“ينزلوا.. علشان يدوني تفويض أو أمر أحارب الإرهاب المحتمل”
ما زال المصريون يذكرون تلك الكلمات التي قالها وزير الدفاع عام 2013م، عبدالفتاح السيسي عندما طالب الشعب بمنحه تفويضًا لمحاربة “الإرهاب المحتمل”، وهو التفويض الذي اتخذه جسرا للانقلاب على سلطة رئيسه المنتخب محمد مرسي، لكن النتيجة بعد ذلك كانت انتشار الإرهاب لا القضاء عليه.
وقد لا يكون تفجير كنيستين في مصر أول حادث يمس الكنائس ويكدر العلاقة بين الأقباط والنظام السياسي الذي ساندوه ورأوا فيه المخلص، ولكنه -حسب محللين- قد يكون بداية انفصال الفريقين، أو على الأقل بداية أزمة بين قادة الكنيسة القبطية وشعبها.
وقد خشى مراقبون ذلك بالفعل بأن يكون التفجيران بداية تعثر لعلاقة ربطت بين النظام المصري والأقباط، إذ يرى محللون أن علاقة الأقباط بالسلطة متوترة منذ فترة، وأن هذه يمكن أن تكون الشعرة التي تقصم ظهر البعير.
من ناحيته قال البابا تواضروس الذي نجا من تفجير الإسكندرية في بيان له: إن “تلك الحوادث الإرهابية لن تؤثر على لحمة الشعب المصري”، علمًا بأن الأقباط كانوا على رأس الفئات التي دعمت النظام الحالي منذ انقلاب يوليو 2013م.
فراق السلطة والأقباط
من جانبه قال الناشط القبطي رامي جان إن “علاقة الأقباط بالسلطة متوترة منذ فترة، والتفجيرات الجديدة ستوترها أكثر، بعد أن كان الأقباط يرون في السيسي مخلصهم من آلام الإرهاب، ها هم يعاينون عجزه عن حمايتهم”.
ويستدرك جان أن “هذا بالنسبة لعموم الأقباط، ولكن قيادة الكنيسة على وفاق تام مع النظام، بل هي ورقة رابحة له في ملف التطبيع، حيث تقوم الكنيسة قريبا بتسهيل سفر الأقباط إلى إسرائيل لزيارة الأماكن المقدسة هناك”.
تعرية سيدة المنيا
ويرى رامي جان أن “العلاقة توترت بين الجانبين منذ تعرية السيدة القبطية في المنيا جنوبا، رغم إبلاغ الأمن مسبقا بضرورة حماية الأقباط، وأدرك الأقباط وقتها أن الأمن إما عاجز أو متقاعس عن حمايتهم، وما زاد من يقينهم هو تكرار التفجيرات بعد تفجير البطرسية التي هتف عندها شباب الأقباط ضد عدوهم الأساسي وهو النظام وليس الإسلاميين”.
ويرى الكاتب والمحلل السياسي أسامة الهتيمي أن “العلاقة بين السلطة والأقباط تأثرت بشكل كبير نتيجة حادث التفجير الذي وقع في ديسمبر 2016م، وهو ما انعكس جليًا على حجم الاحتفاء بالسيسي عند زيارته الأخيرة لأميركا مقارنة بزيارته في سبتمبر 2016م، أثناء مشاركته في اجتماع الجمعية العمومية للأمم المتحدة، حيث لوحظ انخفاض كبير في عدد الأقباط المستقبلين للسيسي.
ومن ثم فمن الطبيعي أن يتعمق هذا التأثر بعد حادث تفجير كنيستي طنطا والإسكندرية، مع انطباع تتزايد رقعته بأن هناك تراخيا أمنيا، وربما كان ذلك سيدفع السلطة إلى محاولة احتواء الموقف بالعمل سريعا على كشف ملابسات الحادث والمسؤولين عنه”.
وأعرب الهتيمي في تصريحات تلفزيونية عن اعتقاده بأن “موقف العديد من الأقباط تجاه النظام السياسي الآن يتسم بالازدواجية، إذ يرى كثير منهم أن الحادث نتيجة تراخ أمني، في حين يرى آخرون أنه لا يمكنهم أن يتخلوا عن دعم هذا النظام في ظل حالة الاستقطاب السياسي التي تشهدها البلاد”.
ورجح أن ينعكس هذا الحادث على علاقة قيادات الكنيسة بالبعض من شعب الكنيسة ورعاياها، خاصة من بين الفاعلين والناشطين الأقباط الذين سيعملون على فك الارتباط بين هذه القيادات والنظام السياسي.
حيرة الأقباط
وفي قراءة معنوية لتعامل الأقباط مع حادث تفجير الكنيستين، يرى الطبيب النفسي والمهتم بالشأن المصري الداخلي أحمد عبد الله (اسم مستعار)، أن أقباط مصر ليسوا في حاجو الآن أن يفكروا في اتخاذ موقف من السيسي فهم بالفعل قد اتخذوا موقفا سلبيا تجاهه إلا أنهم يخشون الإعلان عنه أو التحرك بناء عليه، لأنهم – كما يرى- واقعون في حيرة عميقة ومتأرجحون بين رجل خلصهم من الإخوان الذين كانوا يمثلون لهم هاجسا سياسيا ودينيا كبيرا وهو ذات الرجل الذي وعدهم بالمن والسلوى فلم يجدوا سوى الحنضل، على حد قوله، ويتابع عبد الله: من أزمات الأقباط وموقفهم من السيسي أنه بداخلهم اعتقاد راسخ أن البديل الوحيد له هم الإخوان الذين يبنون موقفهم منهم على أسس دينية وثقافة تفزيعية زرعها فيهم حكم العسكر. كما أن الأقباط ، بحسب عبد الله- يرون في عبد الفتاح السيسي الجيش المصري نفسه وليس شخصه لذلك فهم يتوجسون بشدة حين ينتابهم التفكير في المطالبة بتغييره.
حول تسييس الهجمات
وقد تبدو فرضية تسييس الهجمات على الكنائس مفهومة طالما أن “شرعية” الانقلاب قامت أساسا على مقاومة الإرهاب وما زالت تتغذى عليها، لا سيما أن السيسي حصل مؤخرًا على “تفويض” آخر من الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترمب، ففي لقائهما بالبيت الأبيض أشاد ترمب بالسيسي قائلا إنه “يقوم بعمل رائع وسط ظروف صعبة”، مضيفا “لديك صديق حميم هنا في الولايات المتحدة”.
وفي هذا السياق يرى أستاذ العلوم السياسية سيف عبدالفتاح أن الأمر يتعلق بـ”صفقة القرن” التي عقدها السيسي مع ترامب، ومفادها -حسب قوله- أن يتم إفراغ سيناء من أهلها، ثم وضعها تحت سلطة دولية، تمهيدا لفرض واقع سياسي يشمل قطاع غزة أيضا.
وإذا كان نظام مبارك قد استهدف فعلا كنيسة القديسين لإشعال فتيل الفتنة قبل سقوطه، فمن الجدير بالاهتمام ما نقلته وسائل إعلام محلية الأحد عن هتافات رددها بعض المسيحيين الغاضبين في الإسكندرية، ومنها “الشعب يريد إعدام الإخوان”، بينما لا تزال أحكام الإعدام بحق قادة الإخوان المسلمين معلقة.
شبهة التواطؤ الأمني
من جهة أخرى، صب المتظاهرون جام غضبهم أيضا على السلطات نفسها واتهموها بالتراخي الأمني، كما اشتبكوا مع الشرطة حول الكنيسة المرقسية بالإسكندرية، وقطعوا بعض الطرق في مظاهرات ترفع شعارات ضد النظام، بينما أوسعوا مدير أمن محافظة الغربية ضربا أمام كنيسة مار جرجس، وذلك قبل أن تقيله وزارة الداخلية.
وربما يبرر المسيحيون الغاضبون موقفهم بعدم وفاء السيسي بوعده، فقبل شهرين تعرضت طائفتهم لسلسلة هجمات في محافظة شمال سيناء، وتسببت في نزوح الكثير من أسرهم، مما دفع السيسي إلى تقديم التعهدات بحمايتهم، لكن تفجيرات الأحد تضع مصداقية الرئيس على المحك.
كما تثير التفجيرات تساؤلات عن فحوى انتقالها من محافظة نائية مثل شمال سيناء إلى مدن مكتظة في وسط البلاد، فإذا كانت سيناء تشهد خطة للتهجير والتقسيم في خضم حرب واسعة النطاق، فإن انتقال العنف إلى المدن الكبرى قد يكون مؤشرا على وجود ثغرات أمنية تستغلها جهات تسعى لضرب النظام في العمق.
وسواء كان الأمر نتيجة تواطؤ أو فشل أمني، فقد درج مسؤولون غربيون على انتقاد إستراتيجية السيسي في “مكافحة الإرهاب” برمتها، وذلك قبل أن يشيد بها ترمب، ففي أواخر عهد سلفه باراك أوباما وصف توم مالينوفسكي مساعد وزير الخارجية الأميركي تلك الإستراتيجية بأنها الأسوأ على الإطلاق، مشددا على ضرورة الإصلاح السياسي والتصالح مع الأحزاب الإسلامية السلمية.
لكن الغموض ما زال سيد الموقف حتى الآن، فإذا كانت التحقيقات بشأن الجهة المسؤولة عن تفجير كنيسة القديسين في ظل حكم مبارك لم تُعلن بعد، وإذا كان تبني تنظيم الدولة للتفجيرات التي استهدفت الكنائس منذ ذلك الحين لا تعدو كونها بيانات صحفية، فسيكون من الصعب إذن التنبؤ بالمستقبل الأمني في ظل حكم انقلابي.
محاولة للتفسير
وفي محاولة لتفسير الحدث يقول الكاتب والباحث المصري نبيل الفولي إن الحدث قد هزا مصر هزا عنيفا، واستجلب كثيرا من الشجب الدولي والداخلي.
ويسعى للتوضيح قائلاً: لا ينبغي أن نكتفي بطرح احتمال واحد لا ثاني له حول من يقف وراء الجريمتين البشعتين، وهو أن يكون ثمة أجهزة داخلية في الدولة تتصارع فيما بينها، ويحاول بعضها أن يطيح ببعض، ولو على حساب جماهير الشعب الآمنة في دور عبادتها أو بيوتها وطرقها، وإن كانت لهذا شواهد تاريخية سابقة قريبة وبعيدة.
ولا يمكن القطع كذلك -قبل توفير القرائن والأدلة الكافية- بأن هذه الجرائم هي عربون الصداقة التي عقدها عبد الفتاح السيسي مع دونالد ترمب في واشنطن قبل استهداف الكنيستين بأسبوع للتعاون على مكافحة الإرهاب؛ أي فتح مجال التدخل المشترك في أي بؤرة ساخنة فيما يسمى بالشرق الأوسط تتجه فيها الأمور اتجاها لا يروق للأميركيين وحلفائهم في المنطقة أو خارجها؛ خاصة بعد الإعلان المحاط بالغموض من تنظيم الدولة الإسلامية الناشط في العراق وسوريا واليمن وليبيا ومصر تبنيه للتفجيرين.
ويستدرك الفولي: بل إن ثمة احتمالا ثالثا قويا بوجود أصابع إرهاب فعلي صنعتها الأجواء السياسية والأمنية غير الصحية التي تعيشها مصر، وهذا يوافق رواية النظام الحاكم في القاهرة، ويتساءل: فمن أين تسرب الإرهاب الذي قد يكون صناعة محلية خالصة تعادي النظام، وقد تكون وراءه أصابع خارجية عابثة تعمل في الاتجاه الذي يخدم هذه الجهة أو تلك؟
ويخلص إلى أن منطق محاسبة النظام على تقصيره -ما دام يعترف بأن الإرهاب هو الذي اخترق المنظومة الأمنية وقتل عشرات الأبرياء- هو المنطق الذي يجب أن يسود في مصر الآن، فقد صار المواطن مهددا في أي مكان يحل فيه، بما في هذا مساجده وكنائسه.
ويرى أن ما فعله النظام عقب الحادثين من إقالة بعض المسؤولين -مثل مدير أمن محافظة الغربية وبعض القيادات الأمنية الأصغر- لا يتناسب وحجم الحدث على الإطلاق، ولا يكفيه إقالة وزير الداخلية ولا حتى الوزارة كلها، فمجرد بقاء الوزير يعني أن النظام راض عن أدائه للدور الذي جيء به لأجله، وهذا هو أساس الخطيئة التي وقع فيها النظام.
ويتابع: لابد من التأكيد على أن إقالة أو استقالة مسئول ما في جو الأزمات أو عقب الكوارث والحوادث الأليمة، لا ينبغي أن تكون لامتصاص ردود الفعل أو لإسكات الجماهير الغاضبة أولا، ولكن لإصلاح واقع أعوج، أو علاج حال مائل، أو محاسبة موظف عام على التقصير في واجبه.
ماذا تعني حالة الطوارئ؟
وكان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في كلمة وجهها مساء الأحد، عقب ترؤسه اجتماعا لمجلس الدفاع الوطني قد قرر فرض حالة الطوارئ لمدة 3 أشهر في جميع أنحاء الجمهورية، وتشكيل المجلس الأعلى لمكافحة الإرهاب والتطرف.
وفي حالة الطوارئ تعطى السلطة التنفيذية، سلطات واسعة لوضع القيود على حرية الأفراد وحقوقهم الدستورية؛ بوضع قيود على حرية الأشخاص في الإجتماع والإنتقال والإقامة والمرور في أماكن أو أوقات معينة والقبض على المشتبه فيهم أو الخطرين على الأمن والنظام العام وإعتقالهم والترخيص في تفتيش الأشخاص والأماكن دون التقيد بأحكام قانون الاجراءات الجنائية وكذلك تكليف أي شخص بتأدية أي عمل من الأعمال، فضلا عن الأمر بمراقبة الرسائل أيا كان نوعها ومراقبة الصحف والنشرات والمطبوعات والمحررات والرسوم، وكافة وسائل التعبير والدعاية والإعلان قبل نشرها وضبطها ومصادرتها وإغلاق أماكن طباعتها.
كما يحق للسلطة التنفيذية، تحديد مواعيد فتح المحال العامة وإغلاقها وكذلك الأمر بإغلاق هذه المحال كلها أو بعضها.
ويحق للسلطة التنفيذية أيضا، الاستيلاء على أي منقول أو عقار والأمر بفرض الحراسة على الشركات والمؤسسات، وكذلك تأجيل أداء الديون والالتزامات المستحقة والتي تستحق على ما تستولى عليه أو على ما تفرض عليه الحراسة.
فضلا عن سحب التراخيص بالأسلحة أو الذخائر أو المواد القابلة للإنفجار أو المفرقعات على اختلاف أنواعها، والأمر بتسليمها وضبطها وإغلاق مخازن الأسلحة.
كما يحق للسلطة التنفيذية، إخلاء بعض المناطق أو عزلها وتنظيم وسائل النقل وحصر المواصلات وتحديدها بين المناطق المختلفة.
الدفع بوحدات الجيش
وفيما يخص اعتماد النظام على الحل الأمني كأولوية لمواجهة مثل تلك الأحداث اعتبر أستاذ الدراسات الأمنية والعلوم السياسية بجامعة أكستر البريطانية الدكتور عمر عاشور أن الاستنجاد بالجيش يمكن تفسيره على أكثر من جانب، فمن الناحية الرمزية يعطي فكرة أن الجيش هو حامي الأمن في البلاد حتى لو كان الأمن داخليا.
ومن ناحية ثانية، هناك بعد سياسي يرسل رسالة إلى الداخل والخارج بأن الجيش غير طائفي، ويحمي المسيحيين، وهي رسالة لها بعد إيجابي.
ويرى عاشور أن القصور الأمني واضح، وأن هناك اختراقا للأمن رغم كل ما حدث، لاسيما أن تنظيم الدولة أعلنها واضحة قبل شهرين بأنه سيستهدف الأقباط وكنائسهم.
وفي السياق نفسه، يرى اللواء رفيق حبيب مساعد وزير الداخلية المصري السابق أن هذه الاعتداءات هدفها تمزيق وحدة النسيج الاجتماعي والوطني المصري، وكذلك معاقبة الأقباط لتأييدهم للنظام الحالي.
أما عن الدفع بوحدات للجيش لمساعدة الأمن، فيؤكد حبيب أن الإرهاب يستهدف إحداث فتنة طائفية، ولذلك فإن تعزيز الحراسات بالقوات المسلحة خطوة مهمة في الوقت الحالي لنشر شعور بأن هناك إجراءات أمنية مشددة اتخذت للحيلولة دون وقوع الإرهاب أو التقليل من خسائره.
وهكذا يجمع مراقبون على أن تفجير كنيستي طنطا والإسكندرية وإن مر عند النظام مرور الكرام كسابقاته، فإنه لن يمر عند الأقباط هكذا، خاصة أنهم قد تحملوا كثيرا وانتظروا حماية خاصة من رئيس خلصهم من حكم جماعة الإخوان، ورأوا فيه رجل الأمن العالم ببواطن الأمور والقادر على حمايتهم. كما يرون أن الحل الأمني مهم ويأتي في الصدارة لكنه لا يمكن أن يكون الوحيد وإلا لتم القضاء على الإرهاب في الدول التي اتبعت الحل الأمني فقط.
كما رأى بعضهم أن ثمة توطؤا مخابراتيا قد تظهر دلائله فيما بعد، وخلص الجميع إلى أن منطق محاسبة المقصرين هو المفتاح السري والحقيقي لمواجهة الإرهاب إن أرادت السلطة ذلك بالفعل، وأكدوا على أن إقالة مسؤول من منصبه ليس بالأمر الكافي.