قبل ست سنوات من الآن، خرج عشرات الآلاف من المصريين إلى ميدان التحرير بوسط القاهرة مطالبين بـ”العيش والحرية والعدالة الاجتماعية”، بعدها بثمانية عشر يوما فقط، أنهت هذه التظاهرات حكم الرئيس محمد حسني مبارك الذي دام لعقود، لكن كل الآمال التي عقدت على الربيع العربي مذاك ذهبت أدراج الرياح، حتى إن المشكلات التي أنتجها قد تعاظمت الآن عما كانت عليه. قمع الحكومة المصرية الحالي للمعارضة أوسع وأشد شراسة، ومعدلات البطالة بين الشباب أكثر ارتفاعًا، والأوضاع الاقتصادية تمر بمرحلة صعبة، وهناك شعور عام بأن البلاد تسير على غير هدى.
لكن مع كل هذا، أخبرني أحد المسؤولين أن الرئيس عبد الفتاح السيسي “واثق من نفسه”، ويعرف أن الشعب يثق به، وعلاقته جيدة مع الناس، ويعود ارتفاع ثقة السيسي إلى الهدوء النسبي الذي تلا قرار تعويم الجنيه المصري في نوفمبر الماضي، وهو القرار الذي أدى إلى ارتفاع جنوني في الأسعار. حيث حذَّر بعض المسؤولين المصريين من هذه الخطوة لأنها قد تُشعل “انتفاضة خبز” على غرار تلك التي انطلقت في 1977 ضد الرئيس أنور السادات بعد رفعه الدعم، لكن لم يكن أمام السيسي أي خيار بسبب الانخفاض المهول في الاحتياطي النقدي في خريف العام الماضي، حينها لم تجد الحكومة أمامها بُدًّا من التصرف، ويقول المسؤول المصري سابق الذكر في هذا الإطار: “كان أمامنا خياران، إما الاستمرار في السياسة نفسها للحفاظ على شعبية السيسي، وإما النظر إلى مستقبل البلاد واتخاذ القرار الجريء والتعامل مع نتائجه”.
تعويم العملة الذي تبعه مباشرة جولة أخرى من رفع الدعم عن الوقود والتوقيع على قرض صندوق النقد الدولي البالغ 12 مليار دولار حصلت منها مصر على 2.7 مليار دولار على الفور، كلها أدت إلى تحسين ظاهري في الاقتصاد الكلي المصري، إذ تضاءلت سوق العملة السوداء بشكل كبير وتزايد الاحتياطي النقدي من 19 مليار دولار، نهاية أكتوبر، إلى 24 مليار دولار في الشهرين التالييْن، بينما فقد الجنيه 50% من قيمته دفعة واحدة، ولهذه الأسباب سرى تفاؤل مفاجئ في بعض الأوساط بأنه وفقًا لهذه الأرقام، فإن الاستثمار الأجنبي سيتدفق إلى البلاد مباشرة.
وأخبرني أحد رجال الأعمال أنهم تلقوا عددًا كبيرًا من الطلبات والاستعلامات عن الفرص الاستثمارية بعد تعويم الجنيه، فبالنسبة لهم أصبح بإمكانهم الآن التخطيط لأعمالهم ونفقاتهم وأرباحهم للعام المقبل، لكن لا تزال هناك العديد من العقبات على طريق النمو والاستقرار منها حجم الروتين الكبير المُحبط بالنسبة لأي مستثمر أجنبي، وكذلك المخاوف الأمنية التي أعاقت عودة قطاع السياحة.
في ظل هذه الظروف، يخشى المسؤولون المصريون من تباطؤٍ في دخول الاستثمارات الأجنبية إلى البلاد، وهو الأمر الذي سيكون واضحًا على وجه اليقين بعد حوالي ستة أشهر من الآن. بالرغم من اختفاء الهوس بـالسيسي الذي تلى الإطاحة بمرسي، فإنه يظل أكثر الرموز السياسية شعبية في الشارع المصري حتى الآن.
لكن في الوقت الحاضر يبدو أن الشارع المصري يتعامل مع الأوضاع بصبرٍ أكبر رغم الاستياء البالغ والمصاعب الجمَّة التي يواجهها المواطنون. وهو أمر مُستغرَب في بلدٍ كانت تعمُّه مظاهرات منتظمة خلال السنوات القليلة الماضية، فيما يرجع هذا الهدوء النسبي- وربما المؤقت- الذي ساد البلاد منذ أطاح السيسي بمحمد مرسي، أول رئيس منتخب للبلاد إلى أمريْن اثنيْن:
الأول هو مشاعر عدم التعاطف تجاه جماعة الإخوان المسلمين، التي ما فتئت تستخدم وسيلة التظاهر للتعبير عن مصالحها الخاصة، وهو ما يمنع الآخرين من الانضمام إليها ويضعف قدرتها على تنظيم المظاهرات، حيث يشير نشطاء على سبيل المثال إلى أن ثورة الغلابة في الحادي عشر من نوفمبر الماضي فقدت كل زخمها مباشرةً بعد إعلان جماعة الإخوان المسلمين الانضمام إليها.
وعلى الرغم من تعرُّض الجماعة لموجة قمع مهولة منذ الإطاحة بمرسي واختفائها النسبي من الشارع، فإنها تبقى قوة استقطاب كبيرة في الشارع المصري؛ بسبب السياسة الفاشلة والتفريقية التي اتبعها مرسي خلال عامه الرئاسي؛ “وضع الجماعة ما زال ضارًا، فكلما بدا أن الناس على وشك الخروج للتظاهر تقتل تصريحات وبيانات الجماعة هذه الرغبة” كما يقول أحد النشطاء، متابعا: “على الرغم من انخفاض شعبية السيسي إلا أنه يظل أكثر الرموز السياسية شعبية”، فيما يقول أحد مناصريه السابقين أن شعبيته انخفضت من 90 إلى 60%، لكنه ما زال يحتفظ بأغلبية داعمة له. قد تكون هذه الأرقام متضخمة عن واقعها، لكن من الصعب معرفة الأرقام الحقيقية في ظل تحذير وزارة الداخلية للمواطنين بإدلاء أي تصريحات أو آراء لاستطلاعات الرأي التي تجريها وكالات الأنباء الأجنبية.
في الوقت نفسه يبدو أن العلاقة بين الرئيس والمؤسسة العسكرية في أوجها بعد التوسُّع المثير في قوتها الاقتصادية الذي حققته في عهد السيسي. ففي يوم الأحد الماضي- على سبيل المثال- أعلن الجيش دخوله لحقل آخر من حقول الصناعة، إذ حصل على رخصة لإنتاج الدواء في مصانعه، لهذا يسود اعتقاد كبير بأن الجيش سيدعم السيسي في أي أزمة مقبلة. “المعادلة ما زالت السيسي أمام الإخوان المسلمين، وليس هناك طرف ثالث” يقول أحد رجال الأعمال.
غياب هذا الطرف الثالث متعمَّد من قِبَل الحكومة التي تسعى بدأب، وأحيانًا كثيرة بوحشية؛ لمنع تجدد أي معارضة سياسية. فمنصات التواصل الاجتماعي يتم مراقبتها بدقة، وأولئك الذين ينتقدون السيسي يواجهون خطر استدعائهم والتحقيق معهم، ويعتقد الكثيرون كذلك أن الشرطة تراقب هواتفهم المحمولة؛ لذا دأب العديد مِمَن أجريت معهم مقابلات من أجل هذا التقرير إلى وضع هواتفهم المحمولة في علب وحقائب لمنع الصوت من الوصول إلى المايكروفون، وقام أحدهم بتشغيل جهاز يُصدِر موجات تعطل أي أجهزة تسجيل أو تنصت. حتى إن الشرطة تعتقل مباشرة كل مَن يُخطط للقيام بمظاهرة.
وفي هذا السياق يقول برلماني سابق: “إن هذا القمع الشامل يُذكِّره بفترة حكم جمال عبد الناصر”، مضيفا: “تحت حكم الإخوان المسلمين كان الخوف السائد هو تجاه تغيير هوية الدولة، لكن الحرية المتاحة كانت أكبر كثيرًا من الآن. الآن عاد الهمس داخل الغُرف المغلقة من جديد، وأصبحت معظم الأحزاب القانونية تدور في دائرة الحكومة، وأصبح التفريق بينها أمرًا صعبًا في الوقت نفسه الذي تقوم فيه الأجهزة الأمنية بتوسيع تحالف “تحيا مصر” المؤيد للسيسي استعدادًا للانتخابات الرئاسية المقبلة في 2018″.
تحاول الأجهزة الأمنية كذلك تكميم الأفواه عن طريق توسيع سيطرتها على وسائل الإعلام التقليدية، حيث تُشير مصادر داخل صناعة الإعلام إلى أن هذه الأجهزة قدَّمت الأموال اللازمة لشراء عدة شبكات تلفزيونية خاصة وشركات علاقات عامة تشتري الدعاية التلفزيونية، مضيفة: مضيفة: “هذه الأجهزة الأمنية تتحكم في كثير من الأحيان فيما يُمكن وما لا يُمكن إذاعته، ومَن قبل مَن. وهو ما يُفسر كون آخر منتقدي السيسي على الشاشة الصحفي إبراهيم عيسى قد تم إيقاف برنامجه بسبب ضغوط غير محددة، ويفسر أيضا تخصيص عمرو أديب لنصف وقت برنامجه للحديث عن ثلاجة حلوان 360، التي يُنتجها الجيش في مصانعه، وكأنه أحد مندوبي الدعاية”.
لكن هذه هذه القيود المفروضة على التغطية الإعلامية زادت من قلق الشارع ولم تُهدئه، إذ يشير أحد رجال الأعمال إلى أن مسودة قانون المنظمات غير الحكومية والاستثمار تم عرقلتها من قِبل الأجهزة الأمنية دون علم مُسبق من الوزير المختص، ما يعني أن هناك انقطاعًا في التواصل بين أجهزة السلطة المختلفة، وهذا التضارب بين أجهزة الحكم المختلفة يصل أحيانًا إلى الملأ مُسببًا أزمات كبيرة كقضية تيران وصنافير التي حكمت فيها المحكمة الإدارية العليا ضد قرار حكومة السيسي الذي رغب في نقل السيادة عليها إلى المملكة العربية السعودية. تسببت هذه القضية في خسائر جمَّة للسيسي محليًا، حيث شاع لدى المواطنين المصريين أن السيسي يبيع جزءًا من تراب مصر، بينما أدت كذلك لخسارته على المستوى الدولي، حيث أوقفت الرياض دفعات المساعدات البترولية التي وعد بها الملك سلمان خلال زيارته القاهرة في أبريل الماضي.
بعد ست سنوات من ثورة ميدان التحرير، التي ألهمت أحلام الربيع العربي، يبدو أن البلاد قد علقت في مأزق حقيقي. لا تبدو الأوضاع الاقتصادية في سبيلها إلى التحسُّن في أي وقت قريب في الوقت الذي يبدو فيه أن الموقف السياسي تجمد تمامًا. ويبقى السؤال المسيطر الآن، الذي يطرحه مؤيدو السيسي “ما البديل؟”، ولا توجد أي بدائل, بسبب حرص السياسات الحالية على ضمان ألا يوجد هناك بدائل سوى القبول بالوضع الحالي، وهو ما يفعله المواطنون المصريون الآن مع عدم وجود أي خيارات أخرى متاحة.
*نشر هذا المقال في مجلة الشؤون الخارجية الأمريكية بتاريخ 24 يناير 2017, بواسطة: إيريك تراجر