجماعة، ولا يتفق مع أبسط أصولها في كلام البنا وعامة منظري الجماعة من لدن عبد القادر عودة وسيد قطب وصولا إلى القرضاوي الذي أعلن بوضوح أن عدم دعم المرشح الإسلامي "إثم"..
وكاتب هذه السطور يعلم أشخاصا بأعينهم، وليس عددهم بالقليل، ينتظرون قرار الجماعة هذا، فإن كان بدعم مرشح غير إسلامي فهم سيتركونها بلا تردد..
ينبغي على الجماعة أن تلتمس آراء صفها الداخلي، لا سيما ونحن نطالع منذ حوالي السنتين ظاهرة تنتشر وتكشفها مواقع الانترنت، مثل الشباب الإخواني الذين ينشئون الصفحات التي عنوانها "أنا إخوان وسأفعل كذا" وتكون "كذا" هذه هي عكس قرار الجماعة، لعل أشهرها صفحة "أنا إخوان ونازل يوم 25 يناير" والآن صفحة "أنا إخوان وسأنتخب مرشح إسلامي".
***
أما السلفيون ففرصتهم في اللحظة التاريخية أفضل بكثير من الإخوان، لا سيما وهم ليسوا بالتنظيم التقليدي الذي اتخذ أنماطا لا يستطيع تغييرها، بل هي مجموعات ملتفة حول الشيوخ، والشيوخ قد يجتمعون في هيئات ملزمة تنحو نحو التنظيم (كالدعوة السلفية) أو تحاول أن تصنع نواة لهيئات ملزمة (الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح) أو هيئات أخرى لمجرد التشاور والتنسيق بغير إلزام.
في قضية مرشح الرئاسة في الوضع الحالي، لا يبدو أحد مناسبا ومعبرا عن الأفكار الإسلامية التي يعتنقها الإسلاميون مثل الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل.. فالمرشحون غير الإسلاميين خارج دائرة تفكير الشباب السلفي، والمرشحون "الإسلاميون" كأبو الفتوح والعوا عليهم مآخذ غير هينة من وجهة نظرهم..
ولئن كانت الفرصة أمام الإخوان في دعم واحد من هؤلاء الثلاثة، فالفرصة أمام السلفيين أضيق كثيرا ولا تتسع إلا لحازم أبو إسماعيل..
ثمة تسريبات عن شخصيات أخرى يحاول البعض ممن لا يوافق على ترشيح حازم أبو إسماعيل طرحها للنقاش والترشح، في الحقيقة يبدو الوقت وكأنه قد مضى تماما، أو "فاتكم القطار" بتعبير علي عبد الله صالح الذي كان قد فاته القطار بالفعل!
لقد استطاع حازم أبو إسماعيل في الشهور الماضية أن يحقق معادلات صعبة بكفاءة عالية، ليس أولها ثباته وتمسكه بأفكاره مهما كانت صادمة للتيار العلماني الذي يسيطر على الإعلام، وليس آخرها كفاءته السياسية التي ظهرت في تحليل الواقع السياسي المصري!
وحيث أن الهيئات السلفية حتى الآن لم تتخذ قرارا ولم تخرج بمرشح يمكنه منافسة ما فعله أبو إسماعيل في اللحظة التاريخية الفارقة، فإن قرارا بدعم مرشح غيره سيكون من قرارات اللحظة الأخيرة التي تودي بهذه الهيئات التي كادت أن تستقر أو تكاد أن تلتئم وتتماسك!
السلفيون –من حيث التنظيم- كيان غير خاضع للتوجيه، وهو –لعوامل عديدة، ليس كلها جيدا- حاد في خلافاته ومواقفه، وما لم يُتخذ القرار الواضح الذي ينسجم مع أفكاره ومبادئه التي تجمعه على اختلاف مشايخه فسيكون رد الفعل هو سقوط الشيوخ، مع بلبلة واضطراب في الصفوف وإعادة تشكل لموازين الشيوخ.. ومن يطالع خريطة الشيوخ المؤثرين فيما قبل الثورة يعرف تماما أنها اختلفت بشكل كبير عن خريطة المؤثرين فيما بعد الثورة.
لعل الله يوفقهم في هذا القرار.. والتاريخ سيكتب عما قريب
***
في استطلاعات الرأي العامة انحصرت منافسة الرئاسة بين أبو الفتوح وأبو إسماعيل، كلاهما إسلامي، وكلاهما معروف بمواقفة المناهضة للمجلس العسكري.. ليس من الحكمة أبدا معاندة هذا التيار الشعبي.
الرئيس القادم ليس أي رئيس، ذلك أنه إما سيعمل على تحرر البلاد حقا أو سيعمل على إعادة تطويعها وإدخالها في المسار القديم مرة أخرى.. رئيس ما بعد الثورة هو الرئيس الذي يستطيع الاستناد إلى قوة شعبية ضد موازين قوى عالمية في غير صالحه، وهو نفسه إذا انتخب في لحظات عادية فلن يستطيع تحقيق ما يمكن تحقيقه في هذه الفترة.
التاريخ سيكتب قريبا، وسيحكم على الجميع.. ولا نحب لأحد أن يقول: ولات حين مندم!
***
القارئ الكريم.. إن وصلت إلى هذا السطر ورأيت المقال مفيدا فأرجو المساهمة في توصيله لمن تستطيع.. شكر الله لك وغفر لي ولك
[1] باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية، مدونة "المؤرخ"
http://melhamy.blogspot.com
تويتر @melhamy