الترحال والتفقد دائما ما يغني عن قراءة الكثير من الكتب حيث الاطلاع على التاريخ والثقافة والمجتمع عن قرب؛ الذي يسافر كثيرا ويتعرف على شعوب جديدة وثقافات مختلفة تراه مختلفا في وجهات نظره في نظرته للأحداث؛ لأن أفقه تتسع لأكثر مما يضيق على غيره.
الوفد الإغاثي
شاركت الأسبوع الماضي في وفد إغاثي تركي إلى دولة "بوركينا فاسو" في غرب أفريقيا لتقديم الدعم من خلال ذبح أضاحي العيد وتقديمها للمستحقين في تلك البلاد البعيدة. حيث يتبرع الأتراك بأضاحيهم للمؤسسات الإغاثية المختلفة وتُوكل تلك المؤسسات للذبح في البلد الذي يريده حول العالم؛ في هذه الرحلة لفت نظري كثير من الأمور منها ما أحزنني ومنها أوقد اللهيب داخلي لعمل دؤوب تحتاجه و يجب أن تنفذ في هذه البلاد.
تتوسط بوركينا فاسو غرب أفريقيا لا تملك سوحل بحرية تحدها دول مالي وغانا وتشاد وساحل العاج؛ تملك ثروة حيوانية قوية ورصيد زراعي كبير فهي أكبر مصدرة أبقار للدول المجاروة؛ وتملك كميات من مناجم الذهب الهائلة وموسم الأمطار فيها غزير أراضيها تملأها الخير والخضار؛ حينما كنا ننتقل من مدينة إلى مدينة أخرى لم أجد صحراء جرداء كما هي الصورة الذهنية التي نعرفها عن أفريقيا بل وفارة في الخير.
خضرة في كل مكان
أكثر ما يلفت نظر أي شخص يدخل بوركينا فاسو لأول وهلة هي لطافة شعب هذه البلد مبتسم دائما حتى الذين كانوا يتسولون علينا كانوا لطيفين ولم يصروا على تسولهم حين بعدنا عنهم. تجد أيضاً في شوراع العاصمة "فاجادوجو" عدد مهول من الموتسكلات فتقريبا لا يوجد شخص لا يملك هذه الوسيلة من المواصلات فقد سهلت على هذا الشعب التنقل حتى بين المدن.
نسبة المسلمين في "بوركينا فاسو" 70 % من الشعب والنسبة الباقية هي مسيحية وقلة من الوثنية الضئيلة؛ مساجدها بسيطة جداً غالبيتها مبني حديثاً إلا بعض المساجد القديمة والعريقة؛ تعيش الدولة حالة فقر المادة وفقر في الثقافة الإسلامية تلك الدولة التي وقعت تحت الإستعمار الفرنسي 100 عام وعندما خرجت تركت أذنابها في الحكم فمازالت فرنسا هي الحاكم الحقيقي الآن فيها إقتصاديا وسياساً وثقافياً.
نظام الدولة الحالي علماني يأتي رئيس الدولة عن طريق الإنتخاب من قبل الشعب وكذلك البرلمان ونظام البلديات؛ يسيطر على كل هذه الأمور المصيرية المسيحين فالنظام السياسي في يدهم؛ أما القوة الإقتصادية هي في يد الأغلبية المسلمة فأغلب رجال الأعمال والتجار هي من القبائل المسلمة لكن الجهل وعدم وجود الوعي القومي الحقيقي لدي هؤلاء التجار أفقدهم التأثير السياسي أيضاً .
فيتحكم الرئيس الحالي لبوركينا فاسو بليز كومباري وزوجته في تجارة الذهب في بوركينا حيث لا يأخذ الشعب منها شيئاً ذلك الشعب الذي غُيب عن العالم كما غُيبت الكثير من دول أفريقيا النائية بإفقارها وتجهيليها. فاعتمد الإستعمار طول مائة عام على سياسة التنويم بأقناع تلك الشعوب المغيبة بأنها غير قادرة فاتركونا نحن نحكمكم ونتحكم فيكم.
عندما تحدثت مع أحد الأخوة من المسلمين هناك وتحاورت معه حول سبب الجهل والتخلف الذي يعيشه المسلمون ونجاح رئيس مسيحي في دولة عدد سكانها غالبيته من المسلمين فحكى لي أنه فرنسا أفتتحت المدارس التعليمية أثناء الإستعمار وحينها رفض المواطنين المسلمين إرسال أولادهم لتلك المدراس لأنها مدارس الكفار فلم يدخل تلك المدراس إلا النصاري ودخلوا الجامعات واهتمت بهم فرنسا وأرسلتهم إلى جامعاتها وتركتهم خلفاً لها في الحكم بعد منح بوركينا فاسو الإستقلال الصوري فيحكم الدولة الآن المسيحين في دولة يبلغ عدد سكانها المسلمين 70 %. فكل الوظائف تستلزم التخرج من مدرسة فرنسية.
تتواجد العديد من المؤسسات الإغاثية ومؤسسات التضامن في بوركينا فاسو من قطر والكويت والسعودية وتركيا وتقابلت مع أشخاص من العرب المقيمين هناك لأهداف إغاثية ودعوية وتحاورت معهم حول الوضع هناك فدار حديث معهم حول أن على رأس المشاكل التي يعاني منها المواطنين هي التعليم والصحة؛ ما رأيته للأسف أن المؤسسات الإغاثية تهتم بإطعام الفقراء هناك أكثر من الإهتمام بتعليميهم وبصحتهم وهو الشىء الأهم ذا المدى البعيد وهذا متعلق بإستراتجية تلك المؤسسات التي تحتاج إلى تغيير وتطوير في أعمالها القارة الأفريقية الفقيرة حيث فتح مراكز التعليم والتدريب والتربية للأعداد المهولة من الشباب التي تستقطبها المؤسسات الفرنسية وخصوصاً النابغين منهم. والصحة التي غابت في تلك البلاد فلا ماء نظيف ولا طعام يؤكل ولا ثقافة صحية جيدة بين الناس.
تنتشر في بوركينا فاسو عدة لغات منها الرسمية ومنها المحلية فاللغة الرسمية في البلاد ويعرفها الكل تقريباً هي اللغة الفرنسية يأتي بعدها اللغات المحلية المستخدمة بين القبائل حسب جغرافية وأهمية تلك اللغة؛ اللغة المحلية الأولي اللغة الموشية وهي لغة أكبر القبائل الموجودة في بوركينا فاسو؛ ثم لغة الجولة وهي لغة تجارية يعرفها أكثر التجار وهي ليست تابعة لقبيلة واحدة وحتى في دول مالي وتشاد وساحل العاج معروفة هناك؛ ثم اللغة الفلاتية وهي منتشرة بين الشعب.
أستمر المسلمون هناك منذ الاحتلال الفرنسي في تعليم اللغة العربية في المدارس المحلية ومازالت حتى الآن لكنها ضعيفة وقليلة الإمكانات تحتاج إلى دعم قوي ومنظم مخطط له على مدى بعيد كي يؤتي ثماره على المستوى البعيد.
تأتي اللغة العربية في المركز الثاني في الاستخدام حيث اللغات الأجنبية لكن حضورها ضعيف في المؤسسات لأن كل المتخرجين من الكليات العربية والجامعات الإسلامية لا تقبل مؤهلاتهم مهما كانت. والمدارس التي تعلم اللغة العربية ما زالت ضعيفة وحين تحدثت مع أحد المدرسين في إحدى تلك المدارس قال أنا تخرجت في تلك المدارس الضعيفة وبعد التخرج منها لم تقبل الدولة توظيفي لأني لست متخرج من مدرسة فرنسية؛ فليس أمام إلا إن أدرس فيها أو أعمل مزارعاً؛ فأختار أن يكمل فيها محاولاً للإصلاح الصعب الذي حدثني عنها؛ دخلت بعض تلك المدارس فإمكاناتها صعبة جداً والمدرسين أنفسهم فقراء يحتاجون إلى المساعدة.
في العاصمة يلبس الشباب اللباس العادي العالمي من البنطلون والتيشرت ولكن في المدن الداخلية يلبس المواطنين ألبسة محلية تشبه اللباس الباكستاني لكن ألوانه زاهية وملابس مزخرفة وهنا أيضاً قبعة خاصة بهم واضح فيها الثقافة الإسلامية.
صلاة العيد كان منظراً رائعة لوحة جميلة من لوحات الإسلام الجميل حيث يتجمع الآلاف في الميادين ملقين كل اختلافاتهم ومذاهبهم؛ ويأتي الناس من الشوارع المختلفة أفواجاً في شكل رائع يشبه الحج ويغادرون المكان في كتل كبيرة جدً؛ والأطفال يحملون أكياس الحلوى ويلبسون ألبستهم الملونة البسيطة والنظيفة رغم قلة الإمكانات والنساء ومشاركتهم الملحوظة والكبيرة.
يقوم الأطفال بعد الساعة الخامسة مساء بالتجمع فرق وفي أيديهم علب صغير يمرون فيها على البيوت ويجمعون النقود ويتسابقون على كم تلك النقود. وكذلك من عادات القرى المتأصلة والتي لاحظتها عندي سفري مساء من مدينة "فايجي" إلى العاصمة "فاجادوجو" هي تجمع كل أهالي القرية في مكان واحد يشبه الساحة والقيام بالرقصات المحلية وهي من التجمعات النادرة للقرية كاملة تكون فقط في العيدين رمضان والأضحى.
مما يلفت النظر في شوارع العاصمة بعد دخول أوقات المصلين تري عشر أو عشرين شخص أقاموا جماعة ويصلون؛ فتجمع أكثر من عشرين شخص من التجار والعاملين في الدكاكين والحانات ليصلوا أمام محلاتهم بشكل رائع جداً؛ يعكس إسلاماً خالصاً موجودا في تلك الشعوب.
العمل الإسلامي في بوركينا فاسو وفي غرب أفريقيا بوجه موجود وبشكل جيد منذ التسعينات حيث الطلاب الذين ذهبوا للدراسة في الخليج والسودان والدول العربية فأخذوا فكرة الأخوان المسلمين وأسسوا براعم للعمل هناك ولهم الآن جمعيات ناشطة لها تأثير على المجتمع وأحدثت عاملاً جديد في المجتمع. كذلك الفكر السلفي موجود ومدعوم؛ عن طريق الطلاب الذين درسوا في الجامعات السعودية وتأثروا بالفكر السلفي هناك، وتوجد الكثير من الشخصيات المعروفة من العلماء والمشايخ تعملوا على يد الإخوان المسلمين فأكبر جامعة أسسها رجل عالم مشهور في بوركينا فاسو يدعي "ابو بكر دوكوري" وهو عضو مجمع الفقه الإسلامي وله مكانة عظيمة من الناحية الإسلامية هنا.
قال لي أحد مسئولي الجامعات المحلية أن الأزهر يرسل مدرسين وأساتذة جامعات ليدرُسوا في بوركينا فاسو ولهم دور كبير بين الطلاب والمهتمين. ويأخذ أيضاً الأزهر طلاب للدراسة في مصر في جامعة الأزهر.
الجمعيات الإسلامية هناك تتابع الأحداث في العالم العربي بفرح وأمل وتأمل في مصر الكثير للوصول إلى تلك البلاد ودعمها ومساعدتها في نهضتها التي تحتاج إلى وقت طويل.
ما رايته هناك أن فيه خير كثير أرض خصبة جاهزة لكل شيء للتجارة للصناعة للزراعة للاستثمار للتعليم للتربية لصناعة إنسان لتأسيس حضارة لا يعرف معناها أهالي تلك البلاد؛ كميات الأرض الصالحة للزراعة تكفي لإطعام هؤلاء الذين يتضورون جوعاً في بلادهم؛ أصحاب رؤوس الأموال هناك يفضلون التجارة لأنها سهلة ومكسبها قريب فالشعب مستهلك لا ينتج شيئاً لكل ما يأكله من الخارج فلا يصنع شيئاً؛ فلا يوجد رجال أعمال يفتحون المصانع ويشغلون الشباب الكثير الهائم؛ لأنه لن يحصل على ربح قريب.
المدارس التنصيرية مازالت تعمل وتنشط وتتبنى الطلاب في جو لا تخرجهم منه ويمكثون في مدارسهم دائماً وتدرس المنهج البابوي إلى الآن؛ ثم يرسلوهم إلى فرنسا لإكمال الجامعة. والمدارس الإسلامية هناك ما زالت بدائية ضعيفة للأسف.
فإفريقيا تنادينا بمشاريع بعيدة المدى ليس لإطعام جائع بل لإنقاذ شعب مسلم من براثن الجهل والمرض.
مشاهداتي ناقصة فما كتبته ليس شيئا فيما رأيته.