في 28 أبريل 1945، أي قبل 73 سنة، علّق الإيطاليون جثّة ديكتاتورهم السابق «بينيتو موسوليني» رأسًا على عقب بجوار محطة وقود في ميلانو. وبعد يومين، انتحر «أدولف هتلر» في مخبئه تحت شوارع برلين التي دمرتها الحرب؛ وهكذا بدا أنّ الفاشية ماتت.
ولحماية العالم من تكرار النماذج السابقة، تضافرت جهود الناجين من الحرب العالمية الثانية لإنشاء «الأمم المتحدة» ومؤسسات مالية عالمية، و«الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» وتعزيز سيادة القانون، وانهيار جدار برلين. ولم تصل الحكومات المنتخبة إلى أوروبا وحسب؛ بل وصلت إلى أميركا اللاتينية وإفريقيا وآسيا، في كل مكان تقريبًا؛ وبدا أنّ الديكتاتوريين انتهوا بلا رجعة، وأنّ العصر المقبل للديمقراطية فقط، وتتصاعد الحريات في جميع أنحاء العالم.
لكننا الآن دخلنا في عصر جديد؛ إذ خضعت الديمقراطية إلى اختبار الإرهاب والصراعات الطائفية، والحدود الدولية الضعيفة ووسائل الإعلام الاجتماعية الشاردة. وبالرغم من أنّ جميع البشر ما زالت لديهم التطلعات نحو الديمقراطية والحرية، ورغبتهم في العيش بسلام؛ فلا يمكن تجاهل الغيوم العاصفة التي تُلبّد فوق سماء العالم اليوم، وتصاعدت الفاشية من جديد، مهدّدة العالم أكثر من أيّ وقت مضى.
والآن، يهز خطر الاستبداد في الفلبين والمجر وتركيا، وحتى ألمانيا التي تصاعد فيها حزب اليمين، وفي روسيا وفنزويلا والصين.
وحتى منطقة البحر الأبيض المتوسط، التي مثّلت لها ثورات «الربيع العربي» وعدًا بعهدٍ جديد، احتلها الاستبداديون؛ مثل عبدالفتاح السيسي في مصر، الذي يستخدم مصطلح الأمن لتبرير اعتقال الصحفيين والمعارضين السياسيين. وفي سوريا، بفضل روسيا وإيران، أفلت الديكتاتور بشار من ثورة بلده ضده.
وفي إفريقيا، غالبًا ما يكون الرؤساء أكثر استبدادًا وأطول حكمًا؛ وكل هذه العوامل ساهمت في صعود الفاشية العالمية، وما منحها الفرصة: فوز دونالد ترامب رئيسًا لأميركا، حامي حمى القيم الديمقراطية!
هذا ما تراه السيناتور الأميركية وعضو الحزب الديمقراطي «مادلين ألبرايت» في مقالها بصحيفة «نيويورك تايمز» وترجمته «شبكة رصد»، مضيفة أنّه إذا كان مطلوبًا من الحرية أن تواجه التحديات؛ فالقيادة الأميركية مطلوبة على وجه السرعة في هذا السبيل، وهو أحد الدروس المستفادة من القرن العشرين، بعدما تصاعد نفوذ أميركا على جميع دول العالم تقريبًا. واليوم، تمكّن ترامب بأفعاله من تقليص هذا النفوذ الإيجابي.
عقيدة جديدة
وبدلًا من حشد التحالفات العالمية لمواجهة المشاكل التي اجتاحت العالم، يحاول الترويج لعقيدة «كل دولة لنفسها فقط»، وهو ما قاد أميركا إلى الانعزال عن التجارة واتفاقية «تغيير المناخ» و«السلام في الشرق الأوسط». وبدلًا من الانخراط في الدبلوماسية الإبداعية، أهان جيران أميركا وحلفاءها، وحنث بالاتفاقيات الدولية الرئيسة، وسخر من المنظمات الحقوقية، وجرّد وزارة الخارجية الأميركية من مواردها.
وبدلًا من الدفاع عن قيم المجتمع الحرّ، ازدرى ترامب جماعات الديمقراطية؛ عبر تعزيز أيدي الديكتاتوريين، فلم يعد لديهم ذرة خوف من انتقاد أميركا لسجلات حقوق الإنسان لديهم؛ بل على العكس، فهم يستخدمون كلمات ترامب الآن لتبرير أفعالهم القمعية.
كما هاجم ترامب السلطات القضائية، وسخر من وسائل الإعلام، ودافع عن التعذيب، وتغاضى عن وحشية الشرطة، وحثّ الحلفاء -خاصة العرب- على اتّباع أساليب التخويف والمضايقات. كما حاول تقويض الثقة في الانتخابات الأميركية؛ عبر لجنة استشارية مزيفة بشأن نزاهة الناخبين. وبشكل روتيني، دأب على تشويه مؤسسات إنفاذ القانون الفيدرالية، كما ألقى على المهاجرين سلاسل من السباب وعلى البلدان التي أتوا منها، وساهم في تفاقم الانقسامات الدينية والاجتماعية.
وبدلًا من الوقوف في وجه الاستبداد، يبدو أنّ ترامب يحب المستبدين، وأصبح يسعدهم الدعم الأميركي؛ وأصبح الوضع كالتالي: إذا أراد ديكتاتور ما أن يصوغ سيناريو للفاشية، فدعم القيادة الأميركية الحالية سيجعل المشهد ذا مصداقية.
وما يثير القلق أكثر أنّ ترامب يؤثّر في الأحداث المهمة بطريقة لا يستطيع بها أو أيّ شخص آخر السيطرة عليها، مثل سياسته تجاه كوريا الشمالية التي تتغير كل يوم، والتهديدات الجوفاء بالانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، الذي جعل العالم أكثر أمنًا، والانسحاب منها يقوّض سمعة أميركا ومصداقيتها فيما يتعلق بالالتزام بالاتفاقيات والتعهدات.
كما شرع الرئيس الأميركي في الانتقام من الشركاء التجاريين الرئيسين، وحل صراعات غير ضرورية معهم، وعرّض ملايين معتمدًا عليها للخطر، كما أثارت حملة التطهير الأخيرة لفريقه الأمني كثيرًا من التساؤلات بشأن جودة المشورات التي سيحصل عليها الأيام المقبلة؛ خاصة منذ دخول جون بولتون للبيت الأبيض.
الحل
ويتوجب الدفاع عن الصحافة الحرة، التي لن تكون أبدًا عدوًا للشعب الأميركي كما صوّر ترامب، إضافة إلى تعزيز المبدأ الثابت بأنّه لا أحد، ولا حتى الرئيس نفسه، فوق القانون، وأن يعيد المجتمع المدني في أميركا تنشيط الديمقراطية ويعزّز الاستماع المحترم للآراء المخالفة.
كما يجب على أميركا إعادة تعريف مفهوم الزعامة، وألا يُربط بتأييد الديكتاتوريين والطغاة والمستبدين ومواءمتهم، وتجاهل حقوق الإنسان، وإعادة التأصيل للتعاون الدولي، والعمل على إثراء حماية الحقوق، وإثراء حياة المجتمع؛ ونقل هذه النماذج والأمثلة إلى دول الخارج.