١١ نوفمبر ٢٠١٢ – آوريش – مستشفي (أوپو إيميوس)
يوم آخر من المناوبات ، ليلة أخرى من العمل الشاق في استقبال طوارئ الباطنة
هذه الليلة من أشق الليالي منذ بدأت العمل هنا ، سيل المرضي المتدفق لا ينتهي ، حالات الالتهابات الرئوية وهبوط القلب تحتل القائمة بنسبة كبيرة
تخبرني الممرضة (إيلونا) أن المريض الذي يرقد بغرفة (الصدمات) لديه مخطط رسم قلب مرضي ، أسرع إلي الرجل الذي تتلاحق أنفاسه ويشتكي من إحساس غير منتظم بضربات قلب بطيئة
نظرة واحدة علي جهاز المراقبة الذي يرسم خطوط رسم القلب اللحظية يكفي لتدرك مشكلة الرجل ، هذه حالة من اضطرابات كهرباء القلب من الدرجة الثالثة حيث تفشل أحد مراكز توزيع توصيل نبضات القلب الكهربية في عملها مما ينتج خللا عظيما في ديناميكية الدورة الدموية
الرجل يصاب بحالات الإغماء المؤقت وينبغي علي بصورة عاجلة أن أتواصل مع قسم الرعاية الفائقة ومن ثم منظم ضربات القلب المؤقت حتى الصباح حيث يمكن تثبيت منظم ضربات قلب جديد للمريض
يتطلب الأمر قليلا من الأوراق التي لا يسمح النظام الألماني بتجاوزها ، أوراق ، إمضاءات وموافقات ، العادة أن المرضي يوافقون علي الإجراءات الطبية ويعطون توقيعاتهم الكتابية كذلك
لكن السيد (يانسن) يخبرني أنه يوافق علي هذا الإجراء فقط إذا تم بصورة سريعة تسمح له بالمبيت في منزله الليلة وهو ما يستحيل بالطبع
أحاول إقناع الرجل بخطورة حالته وبضرورة نقله حالا إلي وحدة الرعاية الفائقة فيعيد علي كلامه بأنه لابد له من المبيت الليلة في منزله
الحقيقة أنني كففت عن المضي قدما في محاولة إقناع الرجل حين اعتدل ثم تحدث إلي بصورة ودودة قائلا برفق وأدب جم : هر دكتور ، زوجتي امرأة مريضة وهي مقعدة لا تستطيع الحركة وهي من فئة (الرعاية التمريضية الثالثة) وأنا المخول رسميا برعايتها ، هذه الليلة لا يمكن لي المبيت هنا دون تجهيز من يرعي أمرها في الأيام المقبلة
أقاطع الرجل ببيان أن حالته الصحية قد تؤدي به إلى موت مفاجئ
يصر الرجل على المضي قدما في حديثه قائل برفق حازم ينهي النقاش : عذرا هر دكتور لا يمكنني تركها وحدها !
حديث الرجل الألماني الدافئ والمليء بالمشاعر الدافئة جعلني أتردد قليلا ثم أنطق وأنا أشيح بوجه متردد عنه ، حسنا سيد يانسن ، أحييك علي هذا الدفء تجاه زوجتك لكني مضطر للحصول علي توقيعك بأنك ترفض النصيحة الطبية بالبقاء في المستشفي وأنك تتحمل المسئولية القانونية لخروجك دون علاج
يسرع الرجل موقعا علي الأوراق التي سارعت الممرضة بإحضارها لاستكمال الملف التمريضي
أصافح الرجل الذي بدأ في ارتداء ملابس الخروج ثم تحين مني التفاتة نحوه وأنا علي وشك المغادرة مضيفا : عذرا سيدي ، لكن لابد من أن يقلك أحدهم إلي البيت ، لا تستطيع قيادة سيارتك بعد اليوم ، مضطر أن أكتب توصية طبية بذلك
يبتسم الرجل وهو يهز رأسه في تفهم
الممرضة (هايكة) تبتسم وسط صالة الاستقبال الواسعة مشوحة ببضعة أوراق في يدها : ما بال رجال المدينة هذه الليلة ؟
أشير لها بيدي مستفهما فتجيبني في دهشة : المريض الآخر المصاب بالالتهاب الرئوي ودرجته حرارة تقترب من الـ٣٩ رفض هو الآخر الإقامة في المشفي ووقع علي العودة إلى المنزل ضد النصيحة الطبية !
أبتسم وأنا ألتقف الأوراق من يدها قائلا : لديه زوجة مريضة هو الآخر !
تجيب : ولا يمكنه تركها وحيدة دون رعاية ، تتسع ابتسامتي فيما تقول (هايكة) في دهشة متزايدة وبصوت يسمعه كل من في الاستقبال : رجال مجانين
لازالت ابتسامتي تتسع فيما يزداد دفء المكان من حولي
——————
٥ يناير ٢٠١٣ – قسم أمراض الكبد والجهاز الهضمي – آوريش – مستشفي (أوپو إيميوس)
يتقدم الممرض (داني) ورفقاؤه من أعضاء طاقم التمريض بشكوى مكتوبة ضد أقارب السيد (كارل) مريض الغرفة الخامسة
الحقيقة أنني في غني عن هذا الصداع المقيت وصراع (هو اللي ضربني الأول) فالقسم يمتلئ عن آخره بالحالات التي تحتاج إلي كل دقيقة في ساعات اليوم الملئ بالمتاعب
يقول (داني) أن زوجة السيد (كارل) وابنته يمنعونهم من القيام بعملهم علي نحو جيد وأنهم يتدخلون في العمل الطبي وغير راضيين عنه ، فيما تصر الابنة والزوجة أن طاقم التمريض يتعامل بعنف مع المريض المقعد وأن المريض أصبح يكره ويخشي الوقت الذي يقوم به الممرض بتنظيف أماكن قرح الفراش المزمنة أو حتي تغيير ملابس المريض
تصر الابنة أن الممرض ينزع (ضمادات الجروح) بعنف بالغ وأنها طلبت كثيرا أن تتولي هي هذه المهمة بنفسها وهو مارفضه (جونتر) رئيس التمريض بقوة قائلا : طالما ظل هذا المريض هنا فهو مسئوليتنا الكاملة وإذا أحبت هي أن تفعل ذلك فعليها أن تصطحب والدها إلي مكان آخر
وفيما أشار هو بيده مادا ذراعه نحو الخارج بكل صرامة في تعبير عن مدي صلابة قراره ، ترقرقت من عيني الابنة دموع جعلت تخفيها في طريقها إلي خارج غرفة التمريض حيث جري النقاش الدامي
في حوار لاحق أخبرتني الزوجة : أنا أعلم أن التمريض أصبح يضيق بـ(كارل) وبمرضه المزمن كثيرا ، أنا أرافقه في مرضه منذ عشرين عاما وقد خبرت مثل هذه المشاكل كثيرا ، انحدرت دموع العجوز السبعينية وهي تربت بحنان علي وجه الزوج المريض المصاب بشلل تام ، أضافت وهي تنقل عينيها المغرورقتين بدموع نحوي : صدقني ياسيدي أنا لم أمل بعد كل هذا العناء وتلك السنين ولازلت أتمني أن أبقي إلي جوار زوجي ، قد يبقي هو جثة هامدة بالنسبة للسيد (جونتر) لكنه يعني لي الكثير من اللحظات الجميلة
خرجت من الغرفة وأنا أقلب النظر في ملف الرجل المليء بالمستحيلات الطبية التي تعيقه عن الحركة والكلام وسائر مايقوم به البشر ، الحقيقة أنه فعلا ليس إلا جثة هامدة لكن الزوجة حسمت الأمر في (اللحظات الجميلة) التي لاتزال تذكرها
بعد أيام قابلت لحظة دخولي علي باب القسم زوجة السيد (كارل) وابنته وهما ينتحبان في صمت ، توقفت متسائلا فأجابتني الزوجة بوجه مليء بالدموع : الآن يمكنني أن أموت (هر عبدالعاطي) ، لقد مات كارل ولم يعد هناك ماأود رعايته ، أضافت العجوز وهي تنتحب : لقد رحلت لحظاتي الجميلة للأبد هر دكتور
بعد دقائق كنت أوقع علي نسخ شهادات الوفاة المتعددة التي لابد من إقرارها وفقا لقانون ولاية (نيدرزاكسن) ، الحقيقة أن ألوان النسخ الثلاثة ، الورقة الحمراء ومثيلتيها الخضراء والصفراء جعلتني أتساءل كثيرا عن كون هذه الألوان هي لحظات السيدة كارل الجميلة
————————-
٦ يناير ٢٠١٣ – قسم أمراض الكبد والجهاز الهضمي – آوريش – مستشفي (أوپو إيميوس)
بالطبع لم أحب تلك السيدة المتأنقة والتي تجلس في اعتداد واضعة إحدي قدميها فوق الأخري وهي تشير بطرف يديها في لامبالاة قائلة : بالتأكيد لانريد لانحن ولا هو أي عمل علي إطالة الحياة ، ثم التفتت إلي صديقها الذي يجلس في المقعد المقابل فرد بدوره مؤكدا علي كلمتها : بالطبع
ليست لدي مشكلة في كونها تضع أحد قدمين علي الأخري فهذه ثقافة غربية تعودت عليها ولاتحمل أي نوع من الاهانة كما يظن المصريون ، وليست لدي مشكلة كذلك في كونها لاتريد أي من معايير إنقاذ الحياة أو إطالتها لوالدها المريض ، هذا شيء تعودت عليه وفقا للقانون الألماني الذي يمنح العائل والراعي القانوني هذا الحق كما في مثل هذه الحالة
الأب مصاب بأمراض عديدة تجعله غير قادر علي النطق أو الحركة وبالتالي فالابنة تقرر له قانونا ماينبغي عمله حتي فيما يتعلق بوضعه علي أجهزة التنفس الصناعي أو عدم الانعاش
تشير الابنة ناحية الأب الذي تم إجلاسه علي كرسي وقد تدلت رقبته علي كتفه فيما تدلي اللعاب من أحد شدقيه ، تقول وهي ترفع أصابعها في لامبالاة : أنت بالتأكيد لاتريد له أن يبقي علي هذه الحالة
هممت بمغادرة الغرفة بعد توقيع الأوراق اللازمة من تلك السيدة المتأنقة اللامبالية إلا أنها قاطعتني قائلة : أنا كذلك أتساءل عن إمكانية إعادته إلي دار المسنين حيث يقطن مرة أخري !
أجبتها : لكنه قدم لدينا توا بالأمس ! ولديه كذلك هذه الالتهابات التي حدثتك عنها
ردت وهي تهز رأسها وكتفيها : لديه هذه الالتهابات دائما ولاأعتقد أنه سيصل إلي تحسن قوي
أجابت بحزم : يمكنني أن أوقع الأوراق اللازمة إذا أردت
خرجت من الغرفة في محاولة لاستنشاق بعض من الهواء بعد أن خنقتني السيدة المتأنقة بحديثها وأنستني دفء السيد (كارل) وزوجته بالأمس
بالنسبة لي ليست هذه المرة الأولي التي أستقبل فيها مثل هذه الشخصيات ، لكنها بالفعل أقساها
إنها حتي أقسي بالنسبة لي من تلك السيدة التي هاتفتها أسألها عن امكانية اعادة انعاش والدتها المسنة والتي قدمت لنا في حالة سيئة للغاية تحتمل اللجوء لإعادة الإنعاش أو العناية الفائقة والتنفس الصناعي ، أجابتني السيدة دون تردد : لاإنعاش ، ثم أضافت بانجليزية وكأنها خشيت من كوني أجنبيا لن يفقه المعني بالألمانية
Do not resuccitate!
منذ ذلك الحين لم تعد تدهشني تلك الشخصيات ، لكن قسوة السيدة المتأنقة كانت ذات أثر سيئ للغاية علي نفسيتي المثقلة منذ قليل بدفء من الوفاء الذي أقابله هذه الأيام
أنهيت أوراق نقل الرجل المريض ووقعت كذلك علي (تذكرة النقل) إلي دار المسنين بصفتي طبيب القسم المسئول
خرجت السيدة المتأنقة من الغرفة تتأبط ذراع صديقها في سعادة ، هتفت لنا في جذل : تشوووسي
عند مدخل القسم مالت علي فم صديقها بقبلة ثم تأبطت ذراعه مرة أخري ووجهها يمتلئ بابتسامة فيما يبدو تبادلا لعبارات حميمة
تلك عادة ألمانية أخري ألفناها كذلك
——————
٢٠ يناير ٢٠١٣ – قسم أمراض الكبد والجهاز الهضمي – آوريش – مستشفي (أوپو إيميوس)
عزيزي مصطفي صفوت
بالطبع أحسدك الآن علي كونك طبيب تخدير لايتنقل بين أقسام الباطنة المختلفة ليشاهد كل المآسي التي تفعلها الأمراض في أنظمة الجسد المختلفة
الليلة الماضية كنت الطبيب المناوب في قسم الطوارئ وقد قمت بمعالجة شاب في عامه التاسع عشر وقد أتي مخمورا بعد تناوله للكثير من الڤودكا بتركيز كحول ٤٠ ٪ كما تعلم
العادة أننا نحرص علي تغذية الجسد بالكثير من السوائل المختلفة والحذر من انخفاض نسبة السكر بالدم ، قليل من الـ(ديازيبام) قد يفيد أيضا في وقاية أعصاب المريض وفي حمايته من نوبات صرع متوقعة أحيانا
الشاب المخمور وبعد أن وضعناه في سريره غافلنا وقفز من سريره مخمورا يثعب دما من أثر ثقب يده بالـ(كانيولا) اللازمة لتغذيته بالأدوية الوريدية
تتبعت مع الممرضة (إيلي) قطرات الدم حتي الدور الأول ثم صعودا في أحد المصاعد وانتهينا إلي أنه خرج من بوابة المستشفي
هاتفت الشرطة التي أتت لنا فيما ارتديت معطفا ثقيلا وخرجت أبحث عن المريض المخمور الهارب
بالطبع فإن عتمة الرابعة فجرا تجعل من الأمر صعبا للغاية ، طلبت من (داني) الممرض أن يلحقني وقد أسرع هو كذلك بارتداء معطف ثقيل وجعلنا حتي السادسة نبحث بصورة متوازية عن الشاب الذي قرر أن يخرج حافي القدمين مرتديا قميصا رقيقا للغاية في درجة حرارة تبلغ السابعة تحت الصفر
يسألني الشرطي عن المخاطر المتوقعة من هروب ذلك المريض ، أجيبه في ذعر حقيقي : كل المصائب التي ينبغي الحرص علي ألا تحدث يمكن أن تحدث ، انخفاض درجة حرارة مميت ، قرصة برد قاتلة ، هبوط قلب وانخفاض مميت في كمية السوائل بسبب النزيف ، انخفاض نسبة السكر وحرمان قاتل لخلايا المخ من السكر ، كل هذا يمكن أن نتلافاه في مراحله الأولية لكن مراحله المتقدمة يمكن أن تجعلنا نفقد الشاب الغض
الشرطي بدا مذعورا رغم أسلحته وكشافاته القوية لكنه أضاف في حنق : تبا لأولئك المخمورين الذين يتجولون عراة وسط الجليد
فيما بعد رجعت أنا والممرض إلي طاقم التمريض الذي أخذ يتساءل في لهفة عن مصير الشاب المخمور ، الحقيقة أن كون (مناوبي التمريض الليليين) من كبار السن يجعلني أحب أن أستكشف رؤيتهم لهذه الأحداث ، والحقيقة الصادمة أن الألمان رغم عدم اعتراضهم علي الخمر والكحوليات بشكل شرعي مثل اعتقادنا نحن المسلمين إلا أنها لازالت لديهم من الرذائل التي لاينبغي أن يقدم عليها الـ(عاقلون) ، نعم هم يشربون في بعض الأحيان إلا أن (الخمورجي) يبقي شخصا غير محبذ بالنسبة لهم
بالأمس وفي طريق عودتنا إلي المستشفي بعد عثورنا علي الشاب الهارب ، التفت (داني) إلي رجل مخمور لامأوي له يجلس أمام المستشفي منذ سنين ويدعي (لوبو) قائلا في سخرية واضحة : احرص علي ألا تفقد عقلك أنت أيضا يا لوبو ، انطلق داني يضحك بعدها فيما جعل لوبو يبادله الضحك وهو يقول : لقد فقدت عقلي لكني لم أفقد طريقي بعد ، في إشارة للشاب الهارب
عزيزي مصطفي صفوت
بمناسبة حوارنا السابق عن (إنسان العتمة الباهرة) ، هاقد حكيت لك عنه مرة أخري ياصديقي
وتأكدت لدي قناعتي السابقة
لايمكنك أن تجعله دكتور جيكل أو مستر هايد
يبقي إنسانا مثل كل من نقابلهم ، بعضهم دافيء والآخر بارد ، يكثرون ويقلون
لكنهم لايخرجون عن انسانيتهم التي خلقهم الله عليها وإن ضلوا الطريق
وسط العتمة الباهرة