شاهدت قبل يومين فيلما وثائقيا عن "مسجد الشيخ زايد" لقناة "ناشونال جيوجرافيك".. عمل مبهر رهيب يداعب الخيال ويجمع زينة البناء وعجائب العمارة..
إلا أن ثمة موضع التباس ينبغي تحريره.. وخلاصته هي:
الحضارة لها جانبان: الجانب الروحي القيمي الأخلاقي والجانب المادي بتجلياته في السياسة والعمران والاقتصاد والأنظمة… إلخ.
وللحضارة الإسلامية خصوصية تنفرد عن غيرها من الحضارات متمثلة في أن "عصرها الذهبي" و"ذورتها العليا" قد حددت بنص من الوحي وهو "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم"، فعلمت الأمة أن لحظة الذروة للحضارة الإسلامية هي في عصر النبي والخلافة الراشدة وصدر الدولة الأموية..
والمعنى المباشر لهذا التحديد هو اليقين بأن الجانب الأخلاقي القيمي الروحي مقدم على الجانب المادي، إذ لم تكن الإنجازات المادية المبهرة في تلك القرون بل لقد جاءت في العهود التالية.
لكننا حين نتكلم عن عظمة الحضارة الإسلامية في المجال المادي فإننا نستعرض قصور الملوك والأمراء وعمائر البلدان وآثارها وإنجازاتها العلمية كنوع من استعراض إبداع المسلمين في عمارة الأرض وسياسة الحكم وابتكار الأنظمة ونحو ذلك.
ويزيدنا اندفاعا وتوضيحا لعظمة ومآثر تلك العمائر والآثار ما نشأنا عليه من ظلم للمسلمين وهضم لتاريخهم وحضارتهم سواء من المستشرقين أو من أتباعهم العلمانيين في بلادنا.
نعم، قد يكون الملك -الذي قد يكون ظالما- قد بنى مسجدا أو قصرا أو مدرسة أو غير ذلك من المباني ليخلد اسمه وذكره.. وقد نمر على هذا البناء فنصف عظمة العمائر ونثني على الإبداع الفني والهندسي، ونكون قد خَلّدنا بهذا سيرة الملك الظالم التي أرادها حين فعل هذا.
إن كل ملك يحب أن يخلد ذكره ويبقى أثره في العالمين.. لكن ثمة فارقا دقيقا يجب الانتباه إليه هاهنا..
إنه لا يسعنا أن نضع مسجد الشيخ زايد ضمن سلسلة الحضارة الإسلامية، ذلك أن الفريق الذي أبدعه إنما هم أجانب غير مسلمين، وإن عمل فيه بعض المسلمين في المتابعة والتخطيط وفي الأعمال اليدوية.. إنه -في جوهره- تعبير عن الحضارة الغربية التي نفذت حتى نقوشه الفنية الإسلامية.
إنه يصلح أن يكون مأثرة للملك لكن لا يصلح أن يكون من إبداعات الحضارة الإسلامية.. وهو -لهذا- أمر لا يُفخر به ولا أحسب أن التاريخ الحضاري الإسلامي سيسجله في أوراقه.
***
وما سبق إنما هو حديث الجانب المادي الحضاري وحده، بخلاف محاكمة هذا العمل للجانب الروحي القيمي الإسلامي الذي يرفض الإسراف والتبذير بالعموم فكيف إذا وُجِد الفقير واللاجئ والمحتاج في الأمة وهو أولى بهذا المال وبالرعاية؟! بل الإسلام يرفض زخرفة المساجد أصلا لئلا تخرج عن كونها مكان بساطة وخشوع وإقبال على الله فكيف وهذا المسجد أقرب إلى المتحف والقصر منه إلى المسجد، وهو حافل زاخر بزخرفة الدنيا وعجائبها حتى ما أحسب أنه يبقى للقلب فيه خشوع ولا إقبال على الله إذ الطرف حائر بين هاتيك الطرائف والفرائد؟!
ومما يلقي في النفس موعظة وعبرة أن صاحب المسجد مات قبل أن يكتمل بناؤه ويرى بنفسه أثره الذي أراد به المفاخرة وخلود الذكر في الدنيا.. وذلك مما يجبر المرء على المقارنة: ماذا لو أنه أنفق كل تلك الأموال في عمل الخير، أفلم يكن هذا خير له فيما يستقبل من أمر الآخرة؟!!!
[1]باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية، تويتر @melhamy