سيظل الدكتور محمد البرادعي واحدا من اكثر الشخصيات الجدلية في مصر الحديثة، والغموض الذي يكتنف الشخصية ظل مصاحبا للرجل منذ بروزه المفاجئ على المشهد السياسي المحلي قبل ثورة 25 يناير ثم مواقفه بعد الثورة وحتى يوم الناس هذا. وهذا الغموض في الحضور والغموض في المواقف ايجابا وسلبا سيظل حاضرا في أي مشهد سيتواجد فيه الرجل بالنسبة لمؤيديه ومعارضيه على السواء. ومع اني لست من أنصارإلقاء التهم على الناس على عواهنها واستحضار المؤامرة في كل مشهد وأميل الى ان اكل الناس الى نياتهم ولكن افضل محاولة ايجاد طرق منطقية لتفسير منطلقات الشخصية بعيدا عن اتهام الناس في نياتهم مادام لم يقم على ذلك دليل لا يقبل الشك اوالتأويل.
لنعد قليلا الى تاريخ الشخصية ربما نجد بعض المفاتيح يمكن ان تساعدنا على توصيفها. فالدكتور البرادعي من مواليد يونيو 1942 اى انه يناهز اليوم 71 عاما. وهو حاصل على الدكتوراه في القانون الدولي من جامعة نيويورك وعمل موظفا في وزارة الخارجية المصرية منذ 1964 تقلد العديد من المناصب الدبلوماسية من بينها مساعد وزير الخارجية عام 74 قبل ان يلتحق بوكالة الطاقة الذرية حيث شغل مناصب رفيعة في الوكالة منها المستشار القانوني للوكالة ثم مديرا عاما مساعدا للعلاقات الخارجية عام 93 قبل ان يتولى رئاسة الوكالة لثلاث فترات متتالية منذ عام 97 وحتى 2005.
هذه الخلفية تقدم مجموعة من المعلومات المهمة عن الرجل فهو:
اولا: تجاوزسن السبعين وهو سن لا يسمح لصاحبه بالمغامرة والمخاطرة هذا فضلا عن عنف وسرعة الحركة التى تتطلبها عمليات التغيير الراديكالية الكبرى في تاريخ الشعوب.
ثانيا: الخلفية القانونية للرجل والمتخصصة في المجال الدولى تفرض عليه السير وفق منهج قانوني رسمي محدد.
ثالثا: اشتغاله بالعمل الدبلوماسي الدولي لفترات استغرقت جل حياته جعلته يضع الابعاد الدولية في تحركاته وربما جعلته ايضا ينظر للامورالمحلية من مسافة اعلى وربما من منظور اطارى عام بعيد عن التفاصيل او الاستغراق في الواقع.
رابعا: عمله في منظمة الامم المتحدة عموما ومنظمة الطاقة الذرية على وجه الخصوص لفترات طويلة جدا جعلته يميل الي وضع سقف لتحركاته ووفق موصفات محددة أشبه بمعايير الايزو.
خامسا: لا تعبر المنظمات الدولية عموما عن وضع ديموقراطي عالمي بل هى منظمات تشكل وتدار وفق مصالح دولية تعبر بالضرورة عن القوى الدولية الغالبة والفاعلة عالميا وكذا موائمات قد تبتعد في احيان كثيرة عن معايير العدل والمساواة وروح القانون الدولي الواجبة.
اعتقد اننا لو وضعنا هذه الخلفيات وانعكاستها على الشخصية مع الاخذ في الاعتبار ان الدكتور البرادعي امضى معظم حياته العملية بعيدا عن مصر ولم يحقق ما حقق بدفع او حتى مباركة من النظام الرسمي فقد عزز ذلك من الابقاء على هوة المسافة التي تفصله عن الجميع واستقلاله عن الواقع المحلي الرسمي والشعبي.
نعود الى بدايات ظهور البرادعى على الساحة والتى جاءت مع نهاية حياته الوظيفية الدولية وتعقد الاوضاع في مصر بسبب اصرار نظام مبارك االمخلوع على المضي قدما في مشروع التوريث وانسداد الافق السياسي وطرح اسمه ضمن اسماء يمكن ان تصلح كبديل. ولكن دخول البرادعي جاء متناسبا ومتسقا مع كل الخلفيات السابقة فقد ابدى قدرا من المخاطرة المحسوبة عندما وافق ولكنه اشترط لترشحة تغير في الدستور وهذا طبيعى حيث كانت المواد الدستورية التى وضعها مبارك تمنع ترشحه وتضيق الدائرة جدا لتقطع الطريق على منافسة حقيقية. ولكنه ربما من باب التزيد اولخلفيته الدبلوماسية الدولية وعمله اشترط ايضا التزام مكتوب بنزاهة العملية الانتخابية ورقابة قضائية ودولية على الانتخابات.
وعندما شرع الدكتور البرادعي في تأسيس الجمعية الوطنية للتغيير ورغم نجاحه في البداية في جمع كثير من القوى الحزبية والشعبية حول النقاط السبع المطلوبة للاصلاح الا انه لم يستطع ان يبقي على وحدتها وكان بعضها يعود لطبيعته الشخصية التى تميل الى العمل كصاحب سلطة نافذة يتصرف وفق رؤيته وربما بعيدا عن المنطلقات التى حدث التجمع حولها. ولكن دعوته لمقاطعة انتخابات عام 2010 جاءت متسقة مع شخصيته الرافضة للمخاطرة غير المحسوبة رغم ان مشاركة الوفد والاخوان في هذه الانتخابات وما اعقب ذلك من تزوير فج لسد الافق امام اى منافسة لجمال كانت القشة التى قصمت ظهر البعير.
وبعد قيام ثورة 25 يناير، تردد البرادعي كثيرا رغم ان الوضع العام في مصر والوضع الدولي كان يمكن ان يجعله في الواجهة وربما متحدثا رسميا للثورة ولكن البرادعي ووفق نفس معطيات الشخصية ولاعتبارات كثيرة آثر ان يتخذ خطوات محدودة في حضوره في المشهد الثورى ورغم أنه أعلن في 9 مارس 2011 رسميا اعتزامه الترشح للرئاسة إلا أن مواقفه من المشهد السياسي من اعلانه الدائم من وقت لاخر عن مواقف سياسية معينة ربما تخالف ما استقر عليه الواقع العام مثل موقفه الذي طالب فيه المجلس الاعلى للقوات المسلحة تمديد الفترة الانتقالية لثلاث سنوات والذي ربما يفسره موقفه كمدير لمنظمة دولية على استعداد للتعامل والتعاون مع الوضع السياسي القائم في اى بلد بغض النظر عن مدى شرعيته. فهو يتعامل مع صاحب القوة وليس بالضرورة ان يكون صاحب الشرعية؛ وإن كان لا يكف عن وضع المعايير التى تطالب مثل هذه القوة بالالتزام بها لتكون موافقة للمعايير العامة للتوافق مع المنظمة الاممية فهو رغم الاستفتاء الشعبي على التعديلات استمر يطالب بالبداية بالدستور قبل الانتخابات ليس حبا في الدستور ولكن لان الانتخابات لن تتوافق مع الترتيبة التى يريد بها أن تسير الامور. وهنا تبدو رؤية الديموقراطية والارادة الشعبية غامضة في رؤية البرادعي لكون المنظمات الدولية أساسا لا تقوم على أسس ديموقراطية بل على اسس مصالح القوى العظمى والموائمات الدولية.
وعلى نفس المنوال ومن نفس المنطلقات جاءت وتجيء معظم قرارات الدكتور البرادعي فهو يعلن ما يتصوره مواقف "معيايرية" حتى ولو جاءت مخالفة للواقع او الاعراف الديموقراطية بل ويفسر هذا ايضا مواقفه المرحبة لبعض القرارات التى جاءت من المحكمة الدستورية رغم علمه بأنها لا تتبع الاسس القانونية المتعارف عليها او ضرورات العدل والمتطلبات الثورية ورفضه ذات الاحكام اذا جاءت مثلا ضد ممثل اوصحفي.. الخ.
ورغم اعلان البرادعي في الرابع من يناير 2012 انسحابه من الترشح وذلك بسبب ما وصفه التخبط في الفترة الانتقالية وغياب اجواء الديموقراطية في مصر تحت قيادة المجلس العسكري الا ان السبب الحقيقي لم يكن سوى انسجاما للحالة العامة للرجل من ناحية السن وخشيته الواضحة من المخاطرة غير المحسوبة ولافتقار الواقع -في تصوره- للحالة المثالية المطلوبة "مواصفات الايزو" لكي يخوض مثل هذه الانتخابات ولإحساسه ربما ان الانتخابات تسير وفق سيناريو النظام الرسمي الذي لم يشأ ان يشتبك معه بعنف.
ولم يشرع البرادعى في اتخاذ اولى خطواته الرسمية او لنقل الفعلية الاولى في الحياة المصرية ألا وهي تأسيس حزب الدستورالا بعد ان اطمأن تماما ان الطريق اصبحت ممهدة لدخوله الساحة التى لعبت فيها القوى الثورية الفاعلة الدور الابرز في المواجهة مع المجلس العسكرى حتى اخراجه من الساحة السياسية.
ونأتى للنقطة الاخيرة التى تكشف طبيعة شخصية الدكتور البرادعي وما يمكن ان يتنظرمنه في الحياة السياسية المصرية ألا وهي الدستور لقد ظل الدكتور البرادعى يروج له على انه قضيته المحورية والتى حتى وفي خضم اشرس معركة رئاسية في تاريخ مصر واخطر فصل في نظرى في المواجهة بين الثورة والثورة المضادة والتى كادت الثورة تلفظ فيها انفاسها الاخيرة لولا مواقف مبدئية نادرة لبعض القوى والشخصيات تعالت فوق الخلافات واستشعرت الخطر الداهم على الثورة الذي كان يمكن ان يمثلة فوز الفريق احمد شفيق. وقف الدكتور البرادعي يتحدث ان المعركة الحقيقية هى الدستور ومنها اشتق اسم حزبه ولكنه لم يبتعد عن الاطار العام الحاكم لشخصيته ورؤيته. فلم يتجاوز البرادعي حتى اليوم موقفه الاول وهو مطالبته باعادة تشكيل لجنة الدستور وفق معايير لا تزال غير معلومة الا له ورغم ان حجم التوافق والعمل داخل اللجنة كان اكبر كثيرا من الخلاف حول تشكيلها ورغم حرص اللجنة على مشاركة كل اطياف المجتمع المصري في صياغة الدستور الا ان موقف الدكتور البرادعي ظل يراوح موقفه المبدئى بضرورة اعادة تشكيل اللجنة. وعندما علمت ان لجنة المقتراحات ستعقد جلسات خاصة مع شخصيات عامة ذات ثقل مثل الدكتور مجدى يعقوب واحمد زويل والدكتور مصطفى السيد والدكتور البرادعي شعرت بالسعادة لحرص اللجنة على مشاركة امثال هؤلاء في صياغة اهم دستور في حياة مصر. وبعد متابعتي للجلسات الخاصة التى عقدت مع الدكتور مجدى يعقوب ثم الدكتور مصطفى السيد وتأخر كل من الدكتور زويل والدكتور البرادعي اتصلت بالدكتور محمد البلتاجي الذي قال ان الدكتور زويل في الخارج وسيعود ويجتمع مع اللجنة وهو ما حدث بالفعل الا ان الدكتور البرادعي لا يستجيب للاتصالات. وفيما بعد دعى الدكتور محمد محسوب وزير الشئون القانونية وأحد اعضاء اللجنة الدكتور البرادعي الى تجاوز الرسميات والحضور والمشاركة الفعالة بنفسه في اعمال اللجنة الا ان الدكتور لم يتجاوز نفس النقطة والتى بدت اشبه بمحضر او تقرير "إثبات حالة" للتأكيد على نزع الشرعية المعيارية عن الجمعية لعدم تشكلها وفق الرؤية التى يتبناها. ولو كان الدستور فعلا هو قضية الدكتور البرادعي المصيرية كما صورها ولو انه مندمج فعلا مع تفاصيل الحياة في مصر لتجاوز كل الرسميات وواصل الليل مع النهار يراجع وينتقد ويوجه بل ويفضح اى مواد يمكن ان تؤثر سلبيا على الدستور الجديد ولكنه اثر ان يتخذ موقفا ينسجم مرة اخرى مع سلوك موظف دولى تجاه دولة لم تلتزم وفق الرؤية الدولية بالشكل الاطارى المطلوب وبالتالي لم يشغل باله بالتفاصيل إيجابا أوسلبا. واذا ما راجعت كل مواقف الدكتور البرادعي التى عبر عنها عبر تويتر او في تصريحات ومقابلات رسمية ربما تجدها مناسبة لمواقف جهات دولية أورؤى عمومية تصلح لتوصيف حالات دول اخرى غير الحالة المصرية ولكنها تظل منفصلة عن موقف ينغمس في الواقع المصري الاصيل اويتعايش مع هويته وهمومه واحلامه.
* استاذ جامعى