لفهم طريقة عمل السلطة؛ يجب أولًا فحص كيفية اختراقها الحياة اليومية للمواطنين والتحكم فيها على المستوى الجزئي بدلًا من الكلي. وبالرغم من وجود مؤشرات مشتركة لكيفية قمع المجتمع، مثل مستويات حرية الصحافة ومعاملة الأقليات والعنف الذي تمارسه الدولة ضد مواطنيها؛ فهذا النهج يفقتد إلى أهم جانب للسلطة، وهو كيفية إبقاء الجماهير في صفّها دون الحاجة إلى اللجوء للعنف الجماعي.
هذا ما يسلط الضوء عليه المحلل السياسي «ماجد مندور»، من جامعة كامبريدج، في صحيفة «مودرن دبلوماسي» وترجمته «شبكة رصد»؛ مؤكدًا أنّ الدولة لتحقّق هذه الوسيلة تستخدم «الهيمنة الأيديولوجية»؛ باعتبارها عاملًا أساسيًا في واقعهم الاجتماعي.
ففي الحكم الاستبدادي، أحد المفاهيم الأكثر أهمية في عقيدة السلطة هو افتقار الجماهير إلى السيطرة؛ إذ تظل قدرة المرء على التأثير على حياته ومحيطه محدودة ومقيدة نوعًا أيديولوجيًا وحقيقة من حقائق الحياة.
فالجماهير تعتقد أنّ قدرتها على التأثير وإحداث تغيير حتى في حياتها الشخصية محدودة للغاية ومقيدة بقوى خارجية؛ وبالتالي يتقبلون القمع الممارس ضدهم، ويقبلون بانعدام الحركة شرطًا طبيعيًا لوجودهم، وأي عضو متحدّ أو مشاغب يُنبذ بسرعة ويُقمع من أقرانه لا من الدولة؛ ونتيجة لذلك لا تضطر السلطة الحاكمة إلى التدخل كثيرًا وبشكل مباشر، فالمواطنون منخرطون في قمع ذاتي.
دور الدين في القمع
يُعدّ استخدام البناء الديني أحد الأركان الأيديولوجية الأكثر أهمية للقمع؛ لتعزيزه حالة اللامبالاة؛ إذ يُبنى الدين قوة دائمة في الحياة اليومية ويربط بها، والقرارات المتعلقة بالعمل والأطفال والزواج -على سبيل المثال- تُبنى جزءًا من خطة مسبقة بواسطة «الإله». وعلى هذا المنوال، امتلاكك عدد معين من الأطفال أو وظيفتك هي «قدر من عند الله».
كما تُلقى الظروف الاجتماعية الصعبة على عاتق «القوة الإلهية»؛ وهي عبارة عن قوة عادلة، وما يتخذ من قرارات مهمة خارج عن نطاق سيطرة الإنسان، وهي آلية يستطيع النظام المصري استخدامها حاليًا لتبرير تفاقم الأوضاع.
على سبيل المثال: إذا اشتكى أحدهم من البطالة يقنعونه بأنها خطة إلهية عادلة وقدر مسبق، وسيُكافأ في الحياة الأخرى.
معاناة من أجل الخلاص
العامل الثاني في استخدام البناء الديني: استخدام المعاناة رمزًا وأداة للخلاص، وأنّ الذنوب كافة تمحى -على سبيل المثال- إذا عانى المواطن، كما يُنصح بالصبر والصلاة بدلًا من المقاومة.
كما توجد فكرة دينية يستطيع النظام استخدامها، وهي عند معاملة مواطن بطريقة ظالمة فالأمر له علاقة مباشرة بـ«الخطة الإلهية»، والتأكيد أنّ الدعوة مجابة لكن بعد حين. وبجانب ذلك، هناك علاقة بين المعاناة ونقاء روح الشخص؛ إذ يعتقد المؤمن الحقيقي أنه دائمًا مصاب، وأنه اختبار ثابت.
كما يقترن هذا البناء بمفهوم «القوة الإلهية» المتجاوزة للفهم البشري، التي تشارك بشكل ما في تفاصيل الحياة اليومية؛ حتى إنّ السيسي استخدم نفسه هذا المفهوم لإيهام المصريين بأنه قُدِّر له أن يبقى رئيسًا بعدما رأى رؤية لمحمد أنور السادات وساعة أوميجا وسيف أحمر.
في النهاية، هذا البناء له آثار واضحة على السلوك الاجتماعي والسياسي، جزئيًا وكليًا.
اللامبالاة الجماعية
من أهداف أيّ حكم استبدادي تحويل الأشخاص إلى أجسام قابلة للتحكم في حياتها، وينتاب المرء شعور باللامبالاة الجماعية في الأساس عندما يعاني من الاغتراب الذاتي وفقدان السيطرة على المصير؛ ما يؤدي بطريقة مباشرة أو غير مباشرة إلى قبول المظالم الاجتماعية شكلًا من أشكال القانون الإلهي وليس ظاهرة من صنع الإنسان؛ لذا يقضي على مفهوم المقاومة الفردية والجماعية.
ومن التأثيرات الأخرى للامبالاة الجماعية تباطؤ القدرة على الربط بين القضايا التي يواجهها المواطن وسياقها الاجتماعي. على سبيل المثال: ترتبط الظروف الصحية المتدهورة التي يواجهها مصريون باختبار إلهي، بدلًا من ارتباطها بارتفاع مستويات التدهور البيئي والفقر وسوء التغذية ونقص التمويل في مجال الصحة العامة.
ثم هناك قمع ذاتي يمارسه المواطنون أنفسهم ضد هؤلاء الذين يثورون ضد هذه الظروف، أو بمجرد ظهور علامات الاستياء عليهم؛ إذ ينظر إليهم على أنهم متمردون ضد الله. والنتيجة: انخراط الجماهير باستمرار في قمع ذاتي دون حاجة إلى تدخل الدولة.
سبيل النجاة
ما سبق لا يعني أنّ المشكلة تكمن في العقيدة الدينية، ولا حتى في إرث الوحشية والقمع الذي مارسته الأنظمة المصرية المتعاقبة، ولا حتى في الفقر والخرافات؛ بل في الظروف الاجتماعية التي جعلت هذا البناء الأيديولوجي ضروريًا للبقاء، وبالتالي إيهام المواطنين أنّ الحياة لا تطاق بالتخلي عنه، وبالتالي يتكيفون معه.
ولكي يحدث التغيير الاجتماعي المنشود، يجب أن يحدث تغيير في المعتقدات الشعبية والبنية الدينية؛ وهي أمور ضرورية لإحياء الحياة السياسية في مصر أثناء الحكم الاستبدادي.