قال الكاتب الصحفي البريطاني؛ ديفيد هيرست «نجم عن الأزمة التي أحاطت بالمسجد الأقصى عدد من الأحوال غير المسبوقة، فتلك هي المرة الأولى التي يغلق فيها المسجد ولا تقام فيه صلاة الجمعة منذ عام 1969، وهي المرة الأولى منذ قرون التي يقاطعه فيها المصلون، وهي المرة الأولى التي يصبح فيها الفلسطينيون من مواطني إسرائيل ومن المقيمين في القدس في البؤرة المركزية للصراع».
وأضاف «هيرست» في مقال له بموقه «ميدل إيست آي» ترجمه «عربي21»: «إلا أن سابقة واحدة تتقدم على غيرها من السوابق: هذه هي المرة الأولى خلال خمسين عاما من النضال ضد الاحتلال التي يجد فيها الفلسطينيون أنفسهم وحيدين لا يقف معهم أحد».
وتابع: «لم يسبق أن اتسعت الهوة التي تفصل بين الشارع العربي وحكومات العرب حول فلسطين إلى الحد الذي وصلت إليه هذا الأسبوع».
وإلى نص المقال
زكريا الجواودة، والد الشاب الأردني ذي السبعة عشر ربيعا الذي قتله حارس أمن إسرائيلي زاعما أن الشاب هاجمه بمفك، قال منتقدا الملك عبد الله: “ندعو العشائر إلى المطالبة بمعاقبة الرجل (الحارس الإسرائيلي).. نريد مقطع الفيديو.. نريد أن نعرف ما الذي حدث لابني”.
فما كان من الحكومة الأردنية إلا أن استنفرت ثلاثة وزراء اصطفوا الواحد تلو الآخر ليقولوا للأب المكلوم إنهم لن يفعلوا ذلك أبدًا. قال بشير الخصاونة، أحد الوزراء الثلاثة، والذي يشغل منصب وزير الدولة للشؤون القانونية: «مطلق النار الإسرائيلي يتمتع بحصانة دبلوماسية ولا يسمح لنا بالتحقيق معه، بموجب الاتفاقية الدولية. ولكننا نصر على الاستماع إلى شهادته».
على كل فات الفوت، فما لبث حارس الأمن زيف أن عاد سالما غانما ليستقبله رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بالأحضان.
عد عشرين عاما إلى الوراء وتأمل في الطريقة التي تعامل من خلالها والد الملك عبد الله، الملك حسين، مع نتنياهو في عام 1997 بعد محاولة فاشلة قام بها الموساد لاغتيال زعيم حماس خالد مشعل في عمان من خلال رش مادة سمية داخل أذنه.
حينها هدد ملك الأردن بتمزيق معاهدة السلام مع إسرائيل إذا ما توفي مشعل الذي كان وقتها في إغماءة. وحصل الملك يومها على المصل المضاد من رئيس الموساد داني ياتوم وضمن إطلاق سراح أحمد ياسين، الزعيم الروحي لحركة حماس، ومزيد من السجناء الفلسطينيين والأردنيين فيما بعد.
لك أن تتصور حجم الفضيحة التي كانت ستنشب في أي مكان آخر في العالم لو أن الشرطة منعت من استجواب -ناهيك عن التحقيق- مع المتهم الرئيس في جريمة قتل مزدوجة لمجرد أنه يعمل حارسا أمنيا في سفارة أجنبية.
حدث ذلك في الأردن، وذلك لأن المملكة تعلمت القيام بما يأمر به سيدها، حيث اتصل جاريد كوشنر، زوج ابنة ترامب ومبعوثه إلى الشرق الأوسط بالملك عبد الله.
قبل عشرين عاما حصل العكس تماما، حيث إن الملك حسين هو الذي اتصل بالرئيس بيل كلينتون (واضعا شروطه).
قبل ما يزيد على عام بادر هذا البلد، الذي يتاجر بلقب «راعي الحرم الشريف»، إلى التنازل بشأن قضية نصب كاميرات الأمن في الحرم الشريف والمدينة القديمة، وهي نفس الإجراءات التي تسعى إسرائيل الآن إلى فرضها حول بوابات الأقصى والمدينة القديمة وهي تعلم يقينا أن «الراعي» يوافقها في ما تقوم به من إجراءات.
الأمر متعلق بالسيادة
إلا أن الفلسطينيين لم يوافقوا من قبل ولا يوافقون الآن، على مثل هذه الإجراءات لأن الأمر بالنسبة لهم يتعلق بالسيادة وليس بالأمن. تم حتى الآن التنازل عن كثير من السيادة الفلسطينية على القدس الشرقية (هناك ما يقرب من ألفي مستوطن في الحي المسلم من المدينة القديمة، كما أنه جرى سحب ما يزيد على 14,500 تصريح إقامة منذ عام 1967 وحتى 2014.
وهل تذكرون صائب عريقات، كبير المفاوضين الفلسطينيين، الذي عرض على وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة تسيبي ليفني «أكبر يورشاليم في التاريخ»؟) حتى بات الأقصى بحق الخندق الأخير.
بالنسبة لمحمود عباس والسلطة الفلسطينية، يعتبر استمرار مسؤولي الوقف في رفض الدخول إلى الحرم الشريف، أو ما يطلق عليه اليهود اسم جبل الهيكل، هبة من السماء، فهي الخطوة التي تجسد الاحتجاج غير العنيف بالإضافة إلى أنها تجري خارج نطاق سلطته في الضفة الغربية، ولذلك فهي لا تكلف رام الله شيئا.
يسمح ذلك لعباس بأن يشرف على المشهد دون أن يتكلف بأي من مسؤوليات القيادة، حيث يقول: «إننا معكم في كل ما فعلتم وتفعلون فأنتم مفخرة لنا وأنتم حريصون على أقصاكم وأرضكم وكرامتكم وشعبكم ودينكم ومقدساتكم، وهذا هو الرد على كل من يعتدي على مقدساتنا وكل من يريد أن يعبث بمقدساتنا، القدس لنا وهي عاصمتنا، وهي سيادتنا، لذلك ما تقومون به هو الصحيح، فقد نهضتم نهضة رجل واحد ورفضتم كل الإجراءات ونحن أيدناكم بكل ما قمتم به ونؤيدكم بكل ما ستقومون به».
ولكنهم في حقيقة الأمر لا يفعلون شيئا، ولا حتى السعوديون. هدفهم الاستراتيجي هو الاتجار مع الاسرائيليين أيا كانت الأوضاع. الجميع يهرول نحو الاعتراف بالدولة اليهودية. إن الزعيم الوحيد في المنطقة الذي صدرت عنه تصريحات ثابتة ومتطابقة في دعم المطالبة برفع كافة القيود عن الدخول إلى المسجد الأقصى هو الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. وهذه هي السابقة الخامسة (التي تجلت في هذه الجولة من الصراع) أما الدول العربية فلم يمر وقت كانت فيه أشد بكما في رد فعلها مما هي عليه الآن.
ومع ذلك، فالقصة أطول وأعقد من ذلك بكثير.
نشطاء حماس وفتح معًا
أما في الشارع، فقد جمعت الأزمة ووحدت الفلسطينيين بغض النظر عن العشيرة أو الفصيل.
لقد أثمرت قضية الأقصى ما فشلت به سنوات طويلة من المفاوضات وجهود المصالحة بين «فتح» و«حماس».
ينشط الآن شباب فتح وحماس معا على الأرض ضمن حركة أكبر انضمت إليها جميع الفصائل الفلسطينية.
واحد من متصدري تلك الحركة، الدكتور مصطفى البرغوثي، الذي يتبنى العصيان المدني غير العنيف، صرح لـ«ميدل إيست آي» بما يأتي: «نحن على عتبة نقلة كبيرة. ما يجري اليوم ليس عشوائيا ولا عابرا. يمكن أن يشكل بداية انتفاضة ثالثة تختلف عن سابقاتها. ما هو بديع في هذا الأمر هو أنه ليس ناجما عن فصائل بعينها وإنما حركة شعبية قادرة على جذب أعداد ضخمة من الناس. يمكن لهذه الحركة الشعبية أن تعيد شحن الشعب الفلسطيني. قد يستغرق ذلك وقتا ولكننا في الطريق إليه. سوف تتجاوز السلطة الفلسطينية، لدرجة أنهم لا يعرفون حتى أنها موجودة. وسوف ينجم عن ذلك تغيير في القيادة».
هل هذا إغراق في التفاؤل؟
بإمكانكم أن تروا انعكاسا لذلك في الخارج. فهذه هي حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات التي تسمى اختصارا «بي دي إس» تنتعش وتزدهر وقد بلغت من العمر اثني عشر عاما.
لقد أصبحت «بي دي إس»، التي تعتبرها إسرائيل خطرا يتهدد وجودها، حركة عالمية تمتد من النرويج إلى تشيلي، ولها ملايين الحلفاء. ليست تابعة لأحد، وتتجاوز الدين والعرق والجنس، وتقوم على قاعدة المطالبة بحقوق مساوية للفلسطينيين، وشعارهم الذي يهتفون به هو: «فلتسقط جميع الجدران من فلسطين إلى المكسيك».
بدأت القضية الفلسطينية تغزو الأوساط السياسية الرئيسية حول العالم، فها هما بيرني ساندرز وجيريمي كوربن، اللذان كانا يعتبران في وقت من الأوقات خارج الخريطة السياسية، يصبحان أكثر نفوذا. في اختبار جرى مؤخرا في لندن، حضر ما يزيد على عشرة آلاف شخص نشاطا على مدى يومين اسمه «فلسطين إكسبو»، وذلك على الرغم من المعارضة الشديدة التي أبداها اللوبي المؤيد لإسرائيل وحملته الشرسة التي شنها في محاولة لإلغاء النشاط.
خارج فلسطين وفي داخلها، ثمة جيل جديد يسعى لانتزاع السيطرة على هذا النضال من زعامة متحجرة فاسدة فقدت كل سلطة معنوية وسياسية على شعبها. فعملية السلام بالنسبة لهذا الجيل كأنها لم تكن أبدا، بل هي بالنسبة لهم خدعة قصد منها التغطية على تمدد إسرائيل فوق كل تلة وهضبة في الضفة الغربية. هل يمكن بسهولة أن يشترى هؤلاء وأن يتم احتواؤهم وتجريدهم كما حدث مع الجيل السابق؟ أم إنهم سيتمكنون من تحقيق ما عجز عنه الآخرون؟
بناء على ردود أفعال الزعماء العرب والدول العربية، لم يكن الفلسطينيون في يوم من الأيام وحيدين كما هم اليوم، ومع ذلك تكتسب قضيتهم زخما عالميا. ينبغي على هؤلاء الزعماء العرب أن يحذروا. فلقد وفرت الانتفاضة الفلسطينية الثانية مصدرا مبكرا لانطلاق الربيع العربي، فما الذي ستفعله انتفاضة ثالثة تنطلق على أعتاب المسجد الأقصى؟