منذ ستون عاما و البطش الاسرائيلي في أرجاء الوطن المحتل "فلسطين" لا ينتهي قتل هنا تشريد هناك تجريف وتهجير ؛ لم يكن للفلسطينيين خيارا آخرا لمواجهتهم إلا المقاومة
وليتها مقاومة متكافئة إنما هي مقاومة مختلة الأطراف ،طرفها الأول عدوا بعدة وعتاد بجيش قد تسلح بأعتى الآليات والمدرعات ،يحظى بميزانيات عالمية لتسليحه وأمما متحدة تحميه وولايات متحدة تؤيده ومجتمع دولي صامت عنه وشعوبا عربية قد غطت في نوم عميق؛ بينما الطرف الآخر محاصر محتل عدته إما سلاح أبيض أو سلاح متهالك يحصلون عليه تهريبا في أحسن الأحوال لكنه عرف كيف يكون صداع في رأس عدوه يسومه سوء العذاب .
لايخفى على أحد صواريخ المقاومة التي ضجت مضاجع سابع أقوى جيش في العالم جعلته ينتفض جنونا من أجل إيقاف تلك الصواريخ التي كبدتهم الخوف والقلق يوما بعد يوما .
"جنين"اسم لا يخفى على أحد فهو المخيم الأشهر في السنوات الأخيرة حيث قامت فيه قوات الإحتلال بمجزرة من أبشع ما قامت به في تاريخ مجازرها ويبدو ايضا أن شهر إبريل هو شهر المجازر في تقويم جيش الإحتلال ففي9 إبريل 48 كانت دير ياسين وفي 2إبريل 2002 كانت جنين ،
حين فشل العدو الإسرائيلي في إثناء المقاومة عن إلقاء صواريخها على تل أبيب وحين بدأت تصل للعمق الإسرائيلي وتسبب ذعر المستوطنين داخل الخط الأخضربدأ الجيش في التحرك في عملية أطلق عليها "السور الواقي" بدأت بوادرها يوم 28 مارس من العام 2002 .
بيد أن الضرب بدأ فجر يوم الثاني من إبريل حيث اتجهت العشرات من الدبابات والمجنزرات صوب المخيم دعمتها المروحيات العسكرية وعدد كبير من جنود المشاة منتظرين اللحظة المناسبة للإنقضاض على المخيم ونسفه .
في الداخل بدأ الشباب والأهالي في الاستعداد للمجابهة بدأوا في دفن العبوات في مداخل الطرقات وتدبير الكمائن هنا وهناك وتشكيل عناصر المراقبة في أرجاء المخيم متحينين الضربة الأولى.
2إبريل :
فجر يوم الثلاثاء الثاني من ابريل بدأت الدبابات الإسرائيلية تتقدم نحو المخيم محاولة فصل المخيم عن المدينة ؛احتل الجنود البيوت في مداخل المخيم واتخذوا من الأهالي دروعا بشرية من أجل إعاقة المقاومة من تسديد الضربات لهم ،بقى عدد كبير من المرابطين داخل المدينة وفي مناطق "السيباط"، و"المراح"، و"الحي الشرقي" بعد أن غادر الشباب بكثافة واحتشدوا داخل المخيم بعد أن بدأت أعداد هائلة من العسكريين الإسرائيليين في التوجه داخل المخيم مما جعل المشهد دليلا على أن معركة دامية ستكون في الداخل .
حاولت قوات الجيش اقحام المدينة والمخيم إلا أن الشباب واجهووها بمقاومة عنيفة مستخدمين عبوات المولتوف أو "الأكواع" كما كانوا يطلقون عليها وهي التي أعاقت دخولهم في البداية وعطلت آلياتهم من اختراق المخيم .
بدأ الجيش الضرب في كل المحاور وعلى كل الإتجاهات بلا هواده في أطراف المخيم من الجابريات إلى الحي الغربي وحتى خلة الصوحة ومحيط كراج الناصرة والسويطات في المدينة .
ومن أوائل الشهداء الذين سقطوا في أول يوم كانت الممرضة "فدوى" والتي استشهدت وأصيبت شقيقتها؛ في الوقت الذي خرجتا فيه لإنقاذ المصابين الذين سقطوا أمامها .
3إبريل :
الأربعاء الثالث من إبريل ، قام الجيش الإسرائيلي بفصل شبكة الماء والكهرباء عن المخيم والمدينة بأكملها واستولى الجيش على عدد من البيوت في أسفل الجابريات وفي حي الزهراء المواجهين للمخيم من جهة الشمال وفي حي الهدف من الجهة الغربية لمخيم جنين وتم تطويق المخيم بأكبر عدد ممكن من الدبابات من أجل عزله تماما واستمر القتال على أشده في المخيم إلا أن الإسرائيليين كانوا قد خسروا أحد قادة الوحدات الإسرائيلية وهو "موشيه جبتس"مما دفعهم لوقف القتال مؤقتا .
4إبريل:
صبيحة الخميس الرابع من إبريل استعصى اختراق المخيم على آليات الجيش الإسرائيلي فحاولت الاقتحام من الناحية الشرقية إلا أن معارك ضارية دارت في كل من المراح وشارع فيصل ومنطقة الكراجات في المدينة فأجبرت القوات على التراجع من أجل إبقاء المعركة مركزة داخل المخيم علاوة على منع عربات الإسعاف والطواقم الطبية من دخول المخيم وإنقاذ الجرحى أو إسعافهم ونقل الشهداء وسد كل الطرق الموصلة إلى مستشفيات الرازي والشفاء وأغلق مداخل المدينة في وجه موظفي الصليب الأحمر الدولي.
واحتلت قوات الاحتلال بعض المنازل المشرفة على المخيم واستخدمتها لإطلاق نيران رشاشاتها على بيوت المخيم وتوغلت قوات الاحتلال في المنطقة الشرقية من المدينة واحتلت بعض المنازل في "حي الدبوس"وحاصرت قوات الاحتلال منزل رئيس بلدية جنين ودارت معارك في محيطهومنعت قوات الاحتلال سيارات الإطفاء من الوصول إلى المنازل التي اشتعلت فيها النيران واعتقلت رجال الإطفاء الذين كانوا على متنها.
5إبريل:
يوم الجمعة الخامس من إبريل كان القتال وصل ذروته بين الجيش الإسرائيلي وبين شباب المقاومة داخل المخيم مما جعل كل محاولات الجيش لاقتحام المخيم تبوء بالفشل ،في الساعات الأولى من المساء بدأت الدبابات بالانسحاب حتى بدا الأمر وكأن العملية قد انتهت الا انه في منتصف الليل اهتزت ارض المخيم من وقع أقدام قوات الاحتياط من فرق "جولاني و"جفعاتي" وهي من أعتى ألوية الجيش الإسرائيلي من حيث التسليح والتدريب والتي قام باستدعائها شاؤول موفاز رئيس الأركان ليستعين بها لاختراق المخيم .
تلك الخطة الجديدة التي اعتمدها شاؤول والتي جعلته يعلن بأنها الليلة الأخيرة خارج المخيم وأن الشمس لن تشرق عليهم إلا وهم داخله .
قبل أن يخترق اليهود المخيم كان القتل يعمل على أشده ،في تلك الليلة فقط استشهد حوالي سبعة من سكان المخيم وتم نقلهم إلى المشفى القريب إلا أن امتلاء الثلاجات بجثث الشهداء حال دون بقاءهم في الداخل فاضطر الأطباء لدفنهم في ساحة المشفى لعدم امكانية الوصول لمدافن المخيم .
في ذلك الوقت وصلت التعزيزات العسكرية للجيش الإسرائيلي المحاصر للبلدةعبر شارع حيفا ، مجموعات من الدبابات والمجنزرات لإحكام قبضتها على المخيم، وفي تمام التاسعة والربع بدأ القصف من جديد وبدأ بمستشفى الرازي التي كانت تضج بالجرحى وذويهم والطواقم الطبية
والمئات من الشهداء ،علاوة على ذلك بدأت مروحيات الأباتشي في قصف المخيم وهدمت بقذائفها الثقيلة بيوت العائلات المدنيين منها بيت المنصور وبيت السجانة وهي في مدخل "السيباط الشمالي" علاوة على الحرائق التي اشتعلت في البيوت من جراء القصف فاحترق بيت راجح أبو عليا ومحمد جرار وعددا آخر من البيوت ، قبل الاقتحام بدأت الجرافات في تجريف قبور الشهداء ونبش رفاتهم إمعانا في إثارة ذعر الأهالي داخل المخيم.
6إبريل:
في يوم السبت السادس من إبريل كان قائد العملية قد رفع راية الإستسلام وأعلن فشله في اقتحام المخيم مما دفع شاؤول موفاز لإقالته واستلام ملف العملية بنفسه وبدأ في تعبئة القوات أكثر وأكثر وحشد عدد أكبر من الآليات من أجل دك المخيم وتسريع اقتحامه ثم بدأت للمرة الثانية عمليات القصف بالأباتشي على نطاق واسع من أجل تدمير المخيم كلية ،بدأ القصف من الجو ومن البر عن طريق الدبابات والمدفعية وفي الوقت الذي كان يتوقف فيه القصف تبدأ الجرافات في فتح الطرق من أجل تسهيل عبور الآليات لداخل المخيم في كل الاتجاهات شرقه وغربه ووسطه وكان التدمير قد نال كل من حارت الدمج وتم نسف حارة الحواشين كلية وجورة الذهب وأجزاء كبيرة من الحي الغربي .
من 7إبريل وحتى 14 إبريل:
من يوم الأحد السابع من إبريل وحتى الأحد الرابع عشر من ذات الشهر بدأت قوات الإحتلال في تفريغ المخيم من سكانه وإجبارهم على النزوح للقرى المجاورة للمخيم فتجمع عدد كبير من الأهالي وقاموا بعمليات نزوح جماعي وأووا إلى مساجد ومدارس القرى المجاورة مثل "رمانة" و"اليامون" و"كفر ذان" و"سيلة الحارثية"وقرى غيرها.
ثم بدأت في تلك الآونة عمليات الإتصال بالصليب الأحمر من أجل إنقاذ من كانوا داخل المخيم من شباب المقاومين وبدأت عمليات التفاوض مع قوات الاحتلال إلا إنها رفضت دخولهم المخيم وفشلت محاولات الإنقاذ في إخراجهم من الحصار ،بعدها وصل مبعوثون أوروبيون إلى المدينة وحاولوا الوصول إلى داخل المخيم من أجل استكشاف الأمر لكن القوات التي حاصرت المخيم رفضت دخولهم وبقوا عالقين على أبوابه.
يذكر أيضا من جرائم الجيش في تلك المجزرة انها سمحت لطواقم البلدية المتخصصون في المياه والكهرباء دخول المخيم بعد أن تم تدمير الكهرباء والمياه والطرق والصرف الصحي والآليات، وحتى معدات وحاويات جمع النفايات كلية لكن بمجرد دخولهم بدأت في إطلاق النار عليهم هم أيضا فسقطوا شهداء مما زاد الأمر صعوبة داخل المخيم .
كانت الآلة الإسرائيلية لا تستحي من صب حممها على رؤوس من بقي في المخيم من أهالي ومقاومين نفدت ذخائرهم من أجل إفنائهم جماعيا والوقوف على أشلاؤهم بعد صمود أسطوري قام به أهل المخيم وفي رسالة وجهها الجيش إلى أهالي المخيمات والمدن الأخرى من سيقف في وجهنا مصيره الفناء الحتمي .
15إبريل:
"يشبه إلى حد كبير ما تخلفه هزة أرضية " كان هذا أول ما صرح به رئيس بلدية جنين بعد ما رأى حجم الدمار داخل المخيم حين سمحت قوات الإحتلال بدخولهم وللمرة الأولى بعد انتهاء عمليات القصف يوم الإثنين الخامس عشر من إبريل ،فقد كانت الجثث المحترقة تملأ المخيم جثث معلقة في المنازل المنهارة، بيوت بالكامل مدكوكة على رؤوس أصحابها ،شرفات ونوافذ آيلة للسقوط في أي لحظة ،قال رئيس البلدية إن عمليات الإنقاذ مستحيلة بإمكانيات بلديته .
16إبريل:
ظهر الثلاثاء السادس عشر من إبريل دخل إلى المخيم وفد حقوقي مكون من تيري رود لارسن" مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة، و"بيتر هانسن" مسؤول "الأونروا" وممثل مفوضية حقوق الإنسان وتم الاجتماع بينهم وبين رئيس البلدية وقتها "وليدأبو مويس" ومحافظ جنين "زهير مناصرة"بدأت بينهم محادثات حول منهجية عملية الغوث داخل المخيم وبدأت حواراتهم الصحفية من أجل فضح جرائم الجيش في الداخل مما جعل إسرائيل تشن حملة شرسة عليهم من أجل إسكاتهم .
في الأيام التالية تسلل إلى داخل المخيم بعض الشخصيات الدبلوماسية مثل مبعوث الرئيس الروسي (أندريه فيدوفين)، وسفير ألمانيا الاتحادية، والسفير الروسي، ومساعد وزير الخارجية الأمريكي وليام بيرنز الذي دخل متخفياً مع طواقم الأمم المتحدة وعدد كبير من مبعوثي الهيئات الدولية ومنظمات حقوق الإنسان والبعثات الدبلوماسية الأوروبية وجرت بينهم وبين الناجين مقابلات عدة رووا فيها ما شاهدوه من قصف ودمار وانتهاكات قام بها الجيش في حقهم .
كانت تلك قصة جنين الخيم الصامد الذي هز أركان جيش الاحتلال ولم يسقط إلا بعد أيام من المقاومة استبسل فيها ابناؤه حتى النهاية ،مخيم أراد اليهود أن يكون مثالا للعقاب الجماعي إذا ما أراد شعبا أن يبقى حرا عزيزا.