بالقرب من مخيم «الخازر» شرق الموصل، وأثناء تسلله سرًّا إلى قريته في شمال العراق لزيارة منزله، يقول «فواز صالح أحمد»: «في المرة الأخيرة التي زرت فيها منزلي بكيت كثيرًا وأنا أتنقّل من غرفة إلى أخرى، منزلي دُمّر جزئيًا، ومنذ عام كنت أعيش هنا مع أسرتي، بكيت إلى أن جفّت دموعي؛ ثم عدت إلى المخيم متسللًا مرة أخرى».
المثير لإحباط فواز، بحسب شبكة «ستارز ستريبس» الأميركية، أنّه يستطيع رؤية منزله من قلب المخيّم؛ لكنّ القوات الكردية التي سيطرت على قريته «حسن شامي» تمنعه وغيره من العودة إلى هناك، ويضيف لمحرر الشبكة: «هذا هو بيتي هناك على التل، هل تراه؟».
«فواز» فردٌ من الأقلية السنية التي كانت تسيطر على العراق من قبل.
بحسب ما ترجمت «شبكة رصد»، مأساة «فواز»، البالغ من العمر 39 عامًا، جزءٌ من الكارثة الكبرى التي يواجهها «العرب السُنّة» في العراق بعد ثلاث سنوات من حرب تحرير الأراضي من «تنظيم الدولة»، التي تركت المجتمع أيضًا في أدنى مستوياته على الإطلاق؛ فالسُنّة هناك يشعرون بالضياع، غير متأكدين من مكانهم في مستقبل البلاد، ويشعرون بالقلق من أنّ الأغلبية الشيعية والأكراد يهدفان إلى تغيير التركيبة الديموغرافية لمناطق سُنّية بهدف فرض سيطرتهم.
تضيف الشبكة أنّ السنة منعوا من العودة إلى ديارهم في قرى وبلدات استولى عليها الأكراد أثناء القتال مع مقاتلي تنظيم الدولة في حزام من الأراضي يمتد عبر الشمال إلى الحدود الشرقية للعراق.
ويقول المسؤولون الأكراد إنّ أسباب أمنية وراء رفض عودة السكان؛ على الرغم من أنّ «تنظيم الدولة» خرج من المنطقة في أواخر العام الماضي. وفي الوقت نفسه، قال الأكراد مرارًا وتكرارًا إنهم يعتزمون إدماج الأراضي المستولى عليها في منطقتهم المتمتعة بالحكم الذاتي، وقال إنهم يخططون إلى إجراء استفتاء من أجل الاستقلال التام في وقت لاحق من هذا الشهر؛ وهو ما يثير تساؤلات بشأن مستقبل القرى العربية السنية مثل قرية «حسن شامي».
وفي الجنوب أيضًا، منعت المليشيات الشيعية المدعومة من إيران، التي استولت على الأراضي السنية، المواطنين العرب السنة من العودة إلى «المناطق الاستراتيجية» مناطقهم بين بغداد والحدود الإيرانية أو المناطق الأخرى التي يعتبرها الشيعة «أمرًا حيويًا»؛ وهذه هي أسبابهم «مناطق استراتيجية وحيوية».
في الوقت نفسه، يواجه العرب السنة مخاوف أعمق من ذلك، وهي أن الجماعات المسلحة الجديدة التي تكوّنت جراء الحرب مع «تنظيم الدولة» ستبقى ولن تُحلّ، كما تزيد مخاوفهم أيضًا تجاه السلطة العراقية الجديدة ما لم تتحسن حالة المجتمع؛ بينما ما زالت مدن لها وبلداتها تشهد قتالًا مع تنظيم الدولة، وفي معظم الأراضي المحررة يخضع آلاف السنة إلى الاحتجاز بسبب صلتهم المزعومة بالجماعة.
بينما عانى المجتمع العراقي من النزوح الجماعي، وتُقدّر أعدادهم حاليًا بـ3.2 ملايين نازح، وغالبيتهم الساحقة من العرب السنة، وذكرت المنظمة الدولية للهجرة أن أكثر من مليونين آخرين نزحوا في السابق ولكنهم عادوا إلى بلادهم ثانية، وتشكّل هذه النسبة مجتمعة أرقامًا مذهلة من مجموع السكان العرب السنة في البلاد، التي يقدر عمومها بـ37 مليون نسمة.
إضافة إلى ذلك، فإنهم حتى لو عادوا، وخاصة إلى الأنبار، يجب عليهم إعادة بناء المنازل والمجتمعات المحلية، ولا توجد مساعدات لهم إلا بشكل قليل من الحكومة، ولا تزال نسبة كبرى من الذين تمكنوا من العودة مشردين، يتدافعون إلى العثور على مسكن أو عمل أو يرزحون في المخيمات. ويوجد في الأنبار وحدها أكثر من 400 ألف نازح في عام واحد من الحرب مع «تنظيم الدولة» في 19 مخيمًا بأنحاء الشمال.
تقول الشبكة: «كافح العرب السنة منذ الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003، الذي أسقط صدام حسين وفتح الباب أمام الأغلبية الشيعية، للحصول على السلطة عبر الانتخابات، ونقلوا تلقائيا إلى الدرجة الثانية؛ مما أشعل التمرد الذي جلب إليهم سنوات من العنف وأدى إلى تنامي تنظيم القاعدة وخليفته تنظيم الدولة. وفي هذه السنوات، انقسم السياسيون السنة، غير الفعّالين أصلًا، بيما غادر مهنيون سنة ورجال الأعمال البلاد».
ويتحدّث سنيون حاليًا عن إقامة منطقة حكم ذاتي لهم على غرار الكردستان، لكنهم حذرين؛ لأن المناطق ذات الأغلبية السنية لديها موارد أقل بكثير من المناطق الأخرى.
وقال «عدنان أبو زيد»، مدرس في الموصل: «نحن العرب السنة الحلقة الأضعف في العراق؛ لكني أثق أنّ هذا البلد سيكون مستقرًا وقويًا مرة أخرى، وعلينا أن نتحمل دورًا رائدًا في كيفية إدارة البلاد».
تقول الشبكة: «هذا النوع من الشجاعة لدى عدنان يخفي كثيرًا من اليأس وراءه».
ويقول «غازي حمد»، الذي غادر الموصل: «في عام 2003 أردنا الديمقراطية والحريات، أما الآن توقعاتنا انخفضت؛ فالحكومة الجيدة هي التي تشعرنا بالأمان، وسنعيش بسعادة حتى لو على الهامش».
وتحدث «حسام أحمد»، 24 عامًا، وهو طالب نازح من الموصل: «نشعر بالحنين إلى صدّام؛ فعندما كان في السلطة، كنا نشعر بالأمن، وبرحيله انتهى العراق».
في إشارة إلى انعدام ثقتهم بالشيعة، يقوم زعماء قبائل عرب سنة في الشمال بحملات علنية لانضمام مناطقهم إلى المنطقة الكردية؛ فالأكراد هم من الغالبية السنية، ولكنّ الشكوك والانقسامات تبدو المسيطر على المشهد.
وتقول حكومة بغداد بشكل روتيني إنها تريد عودة النازحين، بينما تحتفل وسائل الإعلام الرسمية عندما يعود عرب سنة إلى مناطقهم، ويقول المسؤولون إنّ «المخاوف الأمنية ونقص الخدمات الأساسية» أسباب ليبتعد البعض؛ لكنّ السنة قلقين من علامات التغيير الديموغرافي القسري في مناطق استراتيجية بعينها.
على سبيل المثال، واجه السنة صعوبة في العودة إلى أجزاء من محافظة ديالى، المتاخمة لإيران ومنطقة الحكم الذاتي الكردي العراقية، ووجدت دراسة حديثة أجرتها المنظمة الدولية للهجرة أن ما يقرب من 80% من السنة الذين نزحوا من ديالى حاولوا العودة إلى ديارهم، لكن منعوا؛ سواء من القوات الكردية أو المليشيات الشيعية.
وقال الشيخ «عياد اللهيبي»، وهو زعيم العشائر السنية المحلية، إنه يعتقد أنّ المليشيات الشيعية تقوم بتغييرات ديموغرافية هندسية في ديالى لتأمين طريق مباشر من الحدود الإيرانية إلى بغداد عبر المقاطعة، مضيفًا: «هناك خطف متكرر للسنيين الذين ما زالوا هناك؛ بهدف تخويفهم ودفعهم إلى الرحيل».
وفي محافظة صلاح الدين المجاورة، قال إن المليشيات الشيعية عرقلت عودة ما يقرب من نصف النازحين من المدن بجوار العاصمة تكريت، مسقط رأس صدام. وفي جنوب غرب بغداد، لم يتمكن الآلاف من العرب السنة من العودة إلى جرف الصخر، وهو جيب سني في محافظة بابل الشيعية.
وتجاهلت نداءات متكررة وجهها السياسيون السنة للسماح بعودة السكان السنة. وفي الشهر الماضي، هدّدت حكومة مقاطعة بابل باتخاذ إجراءات قانونية ضد أي شخص يطالب بعودتهم.
واتهم المشرّعون السنة الغاضبون بابل بالسعي إلى تغيير التركيبة الديموغرافية للمنطقة. وقالت الأمم المتحدة إنّ حكومة بابل تحاول ترويع السياسيين لإسكاتهم. وفي مخيم «خازر»، تحدّث فواز أحمد، موظف بوزارة الصحة، عن رحلاته السرية إلى منزله في قرية «حسن شامي»، قائلًا إنّ الأكراد الذين يحرسون القرية لا يسمحون بالزيارات؛ لذلك يحصل هو وآخرون على تصاريح لمغادرة المخيم ظاهريًا لزيارة أقاربهم في أماكن أخرى، ثم التسلل إلى منازلهم.
وقال: «قلبي يخبرني أنه عليّ أن أعود إلى هناك»، يتساءل: «لماذا لا يمكنني العودة إلى هناك؟».
وفي «أربيل»، لم يكن لدى سعيد سندي، المسؤول عن «المناطق الكردية خارج المنطقة»، أيّ ردّ مباشر، وقال إن المخاوف الأمنية تحول دون العودة في الوقت الحالي؛ واقترح أن تكون هذه المناطق جزءًا من منطقة الحكم الذاتي الكردية، مضيفًا: «التركمان والمسيحيون والعرب ستكون لهم حقوق متساوية مع الحقوق التي يتمتع بها الأكراد بموجب قانون المنطقة».
وفي خازر وغيرها من المعسكرات، يعاني السكان من الحرارة الشديدة، والساعات الطويلة من الملل في خيام مصطفة في صفوف رتيبة، ويتحدثون في شغف عن «العودة».
وقال أحمد حسن خلف، مواطن من قرية حسن شامي، إنّ القرية بمثابة والدته؛ لا يمكن أن يتخلى عنها أبدًا. وبصوت لا يكاد يُسمع، قال باكيًا: «يا الله أنت الرحيم يا الله».