نجت منطقة الخليج مؤقتا من حالة حرب كانت لتأكل اليابس والأخضر حال اندلاعها بين الحلف السعودي ضد قطر، لكن المنطقة لم ولن تستمتع بطعم السلام الكامل قريبا؛ ذلك أن جملة الضغوط والمواقف الدولية المتتالية عقب اندلاع الأزمة أوقفت مبدئيا فكرة العزو المسلح لتغيير النظام في قطر بالقوة.
ولكنها وضعت المنطقة كلها ولفترة تبدو طويلة نسبيا في حالة اللاحرب واللاسلم، وهي الحالة التي شهدتها الجبهة العربية الإسرائيلية بعد عدوان يونيو 1967، وهي الحالة المثالية دوما لصناع وتجار السلاح عالميا لتصريف أكبر كمية عبر صفقات مليارية مع دول المنطقة التي زادت مخاوفها من بعضها وليس من عدو حقيقي، والتي ستزداد توددا ونفاقا لسادة العالم طلبا لحمايتها، وهؤلاء السادة سيكونون حريصين على إبقاء الأزمة لأطول فترة ممكنة حتى يتم حلب آخر جرعة لبن في ضروع هذه البلدان الخليجية وغيرها من البلدان العربية.
لن ننسى تصريحات ترامب إبان حملته الانتخابية قبل أكثر من عام وهي التي كانت أكثر صدقية وأكثر تعبيرا عنه، والتي وصف فيها السعودية بالبقرة التي إذا جف ضرعها ولم يعد يعطي الدولارات والذهب فإن الولايات المتحدة ستأمر بذبحها، ولم يكتف ترامب حينها بوصف السعودية بالبقرة الحلوب ولكنه طالب الأسرة الحاكمة بدفع ثلاثة أرباع ثروة المملكة كبدل عن الحماية الأمريكية لهم داخليا وخارجيا، مضيفاً أن السعودية ستكون في ورطة كبيرة قريبا بسبب داعش، وستحتاج لمساعدتنا، لولانا لما وجدت وما كان لها أن تبقى.
في زيارته الأولى للملكة نجح ترامب في (جلب) 460 مليار دولار وهو رقم يقترب من رقم الاحتياطي النقدي السعودي (540 مليار دولار)، وعاد إلى واشنطن مبشرا قومه بالنبأ العظيم، “لقد جئتكم من الشرق الأوسط بالمليارات، إنها تعني وظائف وظائف”.
ورغم ضخامة هذا الرقم الذي يكفي لحل مشاكل كل المسلمين في العالم تقريبا إلا أنه لن يكون مقنعا ولا كافيا لترامب الذي حدد طلبه مسبقا بثلاثة أرباع ثروة المملكة، وها هي الفرصة قد واتته ليستكمل (حلب البقرة) عبر استنزافها في صراع سياسي طويل مع جارتها قطر إضافة إلى حرب استنزاف أخرى أدخلها فيها ولي ولي عهدها محمد بن سلمان في اليمن باسم عاصفة الحزم، والتي تحولت إلى (عاصفة الحلب) أيضا.
حلب الضرع السعودي لن يقتصر على المسار الحكومي ممثلا في إدارة ترامب بل سيتعداه للمسار الشعبي حيث أصبح من حق المواطنين الأمريكيين مقاضاة المملكة السعودية وطلب تعويضات كبرى بسبب دورها في تفجير برجي مركز التجارة العالمية في سبتمبر 2001 وفقا لقانون جاستا، وقد أصبح أمام المواطنين الأمريكان مئات المليارات السعودية داخل وطنهم يمكنهم الحصول على أحكام قضائية قابلة للتنفيذ فورا بحقها، فبالإضافة إلى مبلغ الـ 460 مليار الذي جلبه ترامب توجد مليارات سعودية أخرى في الولايات المتحدة، فوفقا لتقرير لوزارة الخزينة الأمريكية أصدرته بموجب قانون “حق الحصول على المعلومات”، فإن المملكة السعودية تمتلك سندات خزينة أمريكية بقيمة 116.8 مليار دولار، وتمتلك شركة أرامكو النفطية – كامل مصفاة “بورت آرثر” الأكبر في أمريكا، إلى جانب 26 منصة توزيع ورخصة “شل” لتوزيع الوقود والديزل في ولاية تكساس، والعديد من الشركات والمشروعات الأخرى.
ليست السعودية وحدها التي ينظر إليها ترامب باعتبارها (بقرة حلوب)، فالنظرة تشمل كل الدول الخليجية بلا استثناء، بل تمتد لدول أخرى في المنطقة، وليس ترامب وحده من ينظر تلك النظرة التي يشاركه فيها كثير من حكام الدول الكبرى (الاستعمارية) وبالتالي فإن التنافس سيكون على أشده بين هذه الدول الكبرى للاستحواذ على أكبر نصيب من مليارات المنطقة الخليجية والعربية المستعدة لفعل ذلك طوعا أو كرها طلبا لحماية لها من أشقائها.
التسابق الخليجي على عقود السلاح الأمريكية بشكل خاص سيتزايد بشدة، فها هي دولة قطر تمضي في طريقها لشراء صفقة طائرات مقاتلة ( 72 طائرة إف 15) بقيمة 21 مليار دولار من الولايات المتحدة، وها هي إيران توقع عقدا مع شركة بوينج الأمريكية لشراء 60 طائرة ركاب من طراز 737، وسنسمع قريبا عن صفقات أخرى للإمارات والكويت والبحرين وسلطنة عمان، ولن تقف أوربا صامتة بل ستتحرك للحصول على جزء من ( الحليب الخليجي) وهو ما ستقلدها فيه روسيا أيضا، ليستيقظ المواطنون الخليجيون يوما وقد تبخرت ثروات بلادهم وأرصدتها المالية، مالم يهبوا لإنقاذ هذه الثروات من نزوات حكامهم الذين يتصرفون دون رقيب أو حسيب.
ما يحدث في دول الخليج يذكرنا بطبيعة الحال بما حدث مع ملوك الطوائف في الأندلس والذين أنفقوا ثروات ممالكهم في التسلح ضد بعضهم البعض واستعانوا بعدوهم ضد بعضهم أيضا، وأنقل هنا ما ورد في موسوعة قصة الإسلام للدكتور راغب السرجاني عن تلك الحقبة المؤلمة، وهو ما ينطبق بشكل شبه تام مع أزمة الخليج ( كانت هناك أمور مخجلة في المجتمع الأندلسي في ذلك الوقت، فالإعلام السائد في هذه الفترة وهو الشعر الذي يمجّد فيه الشعراءُ القادة أو الأمراء، ويصورونهم وكأنهم أنصاف آلهة، فهم أهل الحكمة والتشريع، وأهل العظمة والبأس، وأهل النخوة والنجدة، وهم (الأمراء) أهل الإنجازات الضخمة والأموال العظيمة، فيُفتن الناس والشعوب بمثل هذه الصفات وهذا العلوّ في الأرض فيتبعونهم فيما يقولون [فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ] {الزُّخرف:54}.
وهناك أيضا تحكُّم وضغط شديدين من قِبل الجيوش التي تتبع الحكام على الشعوب، فكانوا يحكمونهم بالحديد والنار؛ فلا يستطيعون أن ينبسوا بمخالفة أو اعتراض أمام الطواغيت.
وبالإضافة إلى هذا فقد ظهر أيضًا في هذه الفترة الفتاوى الخاصة والتي تصرّح لهؤلاء الأمراء بفعل ما يحلو لهم، ففتوى تصرح لقرطبة غزو إشبيلية، وأخرى تصرح لإشبيلية غزو بطليوس، وثالثة تصرح لبطليوس غزو ما حولها.
ثانيًا: كان هناك أيضا كارثة محققة وجريمة كبرى اقترفها أمراء بعض هذه الدويلات، وظلت ملمحًا رئيسيًا في هذه الفترة، وهي استجداء النصارى والاستقواء بهم، فقد كانت كل دويلة ذات جيش لكنه جيش ضعيف البنية قليل السلاح، ومن ثَمّ فلا بد لهم من معين يستقوون به في حربهم ضد إخوانهم، فتزلّفوا إلى النصارى في شمال الأندلس يتخذونهم أولياء ونصراء على إخوانهم، فمنهم من توجه إلى أمير “قشتالة”، ومنهم من توجّه إلى أمير “أراجون”، وأيضا إلى أمير “ليون”.
هذه الممالك النصرانية التي لم تكن تمثّل أكثر من 24 % فقط من أرض الأندلس، وكانت تدفع الجزية إلى عبد الرحمن الناصر والحكم بن عبد الرحمن الناصر ومن بعده الحاجب المنصور.
ثالثًا: وأشد وأنكى مما سبق فقد بدأ أمراء المؤمنين في هذه الفترة يدفعون الجزية للنصارى، فكانوا يدفعون الجزية لألفونسو السادس حاكم إمارة “قشتالة”، تلك التي توسعت على حساب المسلمين في هذا العهد (عهد ملوك الطوائف) وضمّت إليها أيضًا مملكة “ليون”، فأصبحت “قشتالة” و”ليون” مملكة واحدة تحت زعامة ألفونسو السادس أكبر الحكام النصارى في ذلك الوقت.
فكان أمراء المؤمنين -!! – يدفعون الجزية حتى يحفظ لهم ألفونسو السادس أماكنهم وبقاءهم على الحكم في بلادهم، كانوا يدفعون له الجزية وهو يسبّهم في وجوههم فما يزيدون على أن يقولوا له: ما نحن إلا جباة أموال لك في بلادنا على أن تحافظ لنا على مكاننا في هذه البلاد حاكمين).
ملحوظة.. وأنا أكتب هذا المقال اكتشفت حجب عشرات الصفحات التي تنقل تاريخ ومآسي عهد ملوك الطوائف، ومن الواضح أن ملوك طوائف اليوم هم من أغلقوها، لكن هذا الإغلاق لن ينقذهم من دفع الجزية، ولن يخفي عنا هذا العار.