(٢)
المطبخ الألماني هو الأسوأ بالنسبة لي ، يقول أوليفر أن ثمة إيراني بالمدينة يقدم مشويات شهية للغاية ، حسنا يازميلي أنت تعلم تلك المشكلة عن اللحوم الغير مذبوحة ، يهز أوليفر كتفيه في عدم اهتمام قائلا : أنتم المسلمون المتدينون واليهود كذلك تعقدون الأمور كثيرا
هانحن نجلس في صالة الطعام ، اليوم اخترت أطعمة نباتية لاأدري ماهي ، البديل كان لحوما غير مذبوحة وخنزير ، أشرت لعاملة المطعم بكل ثقة : ڤيچيتيريان (نباتي)
جعلت السيدة تصب كثيرا من المعجنات المختلفة فوق بعضها البعض ، غالب الأمر أن هذه (الأشياء) مسحوق البطاطس ، قشر البطاطس وربما شحم البطاطس ، المهم أني أشير لها إلي صنف آخر : هاهنا لاخنزير أو لحوم ، ترد بالايجاب فأطلب منها طبقا
الحقيقة أن هذا (الكائن) الذي أتناوله هو الأسوأ علي الإطلاق ، الصنف الآخر اتضح أنه شوربة ربما جذع شجرة ينبت هنا أو ربما هو البيض أو شيء آخر ، تصر فرانشيسكا علي أنه لذيذ للغاية ، تزم مابين حاجبيها في استنكار وهي تهتف : ألا يروقك حقا ؟
أجيبها : في الحقيقة إنني لاأستطيع ابتلاعه ، إنه مجرد (ابن وسـ…ة) آخر في المطبخ الألماني
تسألني : عذرا ، مامعني (ابن وسـ…ة) ؟
-لاعليك يا فرانشيسكا ، انها مجرد (شايسة) أخري بالعربية
أتشاغل في تقليب هذا الكائن ، ربما أستمتع بتعذيب الشوربة بينما تواصل الزميلة زابينا الحديث عن رحلتها الي سان فرانسيسكو ، الألمان مغرمون للغاية بأمريكا .
أسرح بعيدا ريثما تنهي كلامها ، هذه الأيام أتذكر عشر ذي الحجة في بلادي ، الكثير صائمون ، أجواء وداع الحجاج وأخبار الحج ، بعض الهراء من مسئولي بعثتنا هناك ، الكثير من الأضاحي كذلك تملأ أرجاء البلاد .
ربما لن تستطيع مارية أن تلهو مع (خروف الضحية) كما لهونا نحن صغارا ، الآن يضحي الوالد بـ(عجل) ، عادة بدأتها الجدة بخروف صغير منذ أكثر من عشرين عاما ، يتصل الوالد بي ، سنضحي عنك فلاتقص شيئا من أظافرك أو شعرك
أبتسم وأنا أحدق في حركة تقليب الشوربة المنتظمة وأنا أتذكر (اللهم هذه عن محمد وآل محمد) ، ثم (اللهم هذه عمن لم يضح من فقراء المسلمين) ، حسنا هاهو النبي – صلي الله عليه وسلم – يذكر أهله ثم الفقراء
هاهو يامارية .. يدعو (اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين) ، ياابنتي ليس المسكين شيئا سيئا ، ثمة مساكين يستحقون الكثير منا ، ثلث الأضحية ربما
قبيل المغرب وقبل كل صلاة تصدح مكبرات الصوت في أرجاء مصر بالتلبية والتكبير ، الآن أشتاق لهذا كما كنت أشتاق في رمضان لـ(قرءان المغرب) ، أوه يا أليكساندر تقول لي : صدقني سوف تنسي عما قريب مصر وستسعي للاستقرار هاهنا ، يستنشق دخان سيجارته في عمق واستمتاع ثم يهتف بي : لازلت جديدا هاهنا ياصديقي
لكني يا أليكساندر لازلت أتذكر مصر وأهلها بل وأشم رائحة طعام الجيران عبر الشفاط الذي تم وضعه بصورة غريبة في مواجهة بوابة البيت
يوم وقفة عرفة ياعزيزي ، يصوم الجميع هاهنا ، أقصد في مصر ، يشبه يوما رمضانيا ماتعا .
الجدة – رحمها الله – سنت لنا أكل الديك الرومي في ذلك اليوم ، قالت لي ذات يوم : ألا يمكن أن يكون هذا أضحية لنا ؟ (ده فيه لحمة أكتر من المعزة) !
أجيبها أن المعني في الشعيرة ومانص عليه الشارع
أسمعها تكرر الكلام بعد يوم لمن اقترحت شراء بعض اللحم من الجزار كأضحية
تضيف جدتي : ماتجيبي جدي صغير وتربيه وتاخدي سنة الضحية
أواصل تقليب الشوربة محدقا فيها بينما تتسع ابتسامتي وتستمر زابينا في الحديث عن كازينوهات سان فرانسيسكو
صدقني ياأليكساندر من الصعب أن تنسي ذكرياتك في مصر
ليلة العيد ، بل أسبوع العيد تتذكر نساء مصر فجأة أنهن ينبغي أن يشترين أغراضا للبيت ، وينظفن كل الحجرات ، السجاد ، المفارش ، الشراشف ،الستائر ، وكل شيء !!!
فجأة تكتشف أنت أن البيت قد (تعري) من كل شيء
أخبرتني زوجتي قديما قبل زواجنا أنها تكره هذا تماما ، أذكر أنها أضافت في غضب : لماذا لايقوم الناس بهذا في خطوات بدلا من القيام به دفعة واحدة ؟
لكنها يا أليكساندر تفعل هذا اليوم تماما مثلما تفعل نساء مصر !! دفعة واحدة ، يبدو أن هذه عادة مصرية من نوع تلك التي يتنادون بالحفاظ عليها في الدستور .
حسنا يازميلي العزيز ، البيت يومها يصبح مجموعة من البقاع المحرمة ، ماتدخلشي هنا ، حاسب لاتوسخ الحتة اللي لسة منضفينها ، وأحيانا تضيف العزيزة أم مارية : اقفل الاوضة وخليك جوة ماتطلعشي لحد لما نخلص علشان فلانة بتساعدني
أنا الآن أجلس علي سريري ، الحمد لله علي نعمة اللابتوب والوايرلس ، مارية تعبث في الخارج بمياه التنظيف في جذل ، ضحكات مارية تتواصل ، صرخات أمها تنهاها عن ذلك
الآن صرخات مارية وبكاؤها يازميلي ، كالعادة الأرض زلقة بفعل المنظفات ووسط عبثها (اتزحلقت) مارية ربما للمرة الألف مصطدمة بالسيراميك، أووه هذه المرة يبدو أنها عنيفة بعض الشيء
السكون يخيم فجأة علي الجميع بالخارج ريثما يهدؤن من روع الآنسة مارية ، فجأة يفتح الباب ويقذف أحدهم مارية صائحا في غضب : خد ياأخي خلي دي عندك ، دي حاجة تزهق صحيح
تنظر مارية لي في ترقب ، أقول لها معاتبا : كده يامارية تجيبي لبابا التزعيق كدهه ، أبتسم فتدرك مارية اللعبة وتنفجر ضاحكة
أسائلها في ضحك : إنما مين الولية اللي رمتك ومشيت دي ؟ ، مش شبه ماما خالص !!
صدقني من الصعب أن أنسي يا أليكساندر
صباح العيد نصحو جميعا ، أفضل الذهاب للمصلي مبكرا ، لابد لمارية من الذهاب مبكرا لتحية الجد والجدة ونيل (العيدية) ، لازلت حتي اليوم أنال أيضا (عيدية) ، هي كذلك سنة (الجدة) رحمها الله
في المصلي الكثير من المرح ، مرح أفضل بكثير مما تحكيه الجميلة زابينا عن سان فرانسيسكو ، رغم المصلي المتواضع إلا أن الأجواء تكون رائعة بالرغم من الخطيب الذي لم يتغير منذ سنين طويلة ، فرصتنا لنمارس السخرية المصرية المقدسة فهذا الخطيب يوفر لنا مادة رائعة للتندر !
اتضح يازميلي أن الثورة لم تستطع أن تقترب منه هو أيضا ، مثل كثير من الأشياء المقاومة للتغيير في حياتنا
قبيل الصلاة وريثما تنتهي (جماعة المتحلقين حول الميكروفون) ، أولئك الذين لايصح تكبيرهم تقريبا إلا بصوت عال وفي مضخمات الصوت ، بالكاد أسمع صوت صديق علي الطرف الآخر ، كالعادة يبدأ بالتحية ثم نتبادل الشتائم في وصلة من الضحك والسخرية ، أغلق الخط معه لأبدأ مع عزيز آخر وصلة التحايا والسخرية … والشتائم كذلك
أوووه ، لايا أليكساندر ، لايمكن للواحد أن ينسي ، صعب جدا يازميلي
لازالت زابينا تحكي عن رحلتها ، لازالت ابتسامتي تتسع وأنا أواصل تقليب الشوربة ، تسألني وهي تظن ابتسامتي من إثر كلامها : هل ذهبت إلي سان فرانسيسكو من قبل ؟
أجيبها بالنفي ، تسألني مرة أخري كمن تذكر شيئا : متي تحتفلون بأعيادكم هذه التي ذكرتها ؟
– الجمعة القادمة
– أووووه ، وهل ستأخذ إجازة ؟ أم ستأتي للعمل ؟
– للأسف لا ، الأعياد الاسلامية في ألمانيا غير معترف بها ، فقط مدينة هامبورج بدأت هذا في عيد الفطر الفائت
تجيب زابينا في تأثر واضح : أوه ياللأسف ، إذن ستأتي للعمل يوم عيدكم
أهز كتفي بعدم اكتراث قائلا : وماذا عساني أفعل ؟
تستمر نقاشات الجالسين حول جدوي الإجازة الرسمية للمسلمين في أعيادهم – التي بالمناسبة – لن تصل لـ٩ أيام كما هي أعياد رأس السنة والكريسماس
أوه يا أليكساندر ، يعلم السيد عمرو حمزاوي هذا جيدا فقد درس في جامعة برلين الحرة ، وهو لازال يكرر أن الطريق إلي التقدم يمر عبر حقوق الانسان ومواثيقها
نعم يا أليكساندر ، هذه حقوق مفقودة ، ونحن أقليات ، ونعيش في مجتمع ديموقراطي ، لن تفهمني للأسف ياأليكساندر ، إنها (الديموقراطية يامني) لكنها للأسف ينالها البعض بعد نضال في هامبورج
تسألني الجميلة زابينا : هل حقا تبدو حروف لغتكم جميلة كما وصفتها لي (مونا) ، هل يمكنك أن تكتب لي اسمي علي هذه الوريقة
تبدو الثقافة العربية للناس هنا في ألمانيا جميلة وخلابة ، ومختلفة لكنها حين تتدخل في الحكم وتفرض قوانينها فإن كثيرا من المعترضين يبذلون الأموال للقضاء علي هذه (الرجعية)
تقول فرانشيسكا موجهة حديثها إلي زابينا التي تمسك الوريقة التي كتبت لها بها اسمها في اعجاب واضح : ولكنك لاتفهمين شيئا منها !!!
تجيب زابينا : لايهم ، إنه بالنهاية شكل جميل .
أكررالكلمة بينما تتثاقل يدي التي لازالت تقلب الشوربة : شكل جميل
هذا يفسر كل شيء ، تسألني زابينا : وهل لديكم تحية خاصة في عيدكم مثل (ميري كريسماس) التي لدينا ؟
أجيبها : نعم لدينا ، نقول (تقبل الله) .
تسألني : وهل من رد مخصوص ، أجيبها : نعم يقول (منا ومنكم) .
تضيف زابينا : تفتقد مصر ، العيد ، الأصدقاء والعائلة ، أليس كذلك ؟
أطرق برأسي لثوان ثم أرفعها : الحقيقة أن أمواج مصر قوية بما يكفي لأن تصل بحر الشمال
قوية جدا