قتلت «إسرائيل» أكثر من مائة فلسطيني وجرحت الآلاف في الأسابيع الأخيرة، بسبب «مسيرات العودة الكبرى»؛ وهو ما يمكن تسميتها دون مبالغة «مذبحة»، خاصة وأنّ المتظاهرين كانوا سلميين، ومن بين القتلى أطفال وصحفيون وذوو احتياجات خاصة وغيرهم من الأبرياء. والحصار المستمر على القطاع لأكثر من عقد لا يؤثّر على غزة فقط؛ بل المنطقة بأثرها، فما تفعله «إسرائيل» بحقّ سكانها «مذبحة جماعية».
ونقل السفارة الأميركية في ذكرى «النكبة» دليلٌ قطعيّ على أنّها ما زالت مستمرة؛ فمنذ عام 1948 تمارس «إسرائيل» جرائمها بانتظام، سواء التهجير أو القتل أو القتل الجماعي أو سرقة الأراضي والممتلكات. وهذه الجرائم كانت تلقى ردّ فعل دوليًا من قبل؛ من أبرزها مقاطعة الاستثمارات التي تحثّ الدول والشركات على وقف الاستثمار في «إسرائيل» وسحبها ومقاطعة منتجاتها.
والاحتجاجاتُ حقٌّ أصيل للشعب الفلسطيني للمطالبة بحقوقه المشروعة، ولا تستطيع قوّة -أيًّا كانت- سلب هذا الحق منهم، وتعني الاحتجاجات في الأصل والتضامن معها أنّ الخطوات المتخذة مرفوضة كليًا. والرفض العنلي من فنانين عالميين للجرائم الإسرائيلية والخطوة الأميركية بنقل السفارة والاعتراف بالقدس عاصمة لـ«إسرائيل» خطوة طال انتظارها كثيرًا؛ خاصة وأنّ «إسرائيل» تروّج لنفسها على أنها وجهة جاذبة للثقافة والسياحة، بينما الواقع مختلف تمامًا.
هذا ما تراه الكاتبة السياسية الفلسطينية «ندى إيليا» في مقالها بصحيفة «ميدل إيست آي» وترجمته «شبكة رصد»، مضيفة أنّ تصريحات السياسيين الإسرائيليين العلنية بأنّه لا يوجد متظاهرون أبرياء في غزة وأنّ جميعهم أهداف مشروعة، ومع إعلان المواطنين الإسرائيليين مرارًا وتكرارًا دعمهم لمقتل الفلسطينيين؛ فهذا يكشف القناع عن وجه «إسرائيل» الحقيقي، التي تمكّنت من خداع الغرب تحت ستار الديمقراطية.
الإمبراطورية القديمة
ولا يجب السكوت عن جرائم الدولة اليهودية، بل مواصلة انتقاد أفعالها، كما حدث في المذابح السابقة؛ فللانتقاد المستمر دور في تسليط الضوء على جرائمها ولو بعد حين.
أما بخصوص مجرزة ذكرى يوم النكبة وافتتاح السفارة الأميركية في القدس، فهذا لا يمثّل انحرافًا أو تغييرًا في سلوكيات «إسرائيل»؛ بل هي سياسة تتبعها منذ احتلال الأراضي العربية عام 1967، وقبلها في فلسطين من عام 1948.
أيضًا، السياسات الأميركية نفسها مستمرة؛ فهي التي ساهمت في الآلام التي أصابت الشعب الفلسطيني، وكانت الداعم الرئيس -وما زالت- للجرائم الإسرائيلية.
وبدأ النضال الفلسطيني مع انتفاضة 1936 وحتى 1939 ضد الانتداب البريطاني، ثم انتفاضات عامي 1997 و2000، واتّخذ بدوره أشكالًا عديدة، من العصيان المسلح إلى الاحتجاجات السلمية؛ ودائمًا ما قوبلت بعنف شديد، سواء كانوا مسلحين أو سلميين؛ مثلما يحدث هذه الأيام.
بريطانيا أيضًا لها دور في الظلم التاريخي الواقع على فلسطين؛ فهي التي فرضت في بادئ الأمر قوانين عرفية ظلمت المواطنين، وصاغت كثيرًا من الإجراءات والقوانين التي ما زالت «إسرائيل» تعتمد عليها حتى اليوم وتوظّفها ضد الفلسطينيين؛ بدءًا من التهجير والاستيلاء على الأراضي إلى المجازر الجماعية.
واليوم تُرتكب هذه المجازر برعاية أميركية خالصة، وتمنح «إسرائيل» الدعمين المادي والدبلوماسي اللازمين لضمان إفلاتها من العقاب. وفي كتابه «الاستشراق»، وصف إداورد سعيد هيمنة أميركا عالميًا بأنّها الشمس التي لا تغرب أبدا، مثلما غربت شمس الإمبراطورية البريطانية من قبل وأفلت.
ما وراء الاحتجاجات الفلسطينية
معظم الجرائم التي ارتكبتها «إسرائيل» بحق الفلسطينيين مثّلت نقاط تحول؛ على سبيل المثال: مسيرات العودة الكبرى مثل موقعة عبور جسر «إدموند بيتوس» جنوب أميركا، ومذبحة يوم النكبة مثل «مذبحة شاربفيل» جنوب إفريقيا، التي قتلت فيها شرطة النظام العنصري 69 إفريقيًا أسود بدم بارد.
وستمثّل مسيرات العودة الكبرى نقطة تحوّل بدورها إذا ما تغيّر النمط الفلسطيني في التعامل مع النضال؛ وعلى الفلسطينيين رؤية ما هو أبعد من الاحتجاجات والانتفاضات والتظاهرات العفوية إلى الاحتجاجات المنظّمة جيدًا والمحددة لها أهدافها، الساعية إلى تحقيق نتيجة ملموسة على أرض الواقع، وليست مجرد تعبير عن الألم والغضب.
فبينما نتجاوز مرور مائة عام على إعلان بلفور والذكرى السبعين للنكبة، وسط الغطرسة الإسرائيلية المتكررة، وفي نهاية المطاف؛ من المهم والضروري الحفاظ على الحشد والتنظيم، واتخاذ خطوات جادة تضمن ألا تُكرّر هذه المذابح مرة أخرى.