ترك «إسماعيل محمود» منزله في محافظة المنيا وتوجّه إلى مقهى مجاور ليكتب وصيته. شُخّص إسماعيل منذ عامين بمرض يهدد حياته، وكان يعرف أن وقته في العالم أوشك على الانتهاء؛ إلا أنّ لديه رغبة واحدة: «آداء فريضة الحج في المملكة العربية السعودية». لكن الحصول على تأشيرة أمر بعيد المنال له؛ لأن أسعارها ارتفعت بشكل كبير.
يقول إسماعيل، وهو مدرس في مدرسة ابتدائية يبلغ من العمر 59 عامًا: «لم يكن أبنائي سعداء عندما بعت الحقل الذي نمتلكه. لكن، لم يكن لدينا اختيار؛ فالظروف الاقتصادية في مصر أصبحت صعبة جدًا، ورفضوا منحي تأشيرة الحج حتى مع ملاحظة من طبيبي، وكانت الطريقة الوحيدة لتحقيق حلمي هي أن أشتريها من حسابي الخاص».
رفض «إسماعيل» الانتظار ورؤية ما إذا كان سيفوز في «قرعة الحج»، التي تديرها الحكومة، أم لا؛ وقرر اتخاذ خطوة بديلة.
يقول: «أخبرني الجميع أن الفوز في القرعة أمر مستحيل إذا لم تكن لدي واسطة، وهو ما لم أستطع تدبيره؛ لذلك حاولت الحصول على تأشيرة عامل نظافة. هذه طريقتي الوحيدة للدخول إلى السعودية».
أزمة حصص الحج
مثل آلاف المصريين، انتظر «إسماعيل» سنوات للذهاب إلى الحج، لكن وضعه ليس شائعًا بالنظر إلى ملايين المسلمين من جميع أنحاء العالم الذين يلجؤون إلى وكلاء السفر والسياحة أو عبر السوق السوداء.
الحج إحدى الركائز الأساسية الخمس في الإسلام، التي يلزم جميع المسلمين أداؤها على الأقل مرة واحدة؛ ما يعني أن التأشيرات محل نزاع شديد. ولأن الحج يمحي الذنوب جميعها، فهذا يعني أن كثيرين يحرصون على أدائها في سن الشيخوخة.
وتحدد المملكة العربية السعودية الحصص استنادًا إلى أعداد السكان المسلمين في كل بلد، الذي بدوره يخصص أماكن لمواطنيه عبر الحكومات أو شركات السفر الخاصة.
وبعد أن خفضت السعودية الحصة الإجمالية للتأشيرات بنسبة 20% منذ عام 2009 لاستيعاب أعمال التوسع في المساجد الكبرى في المدينة ومكة، تطول فترات الانتظار، ويمكن أن تصل إلى عشر سنوات أو أكثر في بلدان. أما الآن، فيستطيع مليون حاج آخر أن يحضروا الحج، الذي يبدأ هذا العام في 30 أغسطس.
ويأتي رفع السعودية للأرقام بسبب معاناتها من انخفاض أسعار النفط إلى مستويات متدنية؛ مما سيعزز اقتصادياتها، بحسب رؤيتها.
قرعة الحج
تتيح الحكومات في معظم البلدان ذات الأغلبية المسلمة أكبر جزء من الأماكن المخصصة لها إلى مواطنيها عن طريق «القرعة»، وإعطاء البقية لوكلاء السفر؛ لكن كبرى المشاكل تأتي من بلدان مثل إندونيسيا، البالغ عدد سكانها المسلمين 260 مليون نسمة، وتمنح عادة أكبر عدد من التأشيرات. ومثل بلدان يضطر مواطنوها إلى الانتظار طويلًا، أشادت بقرار إضافة عشرة آلاف مكان آخر بجانب الـ220 ألف المخصصة لها بالفعل.
وتستخدم إندونيسيا نظام القرعة لتخصيص معظم أماكنها؛ إذ يدفع كل مقدم طلب ألفي دولار ويوضع على قائمة الانتظار. لكن، مع ذلك، لا يزال السكان المحليون يواجهون الانتظار لمدة تصل إلى 39 عامًا؛ وهذا يعني أنّ مواطنين يموتون قبل أن يفوزوا في القرعة.
وتتخذ بلدان أخرى تدابير صارمة لتقليل أوقات الانتظار. ففي الأردن، الذي لديه سبعة آلاف مكان فقط، يعتمد على سياسة تقضي بقبول الحجاج الذين ولدوا في عام 1945 تلقائيًا، أو قبل ذلك؛ بينما يطالب الحجاج المحتملون بالقسم على القرآن أنهم لم يسبق لهم الحج.
تُعدّل قاعدة سنة الميلاد سنويًا؛ لإعطاء المتقدمين المسنين فرصة أفضل للفوز بالمكان، وهذا يعني أن العام المقبل الذين ولدوا في عام 1946 أو قبله سيكونون مؤهلين للحضور. وتمنح الاستثناءات لأولياء الأمور الذكور، مثل الابن أو الزوج، المرافقين لحاج أنثى (المحارم).
حاولت «بثينة ناصر»، 40 عامًا، وهي ربة منزل من شمال الأردن، مرات الحصول على تأشيرة؛ لكن دون نجاح. بدأت التفكير في الحج بعد تشخيصها بالسرطان قبل خمس سنوات، وكل عام منذ تقدمها بطلب للحصول على تأشيرة أحبطتها القيود الأردنية؛ فاضطرت إلى التوجه إلى السوق السوداء لتحقيق «حلمها بأداء فريضة الحج».
وقالت: «حاولت ثلاث مرات شراء تأشيرات الحج من السوق السوداء ومن أشخاص يعرفون شخصًا يبيعها من السفارة السعودية». وأضافت: «يجب على الأردنيين أن تكون لديهم القدرة المالية لأداء فريضة الحج».
ادعاءات الفساد
ويتهم النقاد السلطات السعودية بتسييس الحج والمساعدة على خلق اقتصاد سيئ عالمي في التأشيرات، مع وصف التخصيص في بلدان بأنه يشوبه الفساد وغير عادل للحجاج الأفقر.
فباكستان، التي تحصل على ثالث أعلى حصص، هزتها مؤخرًا فضيحة فساد بعد أن اتهم المتقدمون إلى الحج المسؤولين بمنح جزء للشركات الخاصة مقابل رشاوى.
وفي بنجلاديش، طالبت المحكمة العليا بإجراء تحقيق في كيفية إدارة الحكومة للحج هذا العام؛ بعد أن تأخر وكلاء سفر في تقديم طلبات الحصول على تأشيرة على أمل الحصول على أسعار أقل بخصوص الإقامة في مكة والمدينة المنورة. وتركت بنجلاديشيين فازوا في وضع غير مؤكد بحضورهم أو تغيبهم.
وقال «ماضي الرشيد»، أكاديمي سعودي بكلية لندن للاقتصاد، لـ«ميدل إيست آي»، إن «عشيرة آل سعود خلقت اقتصادًا سيئًا في العالم يتمركز على الحج»، مضيفًا أن «الافتقار إلى الشفافية في المملكة، خصوصًا مع نظام الحصص، ساعد على خلق سوق سيئة والتجارة في التأشيرات».
وقال إنّ «هناك سوقًا سيئة في التأشيرات؛ إذ يبيعها موظفو السفارة السعودية من جميع أنحاء العالم بشكل غير قانوني ويعطونها لأصدقائهم»، مضيفًا أنهم «يعطون التأشيرات لأشخاص معينين ويحرمون الآخرين منها؛ ليستفيدوا من ورائهم، بينما يوضع الآخرون في قوائم الانتظار لبقية حياتهم».
ساحة للقتال السياسي
وتبرّر السعودية الحصة التي تحددها كوسيلة لضمان سلامة جميع الحجاج. وتعرض الحج إلى حوادث عديدة على مر السنين؛ ما أدى إلى وفاة الحجاج، وعادة بسبب الاكتظاظ.
وأسفر حادث التدافع الأخير في 2015 عن مقتل ما لا يقل عن ألفي شخص؛ على الرغم من أن العدد النهائي للقتلى متنازع عليه.
ووصف مراقبون نظام الحصص بأنه وسيلة الرياض للتأثير على المسلمين في جميع أنحاء العالم. وقال ماضي رشيد إن السعوديين استخدموا تاريخ الحج «أداة سياسية» بعد سيطرته على الموقعين المقدسين في أوائل العشرينيات؛ فالوصول إلى الحج وأداء الطقوس يتوقف على إرادة النظام السعودي، والسبب الرئيس أنها قادرة على السيطرة على البلدان الإسلامية؛ لأن الحج أحد أركان الإسلام، وكل مسلم واجب عليه أن يؤديه إذا استطاع.
تقول الصحيفة، «إذا كان المسلم معاديًا للسعودية أو صوتًا منتقدًا للسعوديين فهو ممنوع من المجيء، ورأينا هذا يحدث مع راشد الغنوشي، زعيم حزب النهضة في تونس؛ عندما حاول أداء عمرة، وكذلك الإيرانيين والقطريين».
وأبلغت الحكومة الإيرانية مواطنيها بمقاطعة الحج في عام 2016، وهي المرة الأولى التي تفعل فيها ذلك؛ بعد أن تفاقمت التوترات القائمة بينها والمملكة، ووصلت العلاقات الدبلوماسية بينهما إلى أدنى مستوياتها بعد مقتل أكثر من 450 حاجًا إيرانيًا في كارثة عام 2015.
وقال «مهدي بياد»: «لا يمكنك فصل السياسة السعودية عن نهجها تجاه الحج، والشيء نفسه ينطبق على إيران؛ وعلى سبيل المثال مع حادثة 1987 التي قُتل فيها الحجاج الشيعة في اشتباكات مع قوات الأمن السعودية».
وحينها، قُتل ما لا يقل عن 400 إيراني على يد شرطة مكافحة الشغب السعودية؛ بعد أن هتفوا: «الموت لأميركا، الموت للاتحاد السوفيتي، الموت لإسرائيل!» بجوار المسجد الحرام.
وختمت الصحيفة قائلة إن السياسة تركت محمود إسماعيل محبطًا ومستاءً؛ بسبب وقوفها وراء منح التأشيرات، الذي قال في النهاية: «في كل عام ترتفع تكاليف الحج ولا أعرف كم من الوقت أمتلك كي أنتظر؛ فهذه القيود تجعل الناس الذين يعملون بجد مثلي يكذبون ويتحايلون من أجل إكمال الفريضة التي فرضها الله على المسلمين».
وفي النهاية، تتساءل الصحيفة: كيف سنبرر أمام الله ما يحدث؟