في الخامس والعشرين من يونيو 1978 قرر الجنرال خورخيه فيديلا ورفاقه في “الجانتا” العسكرية الحاكمة للأرجنتين أن يرفعوا حظر التجوال المفروض على البلاد والذي كان يبدأ يومياً في العاشرة مساءاً، لم يكن ذلك نتاج مظاهرات شعبية عارمة، ولا احتجاجات من القوى السياسية المعارضة، ولا حتى بسبب وقفات أمهات ساحة مايو، اللاتي اعتدن الخروج في إصرار كل أسبوع أمام القصر الرئاسي مشهرات لأسماء نساء ورجال بل وحتى أطفال ممن غيبتهم قبضة الجانتا الحديدية ولم يعد يرى لهم أثر. في الواقع كان الدافع وراء اقدام الجنرال المنقلب على الرئيس المنتخب ديمقراطيا ايزابيل مارتينيز دي بيرون لرفع الحظر هو إتاحة الفرصة للشعب بالاحتفال بالفوز الأول بكأس عالم التي استضافتها الأرجنتين على أرضها. لم ترى الطغمة الحاكمة في ذلك الوقت أي تهديد محتمل من شعب خرج مبتهجاً راقصاً في سكرة فوز سيظل ممزوج بقليل من الفخر حتى بالنسبة للاعبين الذين حملوا الكاس وزينت الميداليات الذهبية صدورهم. بعد الفوز بسنوات سيصرح مهاجم المنتخب الأرجنتيني ليوبولد لوكيه: “بحسب ما أعرفه الآن، لست فخوراً بهذا النصر”، ريكي فيللا زميله في المنتخب يقول” بلا شك، لقد تم استغلالنا سياسيا” .
ظهور الديكتاتور فيديلا في المباراة النهائية مزهواً في الاستاد و كذا في لقطات رفقة هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق أثناء البطولة، مشاهد غزت في حينها وسائل الاعلام العالمية لتجمل وجه النظام العسكري القمعي، و خلال البطولة ذهب الديكتاتور إلى معسكر المنتخب ليتمنى لهم حظاً سعيداً يوصلهم للكأس، كان الجنرال صادقاً في تمنيه الحظ لمنتخبه، لأنه لم يكن ليتمكن من ابرام صفقة مشبوهة مع حكومة ديموقراطية كهولندا تغنيه عن الحظ مثل التي أبرمها مع جنرال انقلابي آخر يحكم البيرو هو موراليس برموداز ، الصفقة التي مهدت للأرجنتين الفوز على البيرو بنصف دستة أهداف لتضمن التأهل للمباراة النهائية عوضاً عن البرازيل، لكن الثمن الذي دفعه فيديلا و رفاقه للبيرو كان بخساً بالنسبة لهم ، و لكنه كان باهظاً بالنسبة لآخرين ، دافعو الفاتورة كانوا ثلاثة عشر من اليساريين البيروفيين المعارضين الذين سيتم استقبالهم في الأرجنتين و تعذيبهم للحصول على اعترافات منهم، بعد ذلك بسنوات و تحديداً في عام 2012 أصدر قاضي أرجنتيني أمر اعتقال لموراليس الذي كان آنذاك يحاكم في روما مع رفاقه العسكريين بتهمة إخفاء 25 من الايطاليين ، صدر أمر الاعتقال بعد سماع شهادة “جينارو لاديزما” ،السيناتور البيروفي السابق و الذي كان من ضحايا هذه الصفقة وقت أن كان ناشطاً يسارياً في الاتحادات التجارية في البيرو ، كانت تلك الصفقة في اطار ما يعرف بالخطة “كوندور” التي تقضي بالتعاون بين مجموعة من الأنظمة العسكرية اليمينية في أمريكا اللاتينية لقمع التيار اليساري عبر تنسيق الاعتقال والنقل و التعذيب و الاغتيالات اذا لزم الأمر ، ويعتقد أن “كوندور” كانت جزء من الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية و الاتحاد السوفييتي .
الرواية ذاتها أيدها لاعبو منتخب البيرو، خوسيه فالكاو قال: ” هل تم الضغط علينا؟ نعم. أي نوع من الضغط؟ من الحكومة الى مديري الفريق ومنهم إلى المدربين”، اللاعب الذي مازال يرى هو وزميله هيكتور شومبيتاز تلاعباً في المباراة عبر تغييرهم وسط المباراة دون مبرر لذلك. تمت الصفقة وعبرت الأرجنتين على آلام المعارضين البيروفيين وأكملت طريقها نحو الكأس.
لنا أن تتخيل أم من حركة أمهات ساحة مايو مكلومة على ابنتها التي اختفت وستختفي للأبد، بينما ترقب الأرجنتينيين يملؤون الشوارع والساحات راقصين لنصر في مباراة لكرة القدم وقد نسوا أو تناسوا أنهم ما يزالون تحت حكم عسكري يجثم فوق أنفاسهم. لا شك أنها لعنت كرة القدم ولعنت اللاهثين وراء السراب وقد أغشوا أعينهم عن معركة الحق والكرامة.
احتفاء السلطة في الأرجنتين بالنصر وسعيها الحثيث لإتمامه بكل السبل يضعنا أمام الاستنتاج التالي: كانت السلطة ترى في الفوز بكأس العالم تجميلاً لوجهها الدميم في عيون الخارج وتخديراً لشعبها في الداخل عن طريق احراز نصر وطني وهمي يعيشون في سكرته فترة لا بأس بها. قطعاً ليس معنى ذلك أن انتصارات كرة القدم كلها مفبركة وضمن تفسير نظرية المؤامرة، ولكن الخطورة تكمن في تلك الإنجازات الوهمية التي تهواها الأنظمة الديكتاتورية فإنها وإن لم تصنعها فستستغلها، وتهلل لها أذرعها الإعلامية لتخدير شعوبها وصرفها بعيداً عن مشاكلها الحقيقة من فقر مدقع وجهل منتشر ومرض متفشي، وكذلك للتغطية على غياب الحريات والحقوق وقمع للمعارضين.