سلطت صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية، الضوء على حرب المعلومات والسيطرة التي تعرضت لها الولايات المتحدة مؤخرا، وذلك بعد عمليات قرصنة واسعة.
وقالت الصحيفة في مقال للكاتبة نيكول بيرلروث، وترجمته «عربي21»، إن «نقطة ضعف أميركا الكبرى في الحرب السيبرانية، هي العجرفة».
وتابعت: «لو كانت هناك بوادر على الإطلاق، بأن الولايات المتحدة تفقد السيطرة على حرب المعلومات، لكان حدث ذلك في اللحظة التي رأى فيها واحد من أبنائها، مقاول أميركي شاب، الرسائل الإلكترونية الخاصة بالسيدة الأولى ميشيل أوباما، وهي تطل من خلال شاشة جهازه».
وفي ما يأتي نص المقال كاملا:
لو كانت هناك بوادر على الإطلاق بأن الولايات المتحدة تفقد السيطرة على حرب المعلومات والسيطرة على محاربيها، لكان حدث ذلك في اللحظة التي رأى فيها واحد من أبنائها، مقاول أميركي شاب، الرسائل الإلكترونية الخاصة بالسيدة الأولى ميشيل أوباما وهي تطل من خلال شاشة جهازه.
على مدى شهور، ظل دافيد إيفندن، محلل البيانات السابق في وكالة الأمن القومي، يتساءل عن ما الذي يفعله في أبوظبي. فهو، ومعه ما يزيد على العشرين من محللي بيانات ومقاولي وكالة الأمن القومي، أغراهم بالذهاب إلى الإمارات العربية المتحدة مقاول يتعامل مع النخبة في مركز صناعة القرار داخل واشنطن، واعداً إياهم بمضاعفة رواتبهم مرتين، أو حتى أربع مرات، وبحياة رغيدة معفاة من الضرائب في تلك الدولة الخليجية. أما العمل المطلوب منهم فسيكون نفس ما كانوا يقومون به داخل الوكالة، كما قيل لهم، ولكن لصالح حليف مقرب، فكان الأمر برمته امتداداً لحرب أمريكا على الإرهاب.
بدأ السيد إيفندن في تعقب خلايا الإرهاب في الخليج. كان ذلك في عام 2014. حينها، كان تنظيم الدولة الإسلامية قد ضرب لتوه حصاراً على الموصل وتكريت، وكانت مهمة السيد إيفندن تتمثل في تعقب أعضاء التنظيم من خلال هواتفهم النقالة وما يستخدمونه من تطبيقات لتبادل الرسائل. لربما تكون الصور التي يتبادلونها فيما بينهم غاية في التوحش والقسوة، ولكن واجبه يقضي بأن يقوم بتعقبهم، كما كان يقول مخاطباً نفسه. كان قد حصل على شهادة جامعية في اللاهوت وينوي أن يعمل كاهناً. ولكن انتهى به الأمر أبعد ما يكون عن ذلك. ولكن لا يوجد سبيل أفضل لإثبات تدينه، حسبما كان يخطر بباله، من اصطياد أولئك الذين ديدنهم الفتك بالمسيحيين الصالحين. ولكن ما لبث أن كلف بالانتقال إلى مشروع جديد، ألا وهو إثبات أن جارة الإمارات، قطر، تقوم بتمويل جماعة الإخوان المسلمين. والطريقة الوحيدة لعمل ذلك، كما قال السيد إيفندن لمدرائه في العمل، هي قرصنة قطر.
قالوا له: «عليك بها». لم يكن مهماً كون قطر أيضاً حليفاً للولايات المتحدة، وما أن تمكن من عمل الاختراق حتى اتضح له أن مدراءه لا يبدون اهتماماً بالتوقف عن ذلك أبداً. ولم يمر عليه وقت طويل حتى صار فريقه، الذي يعمل مع المقاول سايبر بوينت، يقرصن أعداء الإمارات، سواء كانوا حقيقيين أم متوهمين، في كل أرجاء العالم، ومن بينهم مسؤولو كرة القدم في الاتحاد العالمي الفيفا، والمغردون الذين ينتقدون الإمارة عبر تويتر، وأفراد العائلة المالكة في قطر بشكل خاص. كان مطلوباً منهم معرفة إلى أين يسافرون، ومع من يجتمعون، وماذا يقولون. كان ذلك، حسبما قيل للسيد إيفندن، جزءاً من المهمة التي صدرت التوجيهات بإجازتها من أعلى المستويات. بإمكان المرء أثناء الحرب على الإرهاب وداخل سوق السلاح السيبراني أن يبرر أي شيء.
إلا أن كل المبررات تعرت تماماً في اليوم الذي بدأت فيه الرسائل الإلكترونية الموجهة من قبل السيدة الأولى في الولايات المتحدة تطل من شاشة جهازه. كان فريق ميشيل أوباما في أواخر عام 2015 يضع اللمسات الأخيرة على رحلة ستقوم بها إلى الشرق الأوسط. فقد دعت الشيخة موزة بنت ناصر من دولة قطر السيدة أوباما لإلقاء كلمة في مؤتمر سنوي للتعليم تنظمه في الدوحة، والذي سيكون مناسبة تروج من خلالها السيدة الأولى لمبادرتها «دعوا البنات يتعلمن». كانت السيدة أوباما وأعضاء فريقها على تواصل مستمر مع الشيخة موزة، وكانت جميع رسائل الإيميل المتبادلة بين السيدة الأولى وصاحبة السمو الملكي وفريق العاملين معها – كل انطباع شخصي، وكل حجز، وكل تغيير في مواعيد السفر وكل التفاصيل الأمنية – تصل إلى أجهزة الكومبيوتر في أبوظبي، والتي تتبع لهؤلاء المحللين الذين كانوا يوماً يعملون في وكالة الأمن القومي. قال لي إيفندن: «تلك كانت اللحظة التي قلت فيها إننا لا ينبغي علينا أن نفعل ذلك. لا ينبغي لنا أن نستهدف هؤلاء الناس».
بعد ذلك مباشرة استقل السيد إيفندن وعائلته طائرة وعادوا إلى وطنهم. وما كان منه هو وعدد قليل من الزملاء الذين انضموا إليه إلا أن بلغوا مكتب التحقيقات الفيدرالي «وهذه الوكالة لا تعلق على التحقيقات، ولكن يستشف من المقابلات أنها تقوم فعلاً بإجراء تحقيق في سايبر بوينت». واستباقاً لأي تداعيات فقد توجه بعض الموظفين بما لديهم من معلومات إلى وكالة رويترز لتبرئة ذممهم، إلا أن الرسائل الإلكترونية المتبادلة بين الشيخة موزة والسيدة أوباما لم ترد في أي تقرير للوكالة على الإطلاق.
لم يمر وقت طويل على استقرار السيد إيفندن بعد عودته إلى الولايات المتحدة حتى بدأت ترده مكالمات هاتفية ومراسلات عبر حساب لينكدإن من زملاء عمل معهم قديماً داخل وكالة الأمن القومي وما زالوا يعملون فيها، يقولون له إنهم حصلوا على عروض مغرية جداً للعمل في أبوظبي ويرغبون في معرفة ما الذي ينصحهم به. وبحلول عام 2020 غدت الاتصالات كقرع الطبول، فكان يناشد زملاءه القدامى بعدم الذهاب، قائلاً لهم: «لا تذهبوا. ليس هذا العمل هو ما تظنون أنكم ستقومون به».
أراد أن يحذرهم من أنهم قد يظنون أنهم وطنيون الآن، ولكنهم في يوم ما سيفيقون ليجدوا أنهم هم أيضاً غدوا مرتزقة في سباق تسلح سيبراني كانت تداعياته وخيمة.
أميركا الهشة
قبل ثلاثة عقود أوجدت الولايات المتحدة سوقاً لقراصنة الإنترنيت «الهاكرز»، ووفرت لهم متطلبات حرفتهم وأدواتها، ثم ضيقت عليهم. ولكن خلال العقد الماضي فإنها ما فتئت تفقد موقعها الرائد في هذا المجال، وباتت القرصنة تطاردنا في عقر دارنا.
ومع ذلك لم يتخذ أحد في الحكومة وقفة جادة لإعادة النظر في الاستراتيجية، لا حينما وقعت رسائل ميشيل أوباما الإلكترونية في شباك مقاول أمريكي في عام 2015، ولا اليوم حيث يتواجد القراصنة الروس في العمق من شبكاتنا الحكومية. انتقلنا من نداءات إفاقة تطلق بين الفينة والأخرى إلى إنذار واحد مستمر وصاخب – وما زلنا نزداد كفاءة في القدرة على تجاهله كله.
بعد شهور من عودة السيد إيفندن إلى دياره، في عام 2016، تعرضت أدوات القرصنة الخاصة بوكالة الأمن القومي نفسها إلى القرصنة من قبل مهاجم ما زال حتى الآن مجهول الهوية. تسلطت على هذه الأدوات أولاً كوريا الشمالية ثم من بعد ذلك روسيا، في أشد الهجمات السيبرانية دماراً في التاريخ.
وعلى مدى السنوات الثلاث التالية، برزت إيران التي كانت في حالة من الركود والتخلف الرقمي لتصبح واحدة من أكبر الجيوش السيبرانية تمدداً في العالم. وعادت الصين، بعد توقف قصير، لتنقض من جديد على الملكية الفكرية الأمريكية سلباً ونهباً. وها نحن الآن نواجه هجوماً روسياً على سلسلة الإمداد الخاصة ببرامجنا الإلكترونية، وهو الهجوم الذي استهدف كلاً من وزارة الخارجية ووزارة العدل ووزارة الخزانة ومراكز التحكم بالأمراض، ووزارة الطاقة ومعاملها النووية، ووزارة الأمن الوطني، نفس الوكالة التي تناط بها مهمة الحفاظ على سلامة الأميركيين.
نعلم أن ذلك ليس بفضل قرصنة بطولية أو جهد استخباراتي باهر قامت به وكالة الأمن القومي وإنما لأن الحكومة تلقت وشاية من قبل شركة أمنية اسمها «فاير آي» بعد اكتشافها أن الأنظمة التابعة لها وقعت فريسة لقراصنة روس.
إن الذي أوصلنا إلى هذه الحالة هو العجرفة الناجمة عن الاستثنائية الأمريكية، إنها أسطورة التفوق العالمي التي عراها تماماً عدد الوفيات الذي منيت به الولايات المتحدة بسبب الجائحة. كنا نظن أننا نفوق أعداءنا ذكاء. قرصنة أكثر، هجوم أكثر، وليس دفاعاً أفضل كان ردنا على نظام عالمي افتراضي بشكل متزايد، حتى ونحن نتسبب في تعريض أنفسنا لمزيد من الأخطار من خلال ربط مرافق معالجة المياه، والسكك الحديدية، ومنظمات الحرارة، ومضخات الإنسولين، بالشبكة العنكبوتية، بمعدل 127 جهازاً في الثانية الواحدة.
داخل وكالة الأمن القومي، والتي تتمثل مهمتها المزدوجة في جمع المعلومات الاستخباراتية من كل أرجاء العالم والدفاع عن الأسرار الأميركية، لم يزل الهجوم يحجب الدفاع منذ وقت طويل. فمقابل كل مائة من المحاربين السيبرانيين الذين يمارسون الهجوم -بحثاً عن وتكديساً للثغرات الموجودة في التكنولوجيا من أجل استغلالها في التجسس أو في الاستعدادات التي تسبق النزول إلى ساحة المعركة- لا يوجد في العادة سوى محلل بيانات واحد ووحيد يقوم بمهمة الدفاع التي تعمل على سد مثل تلك الثغرات.
ما زالت الولايات المتحدة أكثر القوى العظمى تقدماً في المجال السيبراني، ولكن الحقيقة القاسية التي لا يرغب مسؤولو المخابرات في الحديث عنها، هي أنها أيضاً الأكثر استهدافاً وانكشافاً. لا يوجد في قطاع الأمن السيبراني الكثير مما هو أسوأ سمعة من التهويل، حتى صيغت له عبارة تتكون من ثلاث مفردات: الخوف، وعدم اليقين، والريبة.
عندما حذر ليون بانيتا، الذي كان حينها يشغل منصب وزير الدفاع، من هجوم سيبراني وشيك في عام 2012 شبيه بالهجوم على بيرل هاربر، لم يؤبه له باعتبار أنه يهول من الأمر بدافع من الخوف وعدم اليقين والريبة. ما من شك في أنه كان مخطئاً في قياسه الهجمة السيبرانية على هجوم بيرل هاربر، لأن حكومة الولايات المتحدة في حالة هجوم بيرل هاربر لم تكن ترى القاذفات اليابانية وهي قادمة، بينما لم تزل منذ عقود ترى المكافئ الرقمي لها وهو يتحرك باتجاهها.
وما احتمال وقوع هجوم كارثي -مثل أن يحدث انفجار فتاك في معمل كيماوي بفعل اختراق يقع على برنامج كومبيوتر ضعيف- إلا إلهاء يستهدف صرفنا عن المأزق الحقيقي الذي نحن فيه. فكل ما يستحق مد اليد إليه تم اعتراضه: بياناتنا الشخصية، ملكيتنا الفكرية، قوائم الناخبين، سجلاتنا الطبية، وحتى أسلحتنا السيبرانية.
يتم في هذه اللحظة بالذات اختراقنا بالقرصنة من جهات عديدة جداً، حتى بات مستحيلاً تقريباً حصر ما نتعرض له من هجمات، ناهيك عن إعلام القارئ الأمريكي العادي الذي يحاول جاهداً استيعاب أبعاد تهديد خفي إلى حد كبير يعيش داخل شيفرة، ومكتوب بلغة لن يتمكن معظمنا بتاتاً من فهمها بشكل كامل.
يبدو الخطر في العادة كما لو كان بعيداً جداً عن أن يواجه، مع أن الحلول لم تزل متاحة منذ عقود. كل ما هنالك أن أفراداً قرروا أن سهولة العبور، وفي حالة الحكومة الفرص السانحة للتجسس، تستحق أن تبقى من أجلها النوافذ مفتوحة، رغم أنه كان من الأفضل لنا إغلاق تلك النوافذ بشكل محكم.
أخبرني بيتر نيومان، عالم الكومبيوتر والخبير في الأمن السيبراني، أن «الخطأ القاتل الذي وقعت فيه وكالة الأمن القومي هو الاعتقاد بأنها أذكى من كل الآخرين. وذلك أننا في خضم السباق لاستغلال كل ما يمكن أن تطاله أيدينا أقحمنا أنفسنا في طريق مسدود لا سبيل للخروج منه».
وهناك سبب لاعتقادنا بالمغالطة التي تقول إن الهجوم كفيل بالحفاظ على سلامتنا، ألا وهو أن الهجوم تحفة رائعة.
بدءاً من العام 2007، نفذت الولايات المتحدة بالتعاون مع إسرائيل هجوماً على مرفق ناتانز النووي الإيراني، تمخض عنه تدمير ما يقرب من خمس أجهزة الطرد المركزي في إيران. انتشر ذلك الهجوم، الذي عرف باسم «ستاكسنيت»، باستخدام سبعة ثقوب، تعرف باسم «أيام الصفر»، تتواجد داخل برامج الكومبيوتر الصناعية لكل من مايكروسوفت وسيمنز.. «لم يكن حينها قد كشف سوى عن واحد منها، ولكن لم يتم ترقيعه بتاتاً». على المدى القصير، حقق ستاكسنيت نجاحاً باهراً، إذ أعاد طموحات إيران النووية سنوات إلى الوراء وحال دون أن يقصف الإسرائيليون “ناتانز” وأن يتسببوا بذلك بإشعال فتيل حرب عالمية ثالثة. أما على المدى البعيد، فقد أظهر للحلفاء والأعداء على حد سواء ما الذي كانوا يفقدونه وغير بالتالي من طبيعة النظام الدولي الرقمي.
وفي العقد التالي ولد سباق تسلح جديد.
غادر محللو البيانات في وكالة الأمن القومي ليؤسسوا مصانع أسلحة سيبرانية، مثل «مختبرات أبحاث نقاط الضعف» في فرجينيا، التي باعت ما كانت تصنعه من أدوات إلى الوكالات الأمريكية وإلى حلفائنا المقربين من الناطقين بالإنجليزية بما يعرف بالأعين الخمس. واختارت إحدى شركات المقاولات التي أنشأها محلل سابق في وكالة الأمن القومي تحت اسم “مؤسسة المناعة” منحنى أكثر انزلاقاً. بادئ ذي بدء، كما يقول العاملون فيها، دربت مؤسسة المناعة مستشارين مثل بوز ألين ثم مقاولي دفاع مثل رايثيون، ثم قدمت تدريبات للحكومات الهولندية والنرويجية. ثم سرعان ما أتى الجيش التركي يقرع بابها.
ثم مضت شركات مثل سايبر بوينت إلى أبعد من ذلك، فانتقلت إلى الخارج، ولما أشركت معها في أدواتها وحرفتها دولة الإمارات العربية المتحدة انتهى بها المطاف وهي توجه أسنة رماحها ضد أهلها. وفي أوروبا بدأ متعهدو التزويد في برامج التجسس الخاصة بالبنتاغون، مثل “فريق القرصنة”، بالاتجار بنفس الأدوات مع روسيا ثم مع السودان الذي كانت نتائج استخدامه لها بلا هوادة.
ومع توسع السوق خارج إطار سيطرة وكالة الأمن القومي، ظلت الوكالة تركز جل اهتمامها على الهجوم. وكانت تعلم وكالة الأمن القومي أن نفس نقاط الضعف التي كانت تعثر عليها وتستغلها في أماكن أخرى سوف تعود يوماً لتنفجر في وجه الأميركيين. وكانت إجابتها على تلك المعضلة هي اختصار الاستثنائية الأمريكية في عبارة «لا أحد سوانا»، وذلك أن الوكالة كانت كلما عثرت على نقطة ضعف اعتقدت أنها وحدها القادرة على استغلالها، وظنت أن بإمكانها أن تحتكرها.
كانت تلك الاستراتيجية جزءاً من «الدفاع النشط» كما أطلق عليه الجنرال بول ناكاسوني، المدير الحالي لوكالة الأمن القومي، ومن قبله صن تزو، الأستاذ في جامعة جورج واشنطن والخبير الاستراتيجي في الشؤون الصينية.
يقصد بمصطلح «الدفاع النشط» في الحرب المعاصرة قرصنة شبكات العدو. وهي عملية تدمير متبادلة ومضمونة النتائج في العصر الرقمي: فقد قمنا نحن بقرصنة شبكات التصيد الروسية كنوع من استعراض القوة، وقمنا بقرصنة المرافق النووية الإيرانية لتعطيل أجهزة الطرد المركزية التابعة لها، وقمنا بقرصنة شيفرة مصدر هواتف شركة هواوي لكي نخترق زبائنها في إيران وسوريا وكوريا الشمالية، وذلك لأغراض التجسس ولإنشاء نظام إنذار مبكر لوكالة الأمن القومي، نظرياً، من أجل استباق الهجمات قبل أن يقوموا بها.
وعندما اكتشفنا فجوات في الأنظمة التي تحكم العالم الرقمي، لم نحولها تلقائياً إلى الشركات الصانعة لكي تصلح ما فيها من خلل، بل أبقينا عليها بما فيها من نقاط ضعف فيما لو احتاج مكتب التحقيقات الفيدرالي «إف بي آي» اختراق الهاتف النقال لأحد الإرهابيين أو فيما لو كان لدى مركز القيادة السيبراني من الأسباب ما يجعله ذات يوم يقصف الشبكات الإيرانية بقنبلة سيبرانية.
ما من شك في أنه كانت هناك عوائد كبيرة، لربما لن يعلم عنها الجمهور بتاتاً. ولكن كل ما يحتاج المرء لفعله هو التأمل في الهجمات التي تمت على مدى السنين الخمس الماضية ليرى أن «الدفاع الفعال» وفكرة «لا أحد سوانا» كلاهما لم يحققا نجاحاً باهراً.
في مذكرة مسربة لوكالة الأمن القومي تعود إلى العام 2012، حذر محلل بيانات من ذلك بالضبط حين قال: «لقد استفدنا لبعض الوقت نحن وشركاؤنا «الأعين الخمس» من قرصنة الموجهات «راوترز»، ولكن بات واضحاً أن بلداناً أخرى تقوم بصقل مهاراتها وبالانضمام إلى المشهد».
فقط حينما تعرضت أدوات وكالة الأمن القومي للقرصنة في عام 2017، واستخدمت حينها ضدنا، فقد تمكنا من رؤية العطب الذي أصاب المقايضة بين الهجوم والدفاع. لقد احتفظت الوكالة لنفسها بما اكتشفته من نقطة ضعف خطيرة في برامج ميكروسوفت لما يزيد على خمسة أعوام ولم تحلها إلى ميكروسوفت إلا بعد أن تعرضت وكالة الأمن القومي للقرصنة.
حينها كان قد فات الفوت. فقد كانت المؤسسات التجارية والمدارس والمستشفيات لا تزال تبحث عن سبيل لترقيع الثغرة عندما استخدمتها كوريا الشمالية لشن هجوم بعد شهر، أو حتى بعد شهرين، من شن روسيا هجوماً سيبرانياً دمر مؤونة من المطاعيم في ميريك، وكبد فيديكس أربعمائة مليون دولار، وحال دون أن يتمكن الأطباء من الوصول إلى سجلات مرضاهم. بالمجمل، فإن تلك الحادثة كلفت الضحايا ما يقدر بعشرة مليارات دولار من الأضرار.
بعد تلك الهجمات، في 2017، كاد ينعقد لسان الجنرال مايكل هايدين، المدير السابق لوكالة الأمن القومي وأحد أكثر الداعمين والمتحمسين لها، حيث إنه قال: «لا يمكنني الدفاع عن وكالة لديها أدوات جبارة إذا كانت لا تستطيع حماية الأدوات والاحتفاظ بها في يديها».
كانت الآلات الطابعة تتنصت
من أجل فهم كيف وصلنا إلى هذا الوضع، حيث إننا نواجه هجمات متصاعدة الواحدة تلو الأخرى، ولمعرفة كيف قد نتمكن من إيجاد سبيل للخروج من هذا المأزق، فإن من المفيد أن نعود بالنظر إلى الهجوم الروسي الذي وضعنا على هذا الطريق الهجومي.
في ذلك العام، 1983، توصل العاملون في السفارة الأميركية في موسكو إلى القناعة بأن كل ما كانوا يقولونه أو يفعلونه كان السوفيات يرصدونه ويحصلون عليه. حينها ارتابوا في وجود جاسوس مزروع بينهم، ولولا أنهم حصلوا على معلومة من الفرنسيين، الذين وجدوا جهاز تنصت مزروعاً في طابعاتهم البرقية، لما اكتشفوا أن الجاسوس كان مزروعاً في آلاتهم.
في عام 1984، وافق الرئيس رونالد ريغان شخصياً على مشروع سري، أطلق عليه رمزياً اسم «الرجل المسلح»، للبحث عن كل جهاز تنصت مزروع في معداتهم واستئصاله. واستغرقهم شحن جميع المعدات إلى قاعدة فورت ميد مائة يوم وما يقرب من مائة يوم أخرى للكشف عن أعقد عملية تنصت شهدتها الوكالة في تاريخها.
وكان قد ثبت في ظهر كل واحدة من الآلات الطابعة المستخدمة داخل السفير جهاز قياس مغنطيسي صغير جداً، يقوم بقياس أقل اهتزازة في مجال الأرض المغناطيسي. وبذلك كان يتم تسجيل الطاقة الميكانيكية المنبعثة من كل ضربة على آلة الطباعة وبث النتائج عبر الراديو إلى وحدة تنصت سوفييتية في الجوار مخبأة داخل مدخنة السفارة. ومع اكتمال عمل «الرجل المسلح»، واكتشاف المزيد من أجهزة التنصت المزروعة، تبين أن السوفييت كانوا على مدى ثمانية أعوام يحصلون على الأسرار الأميركية من خلال التنصت على آلات الطباعة.
قال لي جيمس آر غوزلر، الأب الروحي للحرب السيبرانية الأميركية: «كان ذلك بالنسبة لنا بمثابة نداء استفاقة كبير. وإلا فلربما ظللنا نستخدم تلك الطابعات الملعونة».
لو كان هناك تكنولوجي واحد ينسب إليه الفضل في تقدم الولايات المتحدة في هذا المجال إلى أن غدت القوة الرقمية العظمى فإنه السيد غوزلر. وذلك أنني عندما طلبت من كل واحد من الرجال الذين وجهوا وكالة الأمن القومي ووكالة المخابرات المركزية خلال العقود الماضية أن يذكروا لي اسم الأب الروحي للدفاع السيبراني الأمريكي، لم يتردد أحد منهم في القول: «إنه جيم غوزلر».
في قاموس السيد غوزلر هناك عبارتان: «ما قبل الرجل المسلح» و «ما بعد الرجل المسلح». ولقد أخبرني عن ذلك قائلاً: «كان الأميركيون في البداية بلا مخالب. كنا نعيش حياة أشبه بفيلم لالا لاند».
أما فيما بعد الرجل المسلح فقد بتنا نقرصن أي شيء له نبض رقمي.
خلال مسيرة عمله الطويلة في معامل سانديا الوطنية ثم في وكالة الأمن القومي وفيما بعد في السي آي إيه، كان السيد غوزلر يعتبر أن مهمته الشخصية هي تنبيه الحكومة إلى نقاط الضعف التي توجد في الرقائق الإلكترونية وفي الشفرات والبرامج الإلكترونية التي لم تترك جانباً من حياتنا إلا باتت جزءاً منه.
لن تسمع منه كلاماً حول البرامج السرية التي كان مؤتمناً عليها، ولكن أثناء فترة عمله ساعد في إنشاء تصنيف للخصوم الذين قد يتمكنون من استغلال نقاط الضعف تلك، وقاد فرقاً من المحللين والجواسيس الأمريكيين لكي يضمن بقاء الولايات المتحدة متفوقة وفي الريادة.
ولكن كل وحدة طاقة أنفقتها الولايات المتحدة على الهجوم كانت تأتي على حساب الدفاع. وكانت هذه المقايضة تقض مضجع السيد غوزلر. كان العثور على “الرجل المسلح” لعلاج مشكلة تلك الطابعات إنجازاً باهراً. فماذا عن إيجاد مثيل له للتطبيق على طائراتنا النفاذة أو حتى على سياراتنا الحديثة، والتي يوجد في داخل الواحدة منها الآن ما يزيد على المائة مليون من خطوط الشيفرة؟ حظاً سعيداً.
تلك هي في واقع الأمر المعضلة التي تواجهها الولايات المتحدة بينما تتعقب كل واحد من الحوامل أو الأبواب الخلفية التي استخدمت في هجوم «الرياح الشمسية» الأخير، والذي أطلق عليه هذا الاسم لأن الروس استخدموا كقناة شركة مقرها تكساس اسمها “الرياح الشمسية” تبيع برامج تشبيك للوكالات الحكومية، ولمشغلي الشبكات ولما يزيد على الأربعمائة من الأسماء الخمسمائة الواردة في قائمة مجلة فورشين.
من حين لآخر، نرد على الهجمات بتوجيه تهم أو فرض عقوبات أو شن هجمات سيبرانية خاصة بنا. ولقد أضاف الرئيس بايدن عشرة مليارات دولار لتمويل الأمن السيبراني كجزء من الخطة التي وضعها للتعافي من جائحة كوفيد-19. وقال يوم الخميس إن الولايات المتحدة بصدد «إطلاق مبادرة طارئة» حول الأمن السيبراني لتحسين وضع أمريكا من حيث «الاستعداد والمرونة في الفضاء السيبراني».
إلا أن إيجاد كل باب خلفي روسي قد يستغرق شهوراً بل وحتى سنينا. والخروج من الوضع الفوضوي الذي نحن فيه حالياً يستدعي اختياراً صعباً يتمثل بالتوقف عن ترك أنفسنا مكشوفين وعرضة للأخطار.
وهذا يعني بالنسبة للأفراد حياة أقل دعة. إذ إنه يعني عدم تجاهل كلمات السر عندما يطلب الجهاز إدخالها وعدم تجاهل تحديث البرامج عندما يحين وقتها، وعدم التقاعس عن توفير عنصرين اثنين لإثبات المصداقية، وعدم الضغط على روابط خبيثة. وبالنسبة لقطاع الأعمال، فإن ذلك يتطلب اختبار الشيفرات أثناء كتابة المهندسين لها وليس بعد أن تصل إلى أيدي المستهلكين. ويتطلب إضافة الخنادق المائية حول جواهر التاج: استخدام بطاقات ورقية معلمة يدوياً، وفصل أدوات الضبط التي تحكم معاملنا النووية وأبراج مراقبتنا الجوية عن كل شيء آخر.
بالنسبة للحكومة، لربما كان الأسهل أن تبدأ بوضع قواعد واضحة تحظر على موظفيها السابقين، مثل السيد إيفندن التوجه للقيام بأي عمل قذر لصالح حكومات أخرى حيث لا تنطبق القواعد المعمول بها لدينا في عالم الجاسوسية عليهم. وآن للحكومة أن تعمل على غلق جميع الأبواب والنوافذ التي ما كان ينبغي أن تترك مفتوحة طوال ذلك الوقت.
لقد عمل جيم غوزلر لعقود طويلة في سبيل الحفاظ على سلامة الأميركيين وعلى سلامة شوارعنا، ولضمان ألا نتعرض لأي هجوم سيبراني تكون عواقبه وخيمة. والآن، وبينما تحسب البلد حساب سيناريوهات طالما خشيها وحذر منها، فقد بات يدرك أن الطريق إلى الأمام يتمثل في فهم مدى ما نعيشه من أوضاع غير آمنة.
قال لي السيد غوزلر موخراً: «لم يكن للرجل المسلح أثر مباشر على المواطن الأميركي العادي فلم يشعر بوجوده، أما الرياح الشمسية فقد اقتربت منه كثيراً، إذ إنها تخترق مختلف مناحي الحياة، وغدت على بعد خطوة واحدة من شبكة الكهرباء. فإذا كان المواطن الأميركي العادي لا يشعر بذلك، فماذا ينبغي أن يحدث حتى يشعر به؟».
* نيكول بيرلروث: مراسلة صحفية لـ«نيويورك تايمز» متخصصة في الأمن السيبراني، ولها كتاب على وشك الصدور عنوانه «هذا ما يقولونه لي عن كيفية انتهاء العالم». ومقالتها هذه مستوحاة من موضوع الكتاب.