مبارك بريء.. لم يقتل الثوّار.. هكذا قالت المحكمة في حكم منطقي لا غرابة فيه، حكم نكتبه في مقالاتنا ثم نضع بعده نقطة في نهاية السطر لا علامة تأثر.
لا معنى للتأثر أو التعجب، لقد استغل مبارك ثلاثين عاما في السلطة فزرع هؤلاء الجنرالات في الجيش المصري، وزرع هؤلاء القضاة في المحاكم، وزرع هؤلاء المشايخ في الأزهر، وزرع هؤلاء الصحفيين والإعلاميين في الصحف والمحطات.
لقد استغل مبارك وجوده في السلطة ثلاثين عاما فضرب جذور فساده في أرض الوطن برجال أعمال لا يتورعون عن فعل أي شيء من أجل المال.
لقد مدّ مبارك فساده السياسي والاقتصادي حتى أصبح منظومة إقليمية ودولية، فرأينا دولا عربية تقاتل من أجل بقاء مبارك في السلطة، ثم تقاتل من أجل حمايته خارجها، ثم تقاتل من أجل خلق مسخ آخر منه (وقد نجحوا ثم انقلب السحر على الحمار)، وقريبا ستقاتل من أجل استبدال مبارك بمبارك أذكى قليلا من “سيسي”!
لا غرابة إذن في الحكم، بل قد تكون الغرابة في ردود أفعالنا عليه.
ردود الأفعال مخزية.. بعضنا يقول “هذه نتيجة سهرة ثلاثين سونيا”.
وبعضنا يقول “بل هي نتيجة تعيين “سيسي” وزيرا للدفاع، وإعطاء القتلة نياشين وأوسمة، والتواطؤ على خروجهم الآمن وإعفائهم -مع مبارك- من القصاص”.
البعض يقول : “لقد حملتم القتلة على أكتافكم وأدخلتموهم الميدان”، والبعض يرد: “وأنتم احتميتم بمدرعات الأمن المركزي وهي تضرب الثوّار والمتظاهرين في الشوارع”.
ويستمر الجدل الفارغ، والمزايدات التافهة.. ويستغل ذلك لجان الكترونية لا همّ لها سوى إشعال هذه الفتنة مع كل مناسبة، وبلا مناسبة.
لا معنى لمحاولة تحميل المسؤولية لفصيل دون فصيل، أو لشخص دون آخر، ولا معنى لتكرار الكلام عن ضرورة الاصطفاف.. فالأمر أوضح من أن يوضح.
مصر بلد ما زالت تنتظره مجازر كبرى، وهو ينتظر تهجيرا جماعيا في بعض المناطق، وينتظر تدويل بعض المناطق، وينتظر خرابا اقتصاديا، وعطشا وجوعا وفقرا إلى حدود المجاعة (حرفيا)، والعميل القابع في قصر الاتحادية يبرئ مبارك لأنه نسخة منه، ويرسل طياريه وخبراءه العسكريين إلى سوريا في مهمة مزدوجة المنافع، فهم يدعمون نظام بشار السفّاح في أشياء، ويتعلمون منه أشياء أخرى على سبيل الاحتياط.
لقد ابتلانا الله بإسلاميين (أقصد القيادات التي تخشبت في مواقعها) لا يعرفون من الإسلام إلا نسخة مشوهة تفرض الطاعة المطلقة على الأتباع، وابتلانا الله بليبراليين (القيادات أقصد) لا يعرفون المعنى الحقيقي للحرية، وهم ليسوا أكثر من مستبدين صغار، خدم عند مستبد أكبر.
نحن أمام نظام هشّ، متواضع الذكاء، مفكك داخليا، مكروه إقليميا، غير مرغوب فيه دوليا، ولكننا نعجز عن توفير البديل … البديل الذي يغري المصريين بالانخراط في خطة ما، سواء كانت ثورة أو عصيانا مدنيا أو أي وسيلة أخرى لإسقاط هذا النظام.
براءة مبارك لم تأت إلا بذنوبنا، وذنوبنا أساسها الفُرقة، والأنانية، ولن يتغير الوضع الحالي إلا بتوحد الناس، لن تسقطه تظاهرات، ولا انتخابات.. لا بد أولا من توحيد الجماعة الوطنية التي تقرر كيف يكون مسار المقاومة!
براءة مبارك … إدانة لنا جميعا!
لأننا مُصِرُّونَ على إشعال الصراع الأيديولوجي التافه على حساب المصلحة الوطنية الجامعة التي لا خلاف عليها.. وهي ضرورة إنقاذ مصر برحيل هذا النظام.
لأننا مُصِرُّونَ على السير في أوهام الحلول الجذرية التي تأتي بالضربة القاضية والانتصار الساحق، بدلا من الحلول التوافقية التي توحِّدُ صفّ الثورة في وجه الثورة المضادة.
لأننا مُصِرُّونَ على تغليب أخلاق القناعات الفكرية على أخلاق المسؤولية الوطنية.
لأننا مُصِرُّونَ على ترك الفرصة أمام النظام العسكري المستبد في تجريم بعضنا، فنقف شاتمين شامتين فيمن حل عليه العقاب اليوم، بدلا من التكتّل في وجه أي محاولة لتجريم أي عنصر أو أي جزء من الجماعة الوطنية المصرية (حتى لو كان بيننا وبينه خلاف).
لأننا مُصِرُّونَ على عدم الالتقاء على الأرضية المشتركة وعلى تحديد الحدّ الأدنى من القناعات.
هذه ذنوبنا التي بَرَّأَتْ مبارك!
الطريق واضحة وسالكة.. فيها عقبات.. ولكنها في مجملها سالكة بسبب الفراغ الذي تعانيه الحياة السياسية في مصر.
والشعب المصري في انتظار راية.. راية يرفعها شباب مخلصون، يقدمون حلا للأمة المصرية، يعطيهم أملا لكي يواجهوا هذا النظام السفّاح.
ولكننا نلوم الناس.. نشتمهم.. نعيِّرُهم بعيوبهم.. ولا نمد لهم يد العون!
الثوّار من التيارات المدنية يبصقون على الناس، فقد دخل شبابنا السجون من أجل أن يعطوهم حياة أفضل، متناسين أن تاريخ الثورات كلها كان كذلك.. والجماهير (التي طالما وصفت بالجهل) كانت ترفع الثوّار على الأعناق.. ثم تنزلهم على المقصلة.
والثوّار الإسلاميون يسبون الشعب سبا بذيئا لأنهم لا يستحقون سوى الاستبداد، إنهم عبيد البيادة الذين خانوا الرئيس المسلم التقي..إلخ، ويتناسى هؤلاء سيرة محمد صلى الله عليه وسلم وجميع الأنبياء والمرسلين … فقد كذبهم أقوامهم.
إنها سنة الله في الأرض.. لا فرق بين ثورة وأختها، ولا فرق بين شعب وآخر، لا فرق بين مصلح ومصلح، لا فرق بين نبي ونبي.. ومن يعتقد أنه حين يطالب الناس بالتغيير أنهم سيصفقون له.. فهو أحمق، غالبية الناس في كل زمان ومكان ضد التغيير، ودعاة التغيير دائما يقاومهم أهلهم وذووهم!
الناس أعداء ما يجهلون، ونحن لم نعرفهم بمكاسبهم من الثورة، فأصبحوا أعداءنا، وهذا من ذنوبنا وتقصيرنا، ولا يمكن أن نلوم عليه بسطاء الناس.
إن ردّ فعل الشعب المصري على ثورة يناير يثبت أن هذا شعب عظيم، وقد وقف معنا في معارك كثيرة، ولكننا لم نحسن قيادة المعركة، فخسرنا الشعب، والسبب الأول في ذلك أن قيادة المعركة كانت في يد عجائز منفصلين عن الواقع، واليوم أصبح الشباب المصري مهيئا للقيادة.
ما زالت الفرصة أمامنا … وما زالت قوى الثورة مهيئة للاصطفاف الحقيقي الذي يستطيع أن يغير مجرى الأحداث، أو على الأقل أن يقف في وجه أي حل يحاول الطرف الآخر أن يفرضه في غفلة من الزمن، بأن يستبدل حمارا بحمار، أو جنرالا بجنرال، أو انقلابا بانقلاب.
ما زالت الفرصة أمام شباب مصر.. أن يتجاوزوا خلافات أسلافهم التي عطلت مسيرة الثورة، وأن يتحدوا، لكي تطوى هذه الصفحة الكئيبة، وحين تطوى.. ستختفي وجوه كثيرة من المشهد، وسيأتي دورهم الطبيعي في القيادة.
في النهاية.. سأحكي قصة لا بد أن أحكيها … خلاصتها : أرسل لي رمز من رموز مصر من زنزانته في سجن العقرب منذ عدة شهور رسالة دامية، تطالبني بالعمل مع كل المخلصين ضد الانقلاب وفق استراتيجية إسقاط “سيسي” وتأجيل سائر الخلافات والمعارك إلى ما بعد طيّ هذه الصفحة السوداء، فإسقاط هذا الرجل أمر مجمع عليه، وكل ما سوى ذلك عليه خلاف.
هذا الرمز المحترم يُجمع عليه الجميع (من كل التيارات).. ومن الغريب أن يرى هذا المحبوس في سجن انفرادي منذ سنين الأمور أوضح مما يراها من يسير في شوارع القاهرة والمحافظات، أو من يتجول في عواصم العالم كله، وهو أمر يثبت أن الزنزانة والحرية أمور نسبية، وأن عمى البصيرة قد أصاب كثيرا ممن يظنون أنفسهم زرقاء اليمامة!
عاشت مصر للمصريين وبالمصريين..