مع انتهاء شهرها الخامس، ما تلبث الأزمة الخليجية بين قطر ودول الجوار تشهد انفراجة حتى تقفز إلى المشهد وتختفي معلنة عن فشلها واستمرارها قائمة بين الطرفين. لم يقتصر الخلاف على المستويين السياسي والدبلوماسي؛ بل امتدت إلى حصار شبه جوي وبري يلقي بظلاله على الحياة الاقتصادية في الداخل القطري؛ ما جعل السلطات وحلفاء في الخارج يعرضان مساعداتهما لتجاوز أيّ آثار سلبية، حسبما نشرت صحيفة «الجارديان».
وأضافت، وفق ما ترجمته «شبكة رصد»، أنّ «جون دوري» توجّه إلى مطار الدوحة الدولي الفخم ليستقبل الرحلة القادمة من لوس أنجلوس عبر بلجيكا الساعة الثامنة مساء، يرتدي قبعة من القش، مع شارة معدنية صغرى تعلن عن جذوره الأيرلندية، وزواره على وشك الوصول؛ لكنهم ليسوا من عائلته ولا أصدقائه، كما أنها ليست لبشريين على الإطلاق؛ وإنما قطيع من البقر، يبلغ عددهم 120.
قد يبدو لك أنّ مزارعًا يبلغ من العمر 58 عامًا من «كو كيلدار» شخصية محورية غير محتملة في النزاع المرعب بين أصحاب العروش الخليجية. ولكن، بصفته الرئيس التنفيذي لمزرعة مترامية الأطراف في الصحراء على بعد 60 كم شمال العاصمة القطرية الدوحة، فهو يؤدي دورًا حيويًا في صراع قطر من أجل البقاء السياسي.
أصبح الأمن الغذائي هدفًا أساسيًا لبلد يواجه مقاطعة برية وبحرية وجوية فرضتها السعودية والإمارات ومصر والبحرين في يونيو. وهي خطوة جائت كجزء ركيز من نزاع جيوسياسي طويل الأمد ويتدهور؛ إذ بدأ تكييل الاتهامات إلى قطر بتمويل الإرهاب واستضافة كأس العالم ودعم الإخوان المسلمين وإيران، والتحكم في مستقبل صحافة الشرق الأوسط.
سواء كانت قطر تستطيع تحمّل المقاطعة أم لا؛ فهو اختبار بشأن ما إذا كان الاقتصاد المزدهر سابقًا لها قادرًا على النجاة والبقاء على قيد الحياة، ليس في مواجهة الحصار المالي فقط؛ بل أيضًا أمام سحب استثمارات الجيران السعوديين والإماراتيين، وإذا نجحت الدوحة في الصمود أمام هذا الحصار، سيصبح موقف قطر أكثر قوة وصلابة في فرض سياستها الخارجية المستقلة، وإجبار السعودية على أخذ خطوة للخلف.
وكما يشهد أفقها، فقطر ليست دولة تصنع أشياء بتدابير منقوصة؛ إذ تلقي مزرعة «بلادنا»، وهي شركة الطاقة الدولية القابضة، الأموال في خضم هذا التحدي. واعتمدت قطر سابقًا على السعودية في معظم احتياجاتها من الحليب، وفي البداية اضطرت للاعتماد على كرم حلفائها الإقليميين المتبقيين «تركيا وإيران».
يستورد «دوري» الأبقار من الولايات المتحدة بشكل سريع، ويخطط لتكملة قطيعه الحالي البالغ أربعة آلاف بقرة؛ ما يجعله يستحوذ على ما بين 30% و40% من سوق الحليب في قطر، وبالإضافة إلى عشرة آلاف أخرى تأتي بحلول الصيف المقبل؛ يصبح ذلك كافيًا لتلبية احتياجات اللبن لسكان البلد الذي يبلغ عدده 2.3 مليون نسمة.
تُنقل آلاف الأبقار إلى حظائرها الخاصة في المستودعات العملاقة، وما زال عمال اللحام يستكملون بناء السور.
وتُبرّد الحظائر بمراوح عملاقة، إضافة إلى أعمدة تنثر رذاذ مياه لمنع الحرارة المتعرجة والرطوبة.
وتتلقى الأبقار أغذية جافة، ويُستخرج الحليب منها بشكل ميكانيكي؛ عبر آلات دوارة متطورة قادرة على العمل على مدار 24 ساعة. ويتيح معرض للاطلاع للأسر القطرية التي لديها فضول أن تشاهد الحلب. وفي أماكن أخرى على الموقع الشاسع، الذي يمتد لمساحة 173 فدانًا، وتسوي عشرات الحفارات المنطقة لتصبح جاهزة لبناء مزيد من حظائر الماشية.
الأمر برمته يذكّرنا كثيرًا بخط إنتاج السيارات، ولكن المزارع التي تأسست على أراضٍ صالحة للزراعة، المنشأة أجزاء قاحلة من الولايات المتحدة، أصبح هذا النموذج ينتشر بسرعة في جميع أنحاء الشرق الأوسط.
ويقول دوري إنّ «المقاطعة كانت عظيمة لقطر من جانب ما»، وأضاف: «إنها دعوة لاستيقاظ البلاد كلها؛ إذ جعلتهم يدركون كل الفرص المتاحة لهم، ليس في الزراعة فقط. يأتي ما قرابة 80% من طعامها من جيرانها، أحيانًا قد تشتعل الحرب أو يُلوح بها كتهديد؛ ما يجعل البلدان تنظر إلى أمنها الغذائي، انظروا إلى السياسة الزراعية المشتركة في أوروبا».
ويتابع «دوري» حديثه قائلًا إنّ «الشعب الذي أطلق النار على قدميه هم السعوديون، إذا رُفع الحصار هناك كثير من المشاعر المؤيدة لقطر والفخر القومي بأن الشعب سيشتري الحليب القطري وليس السعودي، وأعتقد أنّ البيئة بأكملها ستتغير تمامًا. التحدي لدينا هو الحصول على ما يكفي من الحليب، وإذا تمكنّا من إنتاج ما يكفي من اللب، فالقطريون سيشترونه».
ويقول دوري إنّ مزرعته ستكون أكثر إنتاجية مقارنة بنظيراتها السعودية؛ إذ تبلغ نسبة العمالة شخصًا واحد لكل 75 بقرة، مقابل واحد لكل 45 بقرة، كما أنّ أبقاره ستقف أيضًا على مراتب مطاطية، وستزيل الآلات نفاياتها، وقال: «سننتج ما يكفي من السماد لتحويل قطر إلى اللون الأخضر».
الاكتفاء الذاتي في الغذاء هو اختبار واحد فقط بشأن إذا كانت قطر قادرة على تحمل الحصار أو ربما تصبح حتى أقوى، وعلى استعداد لاستقبال عشرات الآلاف من الزوار لكأس العالم 2022.
وبشأن الاحتياطات النقدية والطاقة القطرية، اتخذ الاقتصاد ضربة أولية. إذ شهدت الأشهر الأولى قلقًا وتدفقات كبرى من الودائع الرأسمالية، وضخّ بنك قطر المركزي وصناديق الدولة الأخرى ما يقرب من 38.5 مليار دولار من احتياطيات البلاد، البالغة 340 مليار دولار، إلى الاقتصاد؛ لتخفيف الضغط على سعر الصرف، وتخفيف أثر انخفاض الاستثمار، وفقًا لتقرير «موديز».
وفي آثار جانبية أخرى للضغط، على الرغم من الانتعاش المحدود الأخير، كانت بورصة الدوحة في منحنى هبوطي؛ إذ وصلت إلى أدنى مستوى لها في خمس سنوات في سبتمبر، وتباطأ نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى 0.6% في الربع الثاني مقارنة مع 2.5% في الربع الأول؛ ما أدى إلى توقع أن يكون النمو الإجمالي 2% لهذا العام، وهو أدنى مستوى منذ الأزمة المالية في 2008، وانخفضت أسعار العقارات بنسبة 4.7% وهو أكبر انخفاض في الخمس سنوات الماضية.
ويقول رئيس هيئة قطر المالية، يوسف محمد الجيدا، إنّ الضرر لحق بالمنطقة بأكملها بسبب المقاطعة؛ «إذ كانت سمعة دول مجلس التعاون الخليجي أنها المكان الأكثر أمانًا على كوكب الأرض، بينما يبدو الأمر مختلفًا الآن في العيون العالمية، وأصبح على كثير من الشركات إعادة تحديد سجلات المخاطر الخاصة بها».
وأضاف أنّ «القطاع المالي في قطر استقر، وساعدت الموانئ الجديدة، خاصة في سلطنة عمان، في تقديم الخدمات اللوجستية، واستبدال جبل علي في دبي؛ وسواء في حال وجود الأزمة أو اختفائها فالتباطؤ في النمو أمر صحي في هذه المرحلة».
وأضاف في حديثه مع «الجارديان» أنّه «على مدى السنوات الـ15 الماضية كنا أسرع الاقتصادات نموًا على كوكب الأرض، أنت تتحدث عن اقتصاد حجمه ستة مليارات دولارفي 2000، ثم يقفز إلى اقتصاد حجمه مائتي مليار دولار في 2015. ولكن لم يتغير شيء جوهري. وحتى الآن، لم نفوت شحنة من الطاقة. وحاولت دول الحظر جعل الشركات تنفصل عن قطر؛ لكنها تراجعت».
ويوضح وزير المالية القطري علي شريف العمادي أنه منذ عام 2003، وربما كان أهم سياسي في مراقبة المقاومة ضد الحصار، أنه «ليس سرًا أننا نضخ سيولة في النظام. كان ذلك تدبيرًا وقائيًا، ولكن يمكننا أن نفكر في السوق؛ يمكن أن تمتص كل هذه الأخبار السيئة. فلدينا السيولة، ونحن نرى الآن السوق وقد استقرت جدًا».
ويتابع وزير المالية: «إذا نظرتم إلى الشهر الثاني من الحصار فالميزان التجاري عاد تقريبا إلى مستويات ما قبل الأزمة. لمدة شهر واحد كان لدينا انخفاض بنسبة 40% في الواردات؛ ولكننا صححنا الأوضاع بسرعة؛ فتحول البلد بأسره في أقل من شهر من الاعتماد على مجموعة واحدة من البلدان إلى التعامل مع أكثر من 80 بلدًا».
وأضاف أنّ التضخم الغذائي انخفص، وعلى الرغم من كل الآلام التي تأتي من العلاقات الشخصية والعائلات، والنسيج بين مجلس التعاون الخليجي؛ ظهرت فرص كثيرة لاقتصادنا من جوف هذه الأزمة؛ وذلك بالنظر إلى السياحة والقطاع الصحي والأمن الغذائي.
ويؤكّد أنّ الاقتصاد سيثبت مرونة؛ لأنه كان متقدمًا على دول الخليج الأخرى في فتح نفسه أمام الاستثمارات الأجنبية.
اتخذت دولة قطر أكثر الخطوات صعوبة قبل 20 عامًا؛ إذ كانت تستثمر في الغاز السائل وصناعات النفط والغاز وفي المرافق مع الشركات العالمية. عملت مع شركة «إكسون موبيل» قبل 20 عامًا، وليس قبل عامين. في ذلك الوقت كان من الصعب جدًا الحصول على الشركات الأجنبية للاستثمار في مواردنا الطبيعية، حتى ثقافيًا كان شيئًا صعبًا على التعامل معه. لقد حققت قطر استثمارات كبرى في التعليم.
وتدفع المقاطعة الآن قطر إلى تحرير الاقتصاد من مزيد من القيود، وتحرير قوانين الإقامة الدائمة، وإلغاء متطلبات التأشيرة لـ80 دولة، وتخفيض الإيجارات إلى النصف لشركات.
وتهدف الخطة القادمة الى إقامة البلاد كمكان للقيام بأعمال تجارية للشركات الراغبة في التجارة مع الكويت وإيران والعراق وباكستان وعمان. ويقول جايدا إنّه انتهى إلى أن «هناك حقبة جديدة. ونحن مصممون على جعل هذة المقاطعة نعمة تسكن الكارثة».