فصلت قناة السي إن إن الإخبارية الأميركية أحد معلقيها البارزين، مارك لامونت هيل، بعد أقل من يوم واحد على إلقائه كلمة في مقر الأمم المتحدة، ضمن فعاليات يوم التضامن مع الشعب الفلسطيني.
لم تقل السي إن إن لماذا قررت فصل لامونت، ولكن السبب لم يخف على أحد. في مطالبته العدالة للشعب الفلسطيني، كل الشعب الفلسطيني، تفوه لامونت هيل بالعبارة السحرية، المخيفة: “من النهر إلى البحر”. هذه العبارة، وليس مجرد المشاركة في اليوم التضامني مع الفلسطينيين، ما أثار غضب الدوائر المؤيدة لدولة إسرائيل في الولايات المتحدة.
ويبدو أن إدارة السي إن إن، لتفادي ضغوط هذه الدوائر النافذة، قررت التضحية بقيم حرية الرأي والمعتقد، والتخلص من معلقها المفوه والمعروف.
في توضيح لموقفه، بعد الإعلان عن قرار الفصل، قال مارك لامونت هيل، أنه لم يقصد باستخدامه عبارة “من النهر إلى البحر” الدعوة إلى تدمير دولة إسرائيل، بل التوكيد على حقوق الفلسطينيين، وحتى اليهود، في كل إرض فلسطين.
ولكن التوضيح لم يكن كافياً، لا لإثناء إدارة السي إن إن عن موقفها، ولا لإخماد غضب مؤيدي إسرائيل الأميركيين. “من النهر إلى البحر” ليست مجرد تحديد جغرافي، بل عبارة ذات تاريخ، عكست يوماً موقف الحركة الوطنية الفلسطينية وحملت الرؤية الاستراتيجية لنضال الفلسطينيين من أجل الحرية والعدالة والحق.
وعندما تكون عجلة الصراع على فلسطين قطعت شوطاً بعيداً إلى “صفقة القرن”، وقد انتشرت المستوطنات الصهيونية في كافة أرض فلسطين، وفتحت العواصم العربية أبوابها، الواحدة منها تلو الأخرى، لأكثر رؤساء حكومات الدولة العبرية صهيونية وعزماً على التوسع، لابد أن يثير استدعاء “من النهر إلى البحر” كل هذا الخوف والغضب.
مثلت هزيمة يونيو/ حزيران 1967 منعطفاً هائلاً في تاريخ النضال الفلسطيني وحركته الوطنية. فللمرة الأولى، منذ بدأ الصراع على فلسطين عقب نهاية الحرب العالمية الأولى، أصبحت فلسطين الانتدابية برمتها تحت سيطرة دولة إسرائيل، وليدة المشروع الصهيوني وحاملته.
كان للهزيمة وقعاً هائلاً في الدول العربية التي خاضت حرب يونيو/ حزيران، سيما مصر والأردن، التي كانت تسيطر على ما تبقى من أرض فلسطين، في الضفة الغربية من الأردن وقطاع غزة، خلال الفترة من 1948 و1967. ولانخراط هذه الدول في التفاوض لمعالجة أثار الحرب، وافقت مصر والأردن على قرار مجلس الأمن الدولي 242 في نوفمير/ تشرين ثاني 1967.
لم يتعامل القرار الدولي مع جوهر القضية الفلسطينية، بل مع مسألتي اللاجئين والأراضي العربية التي احتلتها دولة إسرائيل خلال الحرب. وكان من الضروي، بالتالي، أن تعلن الحركة الوطنية الفلسطينية، التي جسدتها انطلاقة فتح الثانية بعد هزيمة 1967، موقفها من الحراك الدولي، ومن موافقة الدول العربية على القرار 242.
قال الفلسطينيون إن نضالهم انطلق قبل هزيمة يونيو/ حزيران، وسيستمر بعدها، وإن هذا النضال يتعلق بكل فلسطين، فلسطين من النهر إلى البحر، وليس فقط بالضفة والقطاع ومسألة اللاجئين. كان “من النهر إلى البحر” شعاراً عبقرياً، لخص، في كلمات قليلة، الأبعاد السياسية والتاريخية كافة للنضال من أجل فلسطين، وحد كافة القوى والتيارات الفلسطينية، ووحد الأغلبية العظمة من القوى العربية والإسلامية، خلف هذا النضال، ووضع الركيزة الاستراتيجية لرؤية الحركة الوطنية الفلسطينية.
ما لا يقل عبقرية كان الرد الفلسطيني على الذين ادعوا، سيما في الدول الغربية المؤيدة لدولة إسرائيل، أن هذا الشعار يستبطن تصوراً فلسطينياً لإبادة اليهود، القذف بهم إلى البحر، أو ارتكاب هولوكوست ثانية. في استجابتهم لهذه الادعاءات، قال الفلسطينيون أنهم يناضلون من أجل إقامة دولة ديمقراطية على كافة أرض فلسطين، دولة يتمتع مواطنيها جميعاً، بما في ذلك من يرغب من اليهود بالبقاء، بالمساواة والحرية.
خلال السنوات القليلة التالية، سيما بعد حرب 1973، عودة الحياة لعملية السلام، وانخراط مصر في تفاوض مديد مع الدولة العبرية برعاية أميركية، تزايدت الضغوط على منظمة التحرير الفلسطينية لتبني برنامجاً سياسياً يؤهلها للالتحاق بعملية السلام.
لم تأت هذه الضغوط من مصر والأردن وحسب، بل وبصورة أكبر من الاتحاد السوفياتي، حليف منظمة التحرير، الذي كان يسعى إلى تأمين دور له في الشرق الأوسط، محمولاً على الالتحاق الفلسطيني بقطار التسوية والتفاوض. في يونيو/ حزيران 1974، عقدت الدورة الثانية عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني في القاهرة، وانتهت بتبني المجلس لما سيعرف في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية ببرنامج النقاط العشر.
عكس البرنامج، بالرغم من التحوطات اللغوية، تراجعاً فلسطينياً واضحاً عن فلسطين من النهر إلى البحر، رافعاً هدف إقامة دولة فلسطينية مستقلة على أية أرض من فلسطين يتم تحريرها. وليس ثمة شك أن برنامج النقاط العشر كان بداية الطريق الطويل، التي أوصلت بعد ذلك إلى تشظي الحركة الوطنية الفلسطينية، التخلي عن النضال المسلح، القبول بالتفاوض حتى على حدود الضفة الغربية وقطاع غزة، اتفاقية أوسلو، ومن ثم “صفقة القرن”.
في مايو/ أيار 2017، أعلنت حركة حماس وثيقة استراتيجية جديدة، بعد أن أصبح ميثاقها التأسيسي مصدر جدل كبير، وطنياً ودولياً. وكانت حماس، والقوى الإسلامية الفلسطينية الأخرى، حافظت طوال السنوات منذ الانتفاضة الأولى على الالتزام بشعار تحرير فلسطين من النهر إلى البحر.
مثلت وثيقة مايو/ أيار 2017، وبالرغم من التفسيرات الاعتذارية الكثيفة، التي رافقت وتلت الإعلان عنها، خطوة شبيهة ببرنامج النقاط العشر. بمعنى، أن حماس، ولخضوعها لضغوط لا تقل عن تلك التي تعرضت لها منظمة التحرير الفلسطينية في 1974، قررت هي الأخرى غض النظر عن هدف “من النهر إلى البحر”.
تمر القضية الفلسطينية اليوم بمأزق متعدد الأوجه والأبعاد، ولد من سلسلة التراجعات التي أوصلت السلطة الفلسطينية إلى موقع الوكيل الفعلي لنظام الاحتلال، من الانقسام الوطني الفلسطيني، من الانهيارات المتلاحقة في مواقف الدول العربية، ومن الخلل المتفاقم في ميزان القوى الدولي.
ولكن مثل هذا التأزم ليس جديداً على حركة النضال الوطني الفلسطيني. هذه قضية بالغة التعقيد؛ وقد مر الفلسطينيون، بعد نهاية ثورة 1936 – 1939، وخلال المرحلة من 1948 إلى 1967، بظروف تأزم قاسية لا تقل عما يواجهونه اليوم. الخطر الأكبر على القضية الفلسطينية وحركة التحرر الوطني يتمثل في التخلي عن هدف تحرير فلسطين من النهر إلى البحر.
ما يعنيه “من النهر إلى البحر”، في الحقيقة، التحرر الكامل من سيطرة دولة إسرائيل، وليدة المشروع الصهيوني وتجسيده. بوضع نهاية لهذه الدولة، توضع نهاية للمشروع الصهيوني ذاته. وهذا هو جوهر القضية الفلسطينية، الذي يعيد تاريخ النضال الفلسطيني التذكير به من حقبة إلى أخرى.
ليس ثمة سلام ممكن، ولا إقرار للعدل، بدون إعادة بناء علاقات البشر وتعبيرهم السياسي في أرض فلسطين على أسس غير صهيونية، غير توسعية، غير عدوانية، وغير تمييزية. المشكلة في فلسطين ليست في وجود اليهود، أغلبية كانوا أو أقلية. المشكلة في وجود مؤسسة الدولة الصهيونية، المسلحة، التي يستحيل عليها الاستمرار بدون قهر الآخرين، التوسع على حسابهم، ومحاولة محوهم من التاريخ والجغرافيا على السواء