في مخيم الدهيشة للاجئين، من الشائع رؤية المراهقين الفلسطينيين المصابين في أقدامهم، بينما تزيّن الملصقات والجداريات ذكرى الفلسطينيين الذين قتلوا على يد القوات الإسرائيلية؛ وتدل على الحقيقة المزعجة للعنف الإسرائيلى الروتيني في المخيم. ونقلت «الجزيرة» شهادات حيّة بأنّ «إسرائيل» تطلق النار على الجزء السفلي للفلسطينيين؛ في محاولة لإعاقتهم مدى الحياة.
وبحسب ما ترجمت «شبكة رصد»، جمعت «الجزيرة» شهادات من المصابين في مخيم «الدهيئة» عن تعمد قوات الاحتلال إطلاق النار على أقدامهم بغرض إعاقتهم. ويحظر القانون الدولي استخدام الذخيرة الحية على المدنيين؛ إلا كملجأ أخير لتهديد وشيك بالحياة، بيد أن الجنود الإسرائيليين يطلقون النار الحي على الفلسطينيين أثناء المواجهات أو الغارات العسكرية.
ولاحظت جماعات حقوق الإنسان الفلسطينية والإسرائيلية أنّ الاستخدام المفرط للقوة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين تسبب في عشرات من الإعاقات الدائمة والمؤقتة للشباب الفلسطيني.
كما قُتل سكانٌ من «مخيم الدهيشة» مؤخرًا؛ آخرهم رائد الصالحي، 21 عامًا، بعدما أصيب في غارة للجيش الإسرائيلي في 3 سبتمبر بمستشفى هداسا في القدس بعد شهر تقريبًا، ولوحظ أن معظم الإصابات في الأجزاء السفلية للشباب الفلسطينيين.
ويقول سكان مخيم الدهيشة إنّ قائد الجيش الإسرائيلي، الذي يصفه شباب الدهيشة بـ«الكابتن نضال»، يهدد بتعطيل الفلسطينيين دائمًا وعمدا في المخيم؛ لافتين إلى قوله: «سوف أجعل نصفكم معوقًا، والسماح للنصف الآخر بدفع الكراسي المتحركة».
وأكّد مركز «بديل» الفلسطيني أنّ التهديدات تلفت إلى أن حوادث «إطلاق النار على الأقدام ليست عرضية أو فردية؛ لكنها سياسة عسكرية إسرائيلية منهجية تهدف إلى قمع المقاومة وترويع الشباب الفلسطيني وإصابتهم بجروح دائمة، أو إلحاق أضرار جسمية برفاهية جسدهم وعقولهم».
عيسى المعطي، 15 عامًا: «لم أستطع أن أشعر بساقي، كل ما رأيته دماء».
يقول عيسى: «كان عمري 12 عامًا عندما اندلعت اشتباكات مع جنود إسرائيليين عند المدخل الشمالي لمدينة بيت لحم، كنتُ في المنزل حينها مع عائلتين عندما علمت أن شقيقي الصغير ذهب للمشاركة في الاشتباكات. كنتُ خائفًا، لا ينبغي له أن يذهب؛ فما زال صغيرًا، وقررت أن أذهب للبحث عنه لإعادته إلى المخيم».
عندما وصلت، كانت الاشتباكات مستمرة. والإسرائيليون يطلقون النار والغاز المسيل للدموع، والرصاص المعدني المغلف بالمطاط؛ لكني واصلت البحث عن أخي. وفجأة، فتح الجنود اليهود الذخيرة الحية، وسقطتُ على الأرض، ولم أتمكن من الشعور بساقي. نظرت بجواري للحصول على المساعدة؛ لكني رأيت الجنود يطلقون النار على الفلسطينيين الذين يهربون.
ثم بدأ كلب شرطة إسرائيلي في مهاجمتي، وعض ساقي. حاولت محاربته؛ لكن بعد ذلك جاء الجنود وجروني عبر الرصيف وضربوني، وركلوا ساقي، ولم يدركوا أنني مصاب، وعندما رؤوا جروحي رأيت الصدمة على وجههم ثم هربوا، ثم نظرت فورًا إلى أسفل وبدت ساقي مخيفة جدًا، لم أكن أشعر بأي شيء، كل ما رأيته هو الدم، واكتشفت في وقت لاحق أني أصبت واثنين آخرين برصاص في ساقينا، واستخدام هذه الرصاصات غير قانوني بموجب القانون الدولي.
وقضى الجنود وقتًا يحدقون في وجهي من بعيد، وأستطيع أن أقول إنهم فوجئوا ولا يعرفون ماذا عليهم أن يفعلوا. في النهاية، نُقلت إلى مستشفى هدسا في القدس، وقضيت ثلاثة أشهر هناك؛ من بينهم شهر كنت فيه مكبل اليدين بسرير المستشفى.
وتمركز الجنود الإسرائيليون المسلحون في غرفتي طوال الوقت، وأحيانًا تأتي المخابرات الإسرائيلية إلى المستشفى لاستجوابي عن رمي الحجارة وزجاجات المولوتوف على الجنود، واجريت جراحة في ساقي اليسرى و20 في ساقي اليمنى؛ فإصابتها كانت سيئة للغاية، وأخبرني الأطباء بأنّ الرصاص دمّر عروقي؛ لذلك لم يتمكن الدم من الوصول إلى ساقي.
أُصبت بعد ذلك بالغرغرينا، واضطر الأطباء إلى بتر ساقي. في البداية رفضت؛ لكن ماذا يمكنني أن أفعل حيال ذلك! شعرت بأن حياتي ستدمر، لكن ألم الغرغرينا تفاقم واضطررت إلى بتر ساقي.
لقد غيّرت الإصابة كل شيء في حياتي؛ فلا أستطيع المشي لمسافات طويلة. وقبل إصابتي، كنت أعمل على مساعدة عائلتي. فنحن لسنا عائلة غنية؛ لذلك كانت قدمي مهمة لي للمساهمة في إعانة الأسرة، لكني الآن لا أستطيع أن أفعل أي شيء.
وأثارت عائلتي قضية جنائية ضد الجنود في المحكمة الإسرائيلية.
وبعد مدة وجيزة، جاء الجنود الإسرائيليون إلى بيتنا وضايقوا أبي، وأبي يعمل في مخبز بمستوطنة إسرائيلية، ويُهدّده دائمًا بأنهم سيلغون تصريح عمله هناك إذا لم يسقط القضية المرفوعة ضدهم.
وأنا أعلم أنّ الجنود ربما لن يُعاقبوا؛ إنهم إسرائيليون يواجهون محكمة إسرائيلية. لكنهم تسببوا في إعاقتي بشكل دائم؛ بعدما أطلقوا علي رصاصات محظورة دوليًا. كيف لا يمكن مساءلتهم؟
رمزي عجمية، 15 عامًا: «نحن متأثرون نفسيًا»
يقول رمزي: «أطلق جنود إسرائيليون النار على ساقي اليسرى، وأصابوا العصب، ولم يستطع الأطباء استخراج الرصاصة، وبقيت شظايا في ساقي، ولست قادرًا على السير عليها طويلًا، خصوصًا في فصل الشتاء؛ فالبرد يجعل الألم أسوأ، ولم أعد أستطيع الذهاب إلى المدرسة؛ لقد فاتني أكثر من عام بسبب إصاباتي.
وقع الحادث في الساعة السادسة صباحا في عام 2016، عندما اقتحم الجنود الإسرائيليون المخيم، وكنت في طريقي إلى المدرسة، والجنود يدخلون المعسكر بشكل روتيني في الحافلات المدنية، وليس المركبات العسكرية؛ لذلك لم تُلاحظ بسهولة.
وكانت حافلة منها متوقفة خارج المدرسة. وعندما خرج الجنود من الحافلة اندلعت الاشتباكات على الفور؛ إذ أطلق الجنود عيارين ناريين تجاهي أصابا ساقي اليسرى، وكنت في حالة صدمة وانهيار جسدي وسقطت على الأرض، ورأى صديقي ما يحدث فأسرع إليّ ليطمئنّ عليّ. في هذا الوقت، أطلق جندي النار على ساق صديقي أيضًا؛ لكنه استمر في التحرك تجاهي ثم أطلقوا النار عليه مرة أخرى في الساق الأخرى وسقطنا على حد سواء.
وقضيت ما يقرب من شهر في المستشفى، وكان على الأطباء إزالة أجزاء من جسدي وزرعها في قدمي؛ لأنّ الرصاصة عندما انفجرت فيها تطايرت أجزاء كبرى منها، وركّبوا لي شرائح ومسامير ولفوا ساقي.
وبعد أسبوعين من خروجي من المستشفى، جاء جنود إسرائيليون إلى بيتي في منتصف الليل لإلقاء القبض عليّ، اعتقدت أنهم سيتركونني بعد رؤيتهم إصابتي؛ لكنهم جروني من فراشي، وكبلوا يدي وعصّبوا عيني، وألقوني في سيارة جيب إسرائيلية، واتهمونني بإلقاء الحجارة على الجنود في المخيم.
قضيت أسبوعين في مركز احتجاز إسرائيلي بالقرب من رام الله، وتلقيت رعاية طبية رديئة من طبيب السجن هناك، وكان كل تركيزه «جعل إصابتي أسوأ»، وأدمنت المسكنات لتحمّل الألم، وبدأ والدي في إخفاء الدواء عني، وكنت أشعر بالغضب عندما لم أتمكن من الحصول عليه؛ وعانيت من أعراض انسحاب شديدة. وما زال وصديقه متأثرين نفسيًا للغاية.
مصطفى عليان، 17 عامًا: «إنهم يريدون جعلنا عاجزين عن العمل»
كنت أتجه إلى مدخل المخيم في ساعات الصباح عام 2015، واندلعت اشتباكات مع جنود إسرائيليين. وعندما وصلت فوجئت بشيء في ساقي اليمنى، لم أعرف حينها أنّ قناصًا إسرائيليًا متمركزًا على مبنى أطلق النار على قدمي.
سقطت على الأرض. وصرخت للمساعدة؛ لكن لا أحد بجواري. كان الجميع مبعثرين بعيدًا عن المنطقة؛ لذلك بدأت سحب نفسي مرة أخرى إلى داخل المخيم، وفي نهاية المطاف وجدت رجالًا في المخيم وحملوني بعيدًا.
وتمركز الجنود الإسرائيليون في جميع مداخل المخيمات ومنعوا سيارات الإسعاف الفلسطينية من الدخول، ونقلتنا سيارة خاصة إلى المستشفى، واستغرق الأمر 40 دقيقة على الأقل للعثور على وسيلة للخروج من المخيم؛ بينما تنزف قدمي في كل مكان، وكل ما كنت أفكر فيه الألم؛ كنتُ خائفًا من أنني لن أدخل إلى المستشفى حيًا أو أنني سأُحتجز من الجنود.
انتهى بي الأمر في مستشفى «بيت جالا» لإعادة التأهيل، وأخبرني الأطباء أنني أصبت بإصابة نادرة؛ إذ دمّرت الرصاصة أعصابًا في قدمي، وكنت أشعر بما يشبه الصدمة الكهربائية، وحاول الأطباء فعل كل شيء لتهدئة الألم؛ حتى إنهم حقنوا مخدرًا في العمود الفقري كي يهدأ، لكنه لم يهدأ.
ولمدة خمسة أشهر، كل ما شعرت به هو الألم فقط، ثم بدأ الدواء ينفد من المستشفى، وكان واضحا أنني بحاجة للانتقال إلى مستشفى آخر، وكان سكان «الدهيشة» يتابعون قضيتي، وطوال أسابيع احتجوا وأوقفوا حركة المرور في الشارع الرئيس خارج المخيم، وطالبوا السلطة الفلسطينية بأن تفعل شيئًا لمساعدتي. وأخيرًا، نسّقت السلطة الفلسطينية مع الإسرائيليين وحصلت والدتي على إذن بالدخول إلى «إسرائيل» لمعالجتي في مستشفى «تل هشومر» العسكري في تل أبيب.
وأثناء نقلي، لم يكتف جنود الاحتلال بإصابتي فقط؛ بل أبقوني في الشارع أربع ساعات على نقالة، ولكموني في الكتف قائلين: «تهانينا أنت بطل الآن» وقالوا لي إني سأذهب للسجن.
وعندما وصلنا أخيرًا، لم أستطع أنا وأمي التواصل مع أي شخص، لم يكن هناك أحد ليتحدث إلينا باللغة العربية، وكنت أصرخ بصوت عال من الألم، ثم نقلتني الممرضات إلى غرفة منفصلة؛ فالحرس الإسرائيلي متمركز في الخارج، وأقفلوا الباب وأغلقوا جميع النوافذ ولم يسمحوا لأمي بمغادرة الغرفة، وكان عليها أن تنام في البرد على الأرض؛ لأن الإسرائليين رفضوا تزويدها بالفراش.
قضيتُ 19 يومًا في هذا المستشفى. لم أتلقّ أيّ علاج. أعطوني فقط «البانادول» كل بضع ساعات. في أحيان، تدخل ممرضة الغرفة وتصرخ في وجهي باللغة العربية متهمة إياي برمي الحجارة وتدعو لي عدوها. عندما حاولنا الحصول على معلومات، منها عن علاجي، كانت تدّعي جهلها بأيّ عربي.
لم نكن نعرف ماذا نفعل. وأعربت عن أسفها للمجيء إلى المستشفى. شعرت حينها أنني أصبت للمرة الثانية.
وتواصل أصدقاؤنا وأسرتنا في الدهيشة مع فلسطيني 1948 على الفيس بوك لمعرفة ما إذا كان بإمكانهم مساعدتنا، وجاء عدد قليل منهم إلى المستشفى وحاولوا معرفة ماذا يحدث. فأخبرهم الأطباء أنهم بصدد بتر ساقي، ثم تمكنوا من لفي في بطانية ووضعوني على كرسي متحرك وهُرّبت من المستشفى، وحملوني داخل سيارة إسرائيلية لونها أصفر، وأعادوني إلى مستشفى «بيت جالا» مرة أخرى.
وبعد أربعة أشهر، جاء نشطاء إيطاليون إلى المستشفى لرؤيتي بعد سماع قضيتي، ونقلوني إلى إيطاليا لإجراء جراحة في ساقي، بعد عام تقريبًا من إصابتي بجروح.
وقال لي الأطباء الإيطاليون إنني سأتمكن من السير مرة أخرى، ولم أشعر بأيّ ألم سوى ألم بسيط أسفل ركبتي؛ لكني ما زلت عاجزًا عن نقل قدمي، وأشعر أحيانًا بأنه لا أمل في شفائي.
دمّرت الإصابة حياتي. لا أستطيع المشي بشكل طبيعي. لم أذهب إلى المدرسة منذ إطلاق النار على قدمي، ولا أفعل شيئًا سوى البقاء في المنزل، لكن وضعي ليس فريدًا؛ إذ تركز السياسات الإسرائيلية على إعاقتنا، إنهم لا يريدون حتى قتلنا. إنهم يريدون أن نبقى على قيد الحياة عاجزين عن فعل أي شيء.