«ما الفرق الذي حدث؟»، قد يتساءل البعض عن عودة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري ثانية إلى الرياض هذا الأسبوع؛ للمرة الأولى منذ إعلان استقالته من العاصمة السعودية ثم تراجعه عنها بعد. فهل يعني هذا أنّ المملكة تعلّمت من الدرس السابق، الذي رآه كثيرون خطأ استراتيجيًا كبيرًا ارتكبه ولي العهد محمد بن سلمان؟ وهل يشعر الحريري بمزيد من الثقة في مواجهة «عرّابه الإقليمي»؟
بهذه المقدمة، تتساءل الباحثة السياسية في علاقات السنة والشيعة بالشرق الأوسط في جامعة جورج تاون «أوريلي ضاهر»، في تحليلها بمجلة «لوب لوج» الأميركية وترجمته «شبكة رصد»؛ مؤكدة أنّ الأمور ليست سهلة خاصة، وكثيرًا على المحك.
تلقّى سعد الحريري دعوة عاجلة لزيارة الرياض في نوفمبر الماضي، وكان مقررًا له أن يتلقي ابن سلمان؛ لكنّ الجميع فوجئوا في اليوم التالي بإعلانه استقالته من منصبه رئيسًا للوزراء، مهاجمًا إيران وحزب الله واتهمهما بالتخطيط لاغتياله، ثم تراجع عن استقالته بعد خروجه من السعودية.
وتيقّن الجميع بقوة أنّ ولي العهد السعودي هو الذي أجبر الحريري على الاستقالة من منصبه؛ بهدف إثارة التمرد داخل الكتلة السنية اللبنانية ضد الكتلة الشيعية بقيادة حزب الله، وتفكيك الحكومة وتشكيل حكومة جديدة تستبعد الشيعية؛ لكنّ الخطة أتت بنتائج عكسية، فلم يتمرد اللبنانيون السنة ضد إخوانهم الشيعة؛ بل ضد ولي العهد السعودي، وشعرت جميع الطوائف اللبنانية بالسخط والغضب الشديدين، وأن سيادتهم انتهكت بشكلٍ صارخ.
وما فعلته السعودية مثّل تصعيدًا مبالغًا فيه؛ إذ وصلت الأمور إلى نقطة كانت ستثير حربًا شاملة، تضيف للعنف العراقي والسوري عنفًا لبنانيًا. لكن، في نهاية المطاف، وتحت ضغط فرنسي أميركي؛ أُقنعت السعودية بالتراجع عن خططها، وأعيد الحريري إلى منصبه، وقُبل الوضع السابق في لبنان.
وهذا الأسبوع، عادت الرياض لإرسال رسائل إيجابية للنخبة السياسية اللبنانية والمواطنين اللبنانيين؛ ففي خطوة غير مسبوقة أرسلت الرياض دعوة رسمية للحريري لزيارتها، واختيار مقابلة «نزار العلولا» مستشار عون. وبالرغم من أنّ السعودية لا تزال تقاطع عون منذ الخريف الماضي، أصرّت على الاجتماع بمستشاره؛ ما يعني أنّ السعودية ترسل رسالة مفادها أنها «تحترم سيادة لبنان وتدعم استقراره».
الدرس السعودي
للإجابة عما سبق؛ يجب أولًا الإجابة عن السؤال التالي: هل وجود الحريري في الرياض زيارة أم استدعاء؟
فالحرير توجّه إلى الرياض في اليوم التالي الذي وصل فيه العلولا إلى بيروت، وكان مفترضًا أن يبقى لهذا الأسبوع للنقاش معه. لكن، من الواضح أنّ الحريري على عجلة من أمره لمقابلة مرشديه السعوديين.
ولم تتوفر بعد معلومات كاملة بشأن رحلته الأخيرة. لكن، بعكس زيارته السابقة في نوفمبر التي استقبله فيها «الحرس الملكي»، استقبله هذه المرة دبلوماسيون سعوديون رفيعو المستوى.
وفي اليوم التالي، التقى الحريري بالملك السعودي سلمان، والتقاه ابن سلمان بعدها بيومين؛ وفرق الوقت يلفت إلى أن المصالحة لم تكتمل بعد. كما عكس التعتيم الإعلامي على الزيارة بأنّ الحريري انشغل باجتماعات مع المسؤوليين السعوديين، وناقشوا الوضع اللبناني والمنطقة.
والرهانات السعودية على لبنان أعلى بكثير من مجرد «تشكيل حكومة أو حلها»؛ فالسعوديون متخوفون من أنّ الانتخابات اللبنانية المقبلة في لبنان ستسفر عن أوضاع سيئة لهم.
ولفهم ذلك، كان الحريري في البداية يتجاهل أصدقاء السعودية المسيحيين في تحالفه، مثل «سمير جعجع وسامي الجميل»، ويعتقد أنّ الاثنين اتفقا مع الرياض على إبعاد الحريري من منصبه رئيسًا للوزراء أثناء زيارتهما المملكة في سبتمبر الماضي؛ أي قبل زيارة الحريري بشهرين.
ويعتقد الاثنان أنّ الحريري ضعيف في مواجهة حزب الله؛ ولذا يريان أنه من الضروري استبداله بـ«رئيس وزراء أكثر شجاعة في مواجهة حزب الله».
لكنّ الأمور تغيرت الآن؛ إذ تحالف الحريري من جديد مع أعدائه المسيحيين الرئيسين، المتمثلين في حركة عون الوطنية. وما لم تتدخل الرياض وتقنع الحريري بضرورة تغيير رأيه فالحصة التقليدية في مقاعد البرلمان للمسيحيين المؤيديين للسعودية ستنخفض بشكل كبير وخطير لها.
وفي الوقت نفسه، زادت قوة الحريري بشكل كبير؛ إذ أكّدت صحيفة «واشنطن بوست» قبل أيام أنّه بفضل ما حدث في نوفمبر الماضي «الحريري الآن في وضع أفضل في لبنان بالنسبة لحزب الله».
ودافع المجتمع السني اللبناني عن الحريري أثناء اعتقاله في السعودية، كما طالب عون بالإفراج عنه، واعتبر سجنه انتهاكًا لسيادة لبنان؛ لكنّ ضعف شخصية الحريري وسياساته المختلطة أفقدته جزءًا كبيرًا من الدعم الذي تمتع به في العقد الأول من الألفية الجديدة.
إضافة إلى ذلك، الحرب في سوريا والدعم الذي قدمته السعودية ودول الخليج لجماعات جهادية هناك تسببا في رسائل مختلطة بين المجتمعات السنية في المنطقة، حتى بين السنة اللبنانيين، وكذلك مشاكل الحريري المالية، التي تفاقمت في السنوات الأخيرة، وعجزه عن دفع رواتب موظفيه؛ كلها بتخطيط السعودية.
ويدرك الحريري الوضع في لبنان جيدًا؛ حتى إنّه بدأ يفقد شعبيته في مسقط رأسه بصيدًا، وفي بيروت، حيث فاز في الانتخابات بانتظام منذ مقتل والده في 2005، وهناك شائعات برفض المواطنين له في منطقة حاصبيًا، التي لا يشعر أفرادها بارتياح؛ نتيجة محاصرة المناطق الشيعية والدروز لهم، وهناك تقارير أيضًا تفيد بأن المواطنيين البانيين السنة سيفضلون مرشحي عون على الحريري.
اختيار المستحيل
أرسل الحريري رسالة واضحة في ذكرى مقتل والده في 14 فبراير الماضي، أكّد فيها أن حزبه يرفض ضرب أي تحالف انتخابي مع حزب الله. وفي اليوم التالي، التقى به وزير الخارجية الأميركية «ريكس تيلرسون»، وعقب الاجتماع أكد تيلرسون أنّ لبنان سيبقى منفصلًا عن الصراعات الإقليمية؛ ومن الواضح أن الرياض تلقت الرسالة وأرسلت للحريري للنقاش معه.
وأكّد الحريري في الخطاب نفسه أنه «لن تكون هناك أموال للانتخابات هذا العام»، ونفى بوضوح الشائعات التي تتهم حزبه بشراء أصوات مؤيديه. والأهم من ذلك، أنه يلقي باللوم على السعودية، ويخبرهم بأنهم «إذا خسروا هذه المرة فهذا خطؤهم».
وخفّض السعوديون مساعداتهم المالية للحريري منذ مدة، ويفترض أن التخفيض انتقام منه لإهماله رغباتهم، كما استولوا على شركات رئيسة له في المملكة.
وليحافظ على أرضيته قوية؛ يحتاج الحريري إلى السعوديين. وفي الوقت نفسه، مساعدة السعودية ستأتي بتكاليف كثيرة؛ ففي مقابل الدعم السعودي عليه أن يرفض أي تحالف أو حل وسط مع حزب الله، أو بمعنى آخر: عليه رفض صيغة الوحدة الوطنية الشعبية التي حلّت كثيرًا من المشاكل اللبنانية»، كما سيضطر إلى العودة لخطاب أقل اعتدالًا؛ من شأنه أن ينزع فتيل العداء الطائفي ويخاطر بتصاعد التوترات العنيفة بين السنة والشيعة اللبنانيين من جديد.
كما تمثّل محاولة حفاظه على قوة حزبه وتحالف 14 آذار مشكلة رئيسة أخرى؛ فإذا رفض الحريري أي حل وسطًا مع حزب الله سيضطر للتخلي عن منصبه رئيسًا للوزراء، وبذلك انتحر سياسيًا؛ وهناك سياسيون كثيرون مستعدون ليحلوا محله.
فعلى الحريري والسعودية أن يفهما أن الطاغوت الإقليمي لا يمكن أن يفوز على القوة الوطنية، وأنّ سياسة التعصب السني في لبنان محكوم عليها بالفشل المسبق؛ إذ أوضحت الدائرة السنية اللبنانية أنها غير مستعدة للدخول في حرب أهلية أخرى مع الشعية، وهو ما دفع حزب الله للاعتراف باستعداده التعاون مع السنة من الأساس، ومثّلت مناورة السعودية الماضية مع الحريري فرصة لحزب الله لتمكين نفسه من جديد وبشكل أكثر قوة.
ويواجه الحريري اختيارين صعبين الآن: إما إعطاء الأولوية لتحالفه مع السعوديين، الذين لن يقدموا له أكثر مما قدموا، أو تحفيف علاقته مع المملكة كما يريد حزب الله؛ وهو الاختيار الصعب أيضًا.