يجلس الشيخ “عبد الرحمن الكواكبي” بسكينة، أمامه فنجان القهوة.. قيل له: “لقد وصل”.
فقال: “أدخلوه”.
قيل له: “أتجالس هذا السفاح وتحاوره يا شيخنا؟”.
قال: “أما المجالسة فلا، فما هو بجليسي، بل هو الحوار، وإن الله سبحانه جل في علاه وتقدست أسماؤه وصفاته.. قد حاور إبليس الرجيم، ولولا ذلك لما حلّتْ عليه اللعنة، ولما استحق العذاب، قال تعالى: “قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى? يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى? يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ (80) إِلَى? يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81)”..سورة ص، ولم يقلها سبحانه إلا بعد أن حاوره!
أدخلوه.. فوالله لو طلب إبليس لقائي لأجبته!”.
دخل الجنرال.. ينظر إلى السقف مثل عادته.. ابتسم ابتسامة بلهاء، ثم مد يديه مصافحا، ثم قال:
“السلام عليكم ورحمة الله وبركاته”.
فأجاب الكواكبي: “أما المصافحة فلا.. فأنا لا أصافح إلا الرجال.. وأما السلام فلن أكذبك.. عليك ما قلت إن كنت له مستحقا.. قل ما عندك واختصر.. واعلم أنني أعلم من أنت، وما أنت، وكيف أنت، ولم أنت، ومن أين مجيئك، وأين قرارك، وإلى أين مستقرك”.
كتم الجنرال غضبه ثم قال: “لماذا هذا اللقاء الجاف يا أستاذ عبرحمن؟ حضرة النبي كان بشوشا حتى مع أعدائه!”.
أجاب الكواكبي: “أنا الشيخ عبد الرحمن الكواكبي، لعن الله من فهمك أن الناس كلهم إما لواء وإما أستاذ”!!!
استغرب “سيسي”، وقال: “وبعدين بقى.. أنا حالاقيها منك ولا من ميكافيللي”؟! (اقرأ نصائح ميكافيللي إلى سيسي من هنا).
الكواكبي: “لله في خلقه شؤون.. قل ما عندك يا جنرال”.
الجنرال: أريد أن أصلح شؤون البلاد والعباد، ولذلك أريد أن أبقى أطول فترة في الحكم!
الكواكبي: لو أردت الإصلاح لتركت الحكم فورا، ولاعتزلت الناس إلى آخر عمرك تطلب الصفح من الله، ثم تطلب الصفح من الناس، ولأعدت المليارات التي سرقتها.. ولكنك تريد الثانية.. تريد البقاء في الحكم!
الجنرال: أنا ما سرقتش حاجة!!!
الكواكبي: انظر يا جنرال.. لقد بدأت حكمك بالدم، وبالدم ستستمر، وبالدم ستنتهي، وعاقبة مثلك في الآخرة جهنم، وفي الدنيا أنت ونسلك ملعون إلى يوم الدين، وإن لم تدفع ثمن الدم أنت، فتأكد أن من نسلك من سيدفع إن عاجلا أم آجلا.
واعلم أن عمرك في الحكم قصير.. ومهما فعلت ستظل خائفا مرعوبا من مطاردة الجماهير لك لكي تصلبك أو تخوزقك!
نظر الجنرال باندهاش، وقال: “أنا مش خايف من حد.. أنا مش خايف من حد.. صحيح.. باقولها تاني.. أنا مش خايف من حد!!!”.
قال الكواكبي بصوت ملؤه الثقة:
((إنَّ خوف المستبدّ من نقمة رعيته أكثر من خوفهم من بأسه؛ لأنَّ خوفه ينشأ عن علمه بما يستحقُّه منهم، وخوفهم ناشئ عن جهل؛ وخوفه عن عجزٍ حقيقي فيه، وخوفهم عن توهّم التخاذل فقط؛ وخوفه على فقد حياته وسلطانه، وخوفهم على لقيمات من النّبات وعلى وطنٍ يألفون غيره في أيام؛ وخوفه على كلِّ شيء تحت سماء ملكه، وخوفهم على حياةٍ تعيسة فقط.
كلما زاد المستبدُّ ظلما واعتسافا، زاد خوفه من رعيّته وحتّى من حاشيته، وحتى ومن هواجسه وخيالاته. وأكثر ما تُختم حياة المستبدِّ بالجنون التّام. قلت: (التام) لأنّ المستبدَّ لا يخلو من الحمق قطّ، لنفوره من البحث عن الحقائق.
وإذا صادف وجود مستبدّ غير أحمق فيسارعه الموت قهرا إذا لم يسارعه الجنون أو العته؛ وقلتُ: إنه يخاف من حاشيته؛ لأنَّ أكثر ما يبطش بالمستبدين حواشيهم؛ لأنَّ هؤلاء أشقى خلق الله حياةً، يرتكبون كلَّ جريمة وفظيعة لحساب المستبدِّ الذي يجعلهم يمسون ويصبحون مخبولين مصروعين، يُجهدون الفكر في استطلاع ما يريد منهم فعله بدون أن يطلب أو يصرِّح. فكم ينقم عليهم ويهينهم لمجرَّد أنهم لا يعلمون الغيب، ومن ذا الذي يعلم الغيب، الأنبياء والأولياء؟ وما هؤلاء إلا أشقياء؛ أستغفرك اللهم!)). “1”
قال الجنرال بتهتهة: “أنا عايز مصلحة الوطن.. وربنا يشهد”.
قال الكواكبي: “طبعا.. أنت تظن أن الله يشهد!!!
لقد قلتُ: ((إنَّه ما من مستبدّ سياسيّ إلى الآن إلا ويتَّخذ له صفة قدسيّة يشارك بها الله، أو تعطيه مقامَ ذي علاقة مع الله. ولا أقلَّ من أنْ يتَّخذ بطانة من خَدَمَةِ الدِّين يعينونه على ظلم النَّاس باسم الله، وأقلُّ ما يعينون به الاستبداد، تفريق الأمم إلى مذاهب وشيع متعادية تقاوم بعضها بعضاً، فتتهاتر قوَّة الأمّة ويذهب ريحها، فيخلو الجوّ للاستبداد ليبيض ويُفرِّخ)). “2”
الجنرال: كده الموضوع كبر وأنا مش حاعرف أسِدِّ مع سيادتك!!!
يصرخ الجنرال: هاتوا لنا الشيخ “أحمد نجاسة” بسرعة.
يدخل الشيخ نجاسة مطأطئ الرأس، منحني الظهر، ذليلا كأن على رأسه الطير، ثم يقول بصوت خفيض: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. تحت أمر حضرتك يا جنرال.
الجنرال: “تعبتني يا فضيلة الإمام.. ده أنا باحبك.. ليه بتتأخر عليَّ يا شيخ “نجاسة”؟
يرد الشيخ بتوتر: “أنا مع حضرتك أهو”!
الجنرال: “رد على الشيخ الكواكبي.. بيقول كلام صعب أوي”!
يقول الشيخ “نجاسة”: أيوه.. لقد سمعته.. والحقيقة أن كلام الشيخ الكواكبي لا ينطبق على حضرتك.. فأنت لم تستعن بنا في الشر أبدا، بل أنت تتخذ بطانة صالحة تعينك على العدل، وتنصحك بالحق، تأمرك بالمعروف وتنهاك عن المنكر.. والله يشهد!
الكواكبي: “وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ” صدق الله العظيم!!!
الجنرال: ما ترد يا شيخ “نجاسة”.. ولا أنت بس شاطر تتعايق بالعمة والجبة وساعة الجد بتجيب ورا!!!
يقول الشيخ “نجاسة”: “كيف تقول ذلك؟ لقد بنى الجنرال تكايا ومساجد ومدارس…”.
يقاطعه الكواكبي: كذبت.. والله ما بنى إلا سجونا! اخرج من هنا.. يا لك من رجل هو واسمه سواء.. اسمك ينقض الوضوء.. أما كلامك فينقض الإيمان!!!
يقول الجنرال: “بس أنا مش حاقدر عليك لوحدي.. أنا لازم استعين بصديق”!
الكواكبي: “استعن بما شئت.. ستقف يوم القيامة وحدك.. ولن ينفعك شيخ ولا قائد حرس ولا قائد ياوران ولا رئيس وزراء.. ولا حاخامات اليهود”!
يصرخ الجنرال: “امشي انت دلوقتي يا شيخ “نجاسة”.. ونادي لي على الشيخ “عجينة اليمني” بسرعة!
يدخل الشيخ “عجينة اليمني” متظاهرا بالسكينة.. يضع على رأسه عمامة ضخمة كأنها حوض سمك، ويرتدي عباءة مطرزة بخيوط الذهب، كأنها بدلة تشريفات ملكية من عصر الملكة فيكتوريا، ويمسك في يده مسبحة ألفية من الكهرمان، لو رأيتها لظننت أنها عقد حريمي في مزاد في قاعة تحف في باريس، تفوح منه رائحة دهن العود من مسافة مائة متر..
نظر إلى الشيخ الكواكبي فحيّاهُ بابتسامة اصطنع بها الوقار.. ثم نظر إلى الجنرال، وقال: السلام عليك يا جنرال.. والله إنني كلما رأيتك حمدت الله أن أنعم بك على أرض الكنانة.. لولاك لهلك الجيش يا جنرال !!!
قال الكواكبي: لعن الله الجيوش يا من تدعى “عجينة”!
((إن أسوأ ما تبتلى به الأمم هو جهالة الأمَّة، والجنود المنظَّمة، وهما أكبر مصائب الأمم وأهمّ معائب الإنسانية، وقد تخلَّصت الأمم المتمدّنة -نوعا ما- من الجهالة، ولكنْ؛ بُليت بشدة الجندية الجبرية العمومية؛ تلك الشّدة التي جعلتها أشقى حياة من الأمم الجاهلة، وألصق عارا بالإنسانية من أقبح أشكال الاستبداد، حتّى ربّما يصح أن يقال: إنَّ مخترع هذه الجندية إذا كان هو الشّيطان؛ فقد انتقم من آدم في أولاده أعظم ما يمكنه أنْ ينتقم!
إن الجندية تُفسد أخلاق الأمّة؛ حيثُ تُعلِّمها الشّراسة والطّاعة العمياء والاتِّكال، وتُميت النّشاط وفكرة الاستقلال، وتُكلِّف الأمّة الإنفاق الذي لا يطاق؛ وكُلُّ ذلك منصرف لتأييد الاستبداد المشؤوم: استبداد الحكومات القائدة لتلك القوَّة من جهة، واستبداد الأمم بعضها على بعض من جهة أخرى)). “3”
يصرخ الشيخ عجينة اليمني: قال صلى الله عليه وسلم “تكون فتنة لا ينجو منها إلا الجند الغربي”.
يصرخ الكواكبي: كذبت يا عدو الله.. هذا حديث ضعيف بكل طرقه.. وما أنت إلا رجل بال بولة فظنها نهرا، فظل يشرب من بولته حتى تنجست أمعاؤه، ووالله الذي لا إله إلا هو لو كان لجيش أن يشهد له الرسول الكريم فحتما لن يكون هذا الجيش الذي باع أرضه إلى أعدائه بدراهم معدودات.. لقد مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا واحدا لا سواه.. مدح الجيش الذي يفتح القسطنطينية لا غير، وكل ما سوى ذلك كذب، فالزم حدك ولا تتعالم، ولا تزور دين الله أيها الجاهل الخبيث!
((لست أدري من أين جئتم يا فقهاء الاستبداد بتقديس الحكام عن المسؤولية حتى أوجبتم لهم الحمد إذا عدلوا، وأوجبتم الصبر عليهم إذا ظلموا، وعددتم كل معارضة لهم بغيا يبيح دماء المعارضين؟!)). “4”
يسكت الشيخ عجينة اليمني سكوتا مطبقا!
يلتفت له الجنرال قائلا: إيه الحكاية؟ شكلك اتكبست!
يقوم الشيخ عجينة مسرعا وهو يتمتم بكلام غير مفهوم!
في هذه اللحظة.. يمسك الكواكبي فنجان القهوة لأول مرة ثم يقول:
أترى هذا الفنجان يا جنرال؟ هذا فنجان القهوة المسموم الذي شربته هنا في القاهرة منذ أكثر من قرن من الزمان.. لم أكمل فنجاني.. كان سما قويا.. وكان ذلك عقابي لأنني حذرت الناس من أمثالك!
الجنرال: يا فضيلة الشيخ.. أنا مش عايز أستدعي أي مواجهة مع أي حد.. تنصحني بإيه؟
نظر له الشيخ ثم قال: لك مني نصيحة واحدة…
الجنرال: إيه.. أنا معاك!
ابتسم الشيخ ابتسامة ساخرة ثم قال:
هناك اختراع ظهر في عصركم اسمه الطائرة الهيلوكبتر، وهو اختراع رائع وعظيم، وأنا أنصحك أن تحتفظ في أي مكان تذهب إليه -حتى ولو لفترة قصيرة- بطائرة هليوكبتر على أهبة الاستعداد، وأن يكون مكان الطائرة لا يبعد عنك أكثر من عشر دقائق على أقصى تقدير.
صرخ الجنرال قائلا: برضه؟؟؟.. انت كمان؟؟؟
ضحك الكواكبي ثم قال: يا جنرال.. أنت مخلوع أو معزول أو مقتول!
وإياك أن تعتقد بأنك في منصبك بذكائك.. أنت في موقعك بفضل غباء خصومك من الإسلاميين والليبراليين وتفرقهم.. والله لو اتفق خصومك من التيار المدني والإسلامي عليك لما صمدت أمامهم شهورا عدة أو أسابيع.. وليس لك من إنجاز في الحكم سوى أنك تعمل ليل نهار على الوقيعة بينهم في كل مناسبة، وبلا مناسبة!
لذلك.. لا تستهر بنصيحة الهيلوكوبتر.. إنها ملاذك الأخير!
هنا وقف الجنرال قائلا: أنا ما اسمحلكش بكده.. وخلي بالك.. انت هنا عندي.. قبرك هنا في مصر القديمة!
نظر الكواكبي نظرة تحد، وقال: قبري؟ أتخوفني بقبري؟ هل تعلم أن قبري في عهدكم يا عساكر الغبرة قد أصبح قهوة بلدي؟ بماذا تخوفني؟ إن الشاة لا يضيرها سلخها بعد ذبحها يا هذا!
صرخ الجنرال: إيه؟؟ حايسلخوني بعد ما يدبحوني؟؟؟
هنا.. أمسك الكواكبي بفنجان القهوة، ثم قال: لا يمكن أن يكون هناك أحد بهذا الغباء المطبق!!!
ثم شرب ما بقي من الفنجان المسموم جرعة واحدة ثم قال: ((اللهم إن المستبدين وشركاءهم قد جعلوا دينك غير الدين الذي أنزلت، فلا حول ولا قوة إلا بك)). “5”
“1”: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد – فصل الاستبداد والعلم.
“2”: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد – فصل الاستبداد والدين.
“3”: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد – من المقدمة بتصرف.
“4”: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد – فصل الاستبداد والدين.
“5”: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد – فصل الاستبداد والدين.