نشرت صحيفة «ذا جلوباليست» مقالًا لـ«ألون بن منير»، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة نيويورك، تحدّث فيه عن الأزمة التي يمر بها العراق منذ غزو القوات الأميركية وحتى الآن، مسلطًا الضوء على كيفية خروج العراق من محنته الحالية وسبل تعزيزه وتقويته بما يحتوي من طوائف متعددة.
قال الكاتب إنّ العراق مهد الحضارة، ما زال ولا يزال يعاني من أكثر الصراعات عنفًا وفظاعة في التاريخ الحديث، التي تتحدى أي شكل من أشكال الإنسانية المتحضرة؛ ومن الصعب تصوّر الموت والدمار الهائلين الملحقين بالشعب العراقي بسبب القوى الأجنبية و«الإرهاب» المحلي.
ومع ذلك، لا يزال بوسع البلد أن يتغلب على أهوال السنوات الـ14 الماضية؛ بشرط أن يعيد قادته تقييم الديناميات الإقليمية والمحلية على نحو صحيح، وأن يعطوا الفرصة للعراقيين لاختيار هياكلهم السياسية والمدنية، بغض النظر عن طوائفهم وتوجهاتهم الثقافية.
التكلفة البشرية المروعة
منذ غزو الولايات المتحدة وحلفائها العراق في عام 2003، قُتل ما يصل إلى 500 ألف مدني. وبلغ عدد الهجمات الإرهابية المسجلة اعتبارًا من 2006 أربعين ألف هجوم، بمتوسط 7100 حالة وفاة سنويًا.
وخلّفت ما يقرب من 225 ألف لاجئ، وثلاثة ملايين مشرد داخليًا، إضافة إلى تدمير الهياكل الأساسية والخلل الاجتماعي والاقتصادي الذي أدى إلى انتشار الجوع والمرض والمعاناة وسوء التغذية على نطاق واسع؛ لا سيما بين عشرات الآلاف من الأطفال، مضيفة أن كل هذا الدمار البشري والمادي توج بظهور «تنظيم الدولة» الذي خرّب البلاد، بجانب الإرهاب العشوائي الداخلي بين السنة والشيعة المستمر بلا هوادة.
وقال إنّ جهود الحكومة العراقية والشعب العراقي لإعادة توحيد البلاد في أعقاب الدمار عقب الحرب على «تنظيم الدولة» قد تثبت أنها بلا جدوى، وسط ما وصفته الصحيفة بالخراب والدمار الكبيرين.
انقسامات عميقة
قال «ألون» إنّ حكومة العبادي تجاهلت حقيقة أنّ الأكراد العراقيين على وشك إقامة دولتهم المستقلة بعد استفتاء منتصف سبتمبر المقبل، مؤكدًا أنّ السنة سيرفضون هذا الوضع، كما أنها وفقًا للصحيفة لن تخضع إلى أهواء حكومة شيعية في بغداد مرة أخرى.
ولفت إلى أنه بعد معاناتها من التمييز الشديد والقمع والعنف الوحشي ضدهم، خاصة في السنوات الثماني من حكم نور المالكي؛ خلصوا منذ فترة طويلة إلى أن رفاهيتهم في المستقبل تعتمد على إرادتهم وقدرتهم على الحكم بأنفسهم، موضحًا أنهم مصممون على اتباع خطى نظرائهم الكرديين عبر إقامة حكم ذاتي كشرط مسبق لإنهاء إراقة الدماء بين السنة والشيعة.
وبدأت المذابح بين الجانبين مباشرة عقب حرب العراق عام 2003، وما زالت مستمرة حتى الآن؛ وهو ما يؤدي إلى مقتل المئات أسبوعيًا.
وأصرّ أسناذ العلاقات الدولية على أنه من غير المرجح انتهاء حمام الدم ما دامت الحكومة العراقية والقوى الخارجية، بما فيها الولايات المتحدة، متمسكة بما وصفته الصحيفة بالوهم المتمثل في الحفاظ على الوحدة الجغرافية للعراق، وما دامت السعودية وإيران تقودان حربًا بالوكالة في العراق لتأمين مصالحهم الجيوستراتيجية في السيطرة على المنطقة.
إرث تنظيم الدولة
لفت أيضًا إلى أن صعود «تنظيم الدولة» وسيطرته على محافظات السنة زاد من تعميق عزم السنة على الكفاح من أجل استقلالهم عن أي قوة داخلية أو خارجية.
وبالإضافة إلى سوء المعاملة والقمع الذي عانوا منه في ظل حكومة المالكي، حمل السُنّة أيضًا العبء الأكبر نتيجة وحشية «تنظيم الدولة» وحكمهم المروع.
ولفت إلى أن الأطفال تأثروا أكثر من غيرهم بما فعله التنظيم؛ إذ كانوا يشاهدون قسوتهم التي لا توصف، إضافة إلى تجنيدهم لارتكابهم أشنع الجرائم. كما أصيب مئات الآلاف بصدمات نفسية بسبب إرغامهم على مشاهدة قطع الرؤوس والمعاملة الشنيعة للمشتبه في ارتكابهم جرائم صغيرة.
ويتيح تحرير الموصل، بحسب كاتب المقال، بداية جديدة لبناء مستقبل واعد للعراق. وفي هذا الصدد، يرى الكاتب أنّ قوة العراق الرئيسة تعتمد على أن تصبح الطوائف الرئيسة الثلاث مستقلة سياسيًا عن بعضها بعضًا.
مسؤولية الحكومات المركزية
ولفت إلى أنه يجب على الحكومة المركزية أن تدعم إنشاء كيان سني مستقل، وتعديل الدستور ليعكس الانقسامات السياسية والإقليمية الجديدة.
أما على الصعيد الداخلي، نصح «ألون» الحكومة العراقية بالتصدي للفساد المستوطن، الذي يستهلك ما يقرب من ثلث عائدات البلاد، إضافة إلى ضرورة إنشاء سلطة عادلة ونزيهة، تشارك في التنمية الاقتصادية، وأن تمتنع عن التعدي على الشؤون الداخلية والخارجية للأكراد والسنة، وتركهم يؤسسون نظمهم الخاصة بهم.
وبالنظر إلى أن المحافظات الثلاث السنية ليس لديها نفط، تعتمد تنميتها الاقتصادية على تأمين حصتها من الإيرادات عن طريق تمرير قانون النفط الذي طال انتظاره. وبالإضافة إلى ذلك، سيحتاج الكيان السني الجديد إلى الدعم المالي من دول الخليج والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ليصبح كيانًا قابلًا للحياة.
وأضاف أنه يجب على الحكومة المركزية التي تقودها الشيعة في بغداد ألا تحتجز السنّة كرهائن بحرمانهم من نصيبهم المشروع ومنعهم من إقامة دولتهم، واصفًا الأمر بأنه سيكون بمثابة الوصفة لاستمرار إراقة الدماء والدمار اللذين لن يؤديا إلّا لتعميق الفجوة بينهما بما يضر بمستقبل البلد.
وأوضح أيضًا أن خارطة الطريق ستؤثر بشكل مباشر على استقرار العراق في المستقبل وتضع حدًا للحرب بالوكالة بين السعودية وإيران، موضحًا أنها «هائلة»؛ إذ ستدرك الدولتان أنهما لا تستطيعان تغيير واقع التعايش السني الشيعي، سواء في العراق نفسه أو كجيران. ومن شأن هذا الترتيب أيضًا أن يخفف من التهديدات الإيرانية التي تعتبرها دول الخليج و«إسرائيل» مصدرًا للتوتر الإقليمي والصراع العنيف.
وإضافة إلى ذلك، ستقلل إلى حد كبير من الأنشطة المسلحة وتعزز الأمن الإقليمي وتشرع في سلام ومصالحة لإنهاء الانتقام والعقاب الذين سينشآن حتمًا؛ نظرا للعنف المروع الذي ألحقه كلّ منهما بالطرف الآخر على مدى السنوات الـ14 الماضية، مضيفًا: «فقط عندما يقيم السنة كيانهم الخاص بهم وينشئون البنية التحتية لدولة مستقلة سيشعرون بالتمكين والثقة للعمل بشكل وثيق مع الأكراد والشيعة على قدم المساواة؛ الأمر الذي من شأنه تمهيد الطريق لكونفدرالية فعالة بينهم في وقت لاحق».
ولفت «ألون» إلى أن دور الولايات المتحدة في هذه المرحلة المبكرة أمر بالغ الأهمية؛ إذ يجب عليها أن تدعم تأسيس كيان سني مستقل والحفاظ على القوات العسكرية المتبقية طوال الفترة الانتقالية وتدريب أفراد الأمن وتجهيزهم وفرض السيطرة على الجماعات المتطرفة، وتوجيه السنة في تطوير هيكل سياسي يتفق مع معتقداتهم وثقافتهم وتطلعاتهم.
وختم «ألون» مقاله بضرورة إنهاء المأساة العراقية، التي يقع جزء كبير منها على عاتق الشعب العراقي نفسه؛ إذ هم من عليهم أن يسموا فوق الطائفيّة، وهم من عليهم رسم مصيرهم بأنفسهم.