علق الكاتب البريطاني، ديفيد هيرست، على جريمة إعدام الاحتلال الإسرائيلي للصحفية شيرين أبو عاقلة، مشددا على أن الغرب لا يمكنه غسل عار التواطؤ مع “إسرائيل”.
وأضاف هيرست في تقرير على موقع “ميدل إيست آي“، أنه بينما يبحث الإسرائيليون عما يبررون به جريمتهم، تلتزم الولايات المتحدة وبريطانيا الصمت المخزي، والمثير للانتباه فإن السفارة الأمريكية سارعت إلى دعم الرواية الكاذبة لجيش الاحتلال حول كيفية وقوع الحدث.
وتابع بأن البلدان التي تدعي الوقوف في جانب الحق ردا على جرائم الحرب الروسية في أوكرانيا، ستقابل جريمة إعدام شيرين أبو عاقلة الفلسطينية بصمت مطبق، كما حصل في حالات سابقة.
وشدد على أن الفلسطينيين لن يصمتوا على ذلك، فخلال دقائق من إعلان وفاتها في المستشفى، حملت الجموع الفلسطينية جثمان شيرين أبو عاقلة، وطاف به حاملوه من كافة الفصائل في شوارع جنين، لا تفرقهم الانتماءات الدينية، بل وقف المقاتلون المسلمون يدعون لها في جنازة مسيحية.
وتاليا النص الكامل للمقال:
منذ شهور ومرجل الثورة يغلي داخل الضفة الغربية المحتلة. لم تعد السلطة الفلسطينية تملك السيطرة على جنين، وقد وحدت الاجتياحات الإسرائيلية الليلية جميع الفصائل.
كما أصاب العجز جهاز المخابرات الداخلي الإسرائيلي الشين بيت، بينما باتت الهجمات المسلحة على الإسرائيليين من فعل فلسطينيين لا يرتبط أحدهم بالآخر ولا بأي من المجموعات المسلحة المعروفة.
ثمة جيل جديد من الفلسطينيين، كثير من أبنائه لم يكونوا قد ولدوا بعد حينما اندلعت الانتفاضة الأولى والانتفاضة الثانية، إنه جيل على استعداد لخوض غمار القتال، لا يوجد ما يخيفه، ولا يوجد من يقوده.
لا يوجد ما يثبت أن هذه الهجمات ناجمة عن عمل منظم أو منسق، ويبدو أن العامل المشترك فيما بينها هو السخط من الاحتلال وتنامي رفض التعايش معه.
لم يعد هناك وجود للدورة المتكررة للقتال الذي ما يلبث أن تنطفئ جذوته عندما تحرق المعركة نفسها أو عندما يصدر الإسرائيليون مزيداً من تصاريح العمل للعمال الوافدين، وبذلك تعود الحياة إلى ما كان يعتبر وضعاً طبيعياً في هذا الجزء من العالم.
الوضع مختلف هذه المرة. فثمة جيل جديد من الفلسطينيين، كثير من أبنائه لم يكونوا قد ولدوا بعد حينما اندلعت الانتفاضة الأولى والانتفاضة الثانية، إنه جيل على استعداد لخوض غمار القتال، لا يوجد ما يخيفه، ولا يوجد من يقوده.
ولكن حتى هذا اليوم لم يكن يوجد لهذا الجيل اسم ولا وجه ولا رمز يقوده، أما الآن فقد تحقق له كل ذلك في شخص امرأة فلسطينية اسمها شيرين أبو عاقلة.
وشيرين أبو عاقلة صحفية تعمل مراسلة لقناة الجزيرة منذ سنوات طويلة، كانت قد وفدت مع مجموعة من الصحفيين إلى موقع قريب من دوار خارج مخيم جنين يوم الأربعاء. اجتمعوا هناك، كما هو ديدنهم في معظم الأيام، لتغطية مداهمة لمخيم جنين وما يتبعها في العادة من تبادل لإطلاق النار داخل ممرات المخيم بين القوات الإسرائيلية والمقاتلين الفلسطينيين.
الموقع الذي شهد إطلاق النار مهم، وذلك أن الصحفيين كانوا يقفون بجوار الدوار الذي لا يجرؤ المقاتلون الفلسطينيون على الاقتراب منه لأنهم لو فعلوا فسيكونون في مرمى النيران بلا حماية. تواترت روايات الشهود على أن تبادل إطلاق النار داخل الممرات كان بعيداً عن المكان الذي تواجد فيه الصحفيون.
رواية شهود العيان
وكما اتضح من رواية شاهد عيان سردتها لموقع ميدل إيست آي الصحفية شذا حنايشة، التي كانت بالقرب من شيرين أبو عاقلة عندما أصيبت، عرّف الصحفيون أنفسهم لدى القوات الإسرائيلية قبل عشر دقائق من التحرك أعلى التل باتجاه المخيم. لم تطلق رصاصات تحذيرية. أصيب زميلها منتج الجزيرة علي الصمودي في ظهره، وانحشرت كل من شيرين أبو عاقلة وشذا حنايشة في الجانب الآخر من الطريق، تسندان ظهريهما إلى الجدار الذي به تحتميان من وابل الرصاص المنهمر عليهما.
تقول شذا حنايشة: “في تلك اللحظة اخترقت رصاصة رقبة شيرين، فسقطت على الأرض بجواري. ناديت عليها، ولكنها لم تحرك ساكناً. وعندما حاولت مد ذراعي نحوها، انطلقت رصاصة أخرى باتجاهي، مما اضطرني إلى البقاء خلف شجرة، وتلك الشجرة هي التي أنقذت حياتي لأنها كانت الشيء الوحيد الذي حال دون رؤية الجنود لي.”
أقر الجيش الإسرائيلي بأن جنوده كانوا يقومون بعملية في المنطقة في ذلك الوقت، وحاول سريعاً تحميل المسؤولية للمقاتلين الفلسطينيين، قائلاً إن تبادلاً لإطلاق النار وقع بين قواته والمقاتلين الفلسطينيين، وأنه يجري تحقيقاً لمعرفة ما إذا كان من المحتمل أن تكون الصحفية قد أصيبت بنيران فلسطينية.
ولإثبات ذلك، قام الجيش وكذلك السفارة الأمريكية، بنشر مقطع فيديو عبر تويتر لمسلحين فلسطينيين في جنين يطلقون النار داخل أحد الممرات، وحملوهم المسؤولية عما وقع. إلا أن منظمة بتسيلم غير الحكومية في إسرائيل توجهت إلى الموقع الذي التقط فيه مقطع الفيديو وقالت إنه يستحيل أن تكون شيرين أبو عاقلة قد أصيبت بطلق ناري جاء من هناك.
من المثير للانتباه هنا أن السفارة الأمريكية سارعت إلى دعم رواية الجيش الإسرائيلي حول كيفية وقوع الحدث.
كان الصحفي السعودي جمال خاشقجي، الذي قتل في تركيا على يد فرقة اغتيال أرسلت من الرياض، مقيماً في فرجينيا بالولايات المتحدة ولكنه لم يكن مواطناً أمريكيا. أما شيرين أبو عاقلة، الأمريكية الفلسطينية، فقد كانت مواطنة أمريكية. تسببت جريمة قتل خاشقجي في إحداث شرخ دبلوماسي كبير بين واشنطن والرياض استمر لثلاث سنين، وما زالت المشكلة بين البلدين بدون حل. سعى الجيش الإسرائيلي إلى تحدي الوقائع المعروفة وطمس الحقائق المتعلقة بقتل شيرين أبو عاقلة حتى قبل أن يوارى جثمانها الثرى.
“لا حاجة للاعتذار”
لا يرى الإسرائيليون أن ثمة ما ينبغي أن يعتذروا عنه. ففي لقاء مع إذاعة الجيش، قال الناطق باسم الجيش الإسرائيلي، ران كوشاف، “حتى لو كان الجنود لا سمح الله هم من أطلقوا النار وتسببوا في إيذاء شخص ما لم يكن مشاركاً في القتال، فإن ذلك يكون قد حصل في معركة، أثناء تبادل لإطلاق النار، بينما يقف هذا الفلسطيني في جانب من يطلقون النار. إذن هذه الأمور يمكن أن تحدث.”
وقال كوشاف متحدثاً عن شيرين أبو عاقلة إنها “تصور وتعمل لصالح مؤسسة إعلامية وسط الفلسطينيين المسلحين، فهؤلاء مسلحون بالكاميرات، إذا سمحتم لي بقول ذلك.”
يتفق زملاء كوشاف معه، فهذا المتحدث السابق باسم الجيش الإسرائيلي، آفي بيناياهو يقول: “دعونا نفترض أن شيرين أبو عاقلة قتلت فعلاً برصاص الجيش. لا حاجة للاعتذار عن ذلك.”
أما عضو الكنيست اليميني المتطرف إيتامار بن غفير فقد كان أقل تحفظاً، حيث غرد قائلاً: “أعرب عن دعمي الكامل للجنود الإسرائيليين، فمراسلة الجزيرة طالما عطلت أشغالهم من خلال وقوفها المتعمد في وسط ساحة المعركة.”
يبدو واضحاً أن الجواب هو: “حتى لو كان من قتلها قناص إسرائيلي، فما المشكلة في قتل الصحفيين؟” وهي إجابة لا تختلف عن تلك التي صدرت عن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان تعليقاً على جريمة قتل جمال خاشقجي.
لم تكن شيرين أبو عاقلة أول صحفي يُقتل بنيران القناصة الإسرائيليين. فقبل أسبوعين فقط رفعت دعاوى أمام المحكمة الجنائية الدولية حول الاستهداف المستمر للصحفيين العاملين في فلسطين. تقدم بالدعاوى الاتحاد الدولي للصحفيين، ونقابة الصحفيين الفلسطينيين، والمركز الدولي للعدالة من أجل الفلسطينيين، وذلك بالنيابة عن أربعة صحفيين هم أحمد أبو حسين وياسر مرتجى ومعاذ عمارنة ونضال اشتيه، الذين قتلوا أو جرحوا أثناء تغطيتهم للمظاهرات في غزة.
تقول نقابة الصحفيين الفلسطينيين إن ما لا يقل عن ستة وأربعين صحفياً قتلوا في فلسطين منذ عام 2000 ولم يقدم للمحاكمة عن ذلك جندي إسرائيلي واحد. تقول الدعاوى المقدمة بأن الأحداث يمكن أن ترقى إلى جرائم حرب.
شهداء في سبيل قضية فلسطين
يمكننا أن نتأكد من شيء واحد من البلدان التي تدعي الوقوف في جانب الحق رداً على جرائم الحرب الروسية في أوكرانيا، ألا وهو أن موت شيرين أبو عاقلة، الفلسطينية الثامنة والخمسين التي تقتل هذا العام، سيقابل بصمت مطبق، كما حصل في كل الحالات التي سبقت.
ولكن لن يقابل ذلك بصمت مطبق في الجانب الفلسطيني. فخلال دقائق من إعلان وفاتها في المستشفى، حملت الجموع الفلسطينية جثمان شيرين أبو عاقلة، وطاف به حاملوه من كافة الفصائل في شوارع جنين، لا تفرقهم الانتماءات الدينية، بل وقف المقاتلون المسلمون يدعون لها في جنازة مسيحية.
شيرين أبو عاقلة، المقدسية المسيحية، غدت اليوم شهيدة في سبيل القضية الفلسطينية. لطالما عرفها الملايين من الفلسطينيين حول العالم كوجه للانتفاضة الثانية.
شيرين أبو عاقلة، المقدسية المسيحية، غدت اليوم شهيدة في سبيل القضية الفلسطينية. لطالما عرفها الملايين من الفلسطينيين حول العالم كوجه للانتفاضة الثانية. صحفية مخضرمة، لم يعرف عنها الانتساب إلى أي من الفصائل الفلسطينية، غطت كل حدث منذ ذلك الوقت بنفس المستوى من المهنية التي حفزتها على التواجد عند ذلك الدوار في جنين صباح يوم الأربعاء.
كانت شيرين أبو عاقلة هناك منذ الأيام الأولى لانطلاق قناة الجزيرة. ففي مقطع فيديو بمناسبة مرور خمسة وعشرين عاماً على انطلاق القناة، تحدثت عن دوافعها للمضي قدماً في عملها قائلة: “لن أنسى أبداً حجم الدمار ولا الشعور بأن الموت قريب جداً منا. فبالكاد كنا نرى البيوت، نحمل كاميراتنا وننطلق عبر حواجز التفتيش العسكرية والطرق غير المعبدة، نقضي الليالي في المستشفيات أو مع الناس الذين لم نكن نعرفهم من قبل، ورغم الخطر، كنا نصر على الاستمرار في العمل.”
ومضت تقول: “كان ذلك في العام 2002، عندما شهدت الضفة الغربية غزواً لم تشهده منذ الاحتلال في عام 1967. في اللحظات الصعبة، تغلبت على خوفي لأنني اخترت الصحافة حتى أكون أكثر قرباً من الناس. لربما لن يسهل علي تغيير الواقع، ولكنني كنت على الأقل قادرة على حمل ذلك الصوت إلى العالم.”
يندفع الجيش الإسرائيلي بنفس تلك الحوافز التي تدفع الجيش الروسي في أوكرانيا أو الجيش المصري في سيناء لمنع أي تحقيقات صحفية مستقلة حول ما يقومون به من أعمال. يعلمون بأن ما يفعلونه غير شرعي، ولذلك يرغبون في وأد أي تقارير حول الأحداث تتحدى رواياتهم هم عنها.
وبهذه الطريقة لا يوجد سوى حقيقة واحدة حول العمليات التي تجري، ومنها تلك التي كانت تنفذ في جنين، إنها الحقيقة كما يقدمونها هم. وتجدهم يزدادون عزماً على إبقاء الحال على ما هو عليه. كان حضور شيرين أبو عاقلة يعيق مساعيهم، ولذلك قتلوها.
صمت ساخر
إلا أن إسرائيل بحاجة إلى غطاء دولي للاستمرار في ذلك، وهذا الغطاء يتم توفيره بكل أريحية من قبل نفس البلدان التي تحارب روسيا بيقين راسخ بأنهم في معارضتهم لأفعالها يقفون في خندق الحق.
وهذه البلدان تشمل الولايات المتحدة وبريطانيا التي أعلنت فقط قبل أربع وعشرين ساعة عن نيتها من خلال خطاب الملكة عن سن تشريع يحظر على المجالس المحلية والكيانات الحكومية بمختلف مستوياتها المشاركة في حملات مقاطعة إسرائيل – في استهداف مباشر لحركة المقاطعة الفلسطينية بي دي إس.
يزعم الغرب بأنه يدافع عن الديمقراطية وحرية التعبير عندما يقاتل أعداءه، ولكنه يلتزم الصمت إزاء ما يرتكبه حلفاؤه من تجاوزات
إذن، ها نحن نحظر المقاطعات، ونحظر النشاطات الاحتجاجية غير العنيفة، ونوفر غطاء للقناصة الإسرائيليين الذين يتعمدون قتل الصحفيين. لا يوجد ضوء أخضر أكثر وضوحاً من هذا يمنح لإسرائيل حتى تستمر فيما تقوم به من ممارسات.
وهو كذلك بالفعل. فقبل أسبوع قررت المحكمة العليا في إسرائيل بأن ألف فلسطيني يمكن أن يطردوا من منازلهم في المناطق المحتلة في الضفة الغربية حتى تخصص تلك الأراضي للاستخدام العسكري – فيما يعتبر أكبر عملية طرد للفلسطينيين منذ بدء الاحتلال في عام 1967.
لقد ضحت شيرين أبو عاقلة بحياتها لكي تبين للعالم أجمع حقيقة ما يجري، وهي في ذلك ليست وحيدة. فهناك أخريات من النساء الفلسطينيات الشجاعات ممن يقمن بنفس الأعمال، وممن يشكل عملهن لطخة في جبين العالم الغربي الذي يشهر سيف القيم الأخلاقية حينما يناسبه ذلك فقط ويلقي بها في مجمع كبير للقمامة عندما لا يناسبه.
يزعم الغرب بأنه يدافع عن الديمقراطية وحرية التعبير عندما يقاتل أعداءه، ولكنه يلتزم الصمت إزاء ما يرتكبه حلفاؤه من تجاوزات.
ولكن لطخة العار التي تلازمه حين يغض الطرف لن تتلاشى مع الزمن.
وزراء الخارجية المتعاقبون في الولايات المتحدة، من التيار اليميني إلى التيار الليبرالي، يتحملون من الوزر عن قتل شيرين أبو عاقلة ما يتحمله القناص الذي أطلق عليها النار.