أبرز تقرير مجلة “الفورين بولسي” الأميركية، المعاناة والظلم الذي يتعرض له عضو مجلس إدارة شبكة “رصد” الصحفي المصري عبد الله الفخراني، والذي يعد واحدًا من 25 صحفيًا تم الزج بهم داخل السجون المصرية بسبب عملهم الصحفي.
عبد الله الفخراني، أراد فقط قول الحقيقة حول حملة القمع العنيفة التي شنتها حكومة السيسي العنيفة ضد المدنيين. أودت به للسجن مدى الحياة.
تقول الصحافية كريستين تشيك والمقيمة في كوسوفو، والمتخصصة في الشرق الأوسط والبلقان،التقيت عبد الله الفخراني، في اليوم الأول من الانتفاضة المصرية ضد الرئيس حسني مبارك في يناير 2011. كان اللقاء بعد ظهر ذلك اليوم في ميدان التحرير، وكانت الشرطة تهاجم بالقنابل المسيلة للدموع، التي كانت تُطلق بشكل مقوس عاليا في الهواء وتسقط في وسط الجموع، جريت لكن لم أكن سريعة بما يكفي، فالغاز تركني ضعيفة الجسد والدموع تنهمر على وجهي. وبينما كنت لاهثة في التنفس، ظهر شاب بجانبي وساعدني للابتعاد عن الدخان، أعطاني كوفيته الملونة بالأبيض والأسود، مشيرا لي بلفها على وجهي لتغطية أنفي وفمي من الدخان.
عندما كنت قادرة على التحدث مرة أخرى، سألته لماذا استجاب الكثير من الناس للدعوات بالتظاهر مرة أخرى، “هذا هو نتيجة الضغط الذي تم بناؤه من الفساد والقمع وانعدام الحرية” هكذا صرخ الفخراني.
سقط المزيد من القنابل الغازية بالقرب منا، بينما نهرول بعيدا عنها. وكان الفخراني ذو شعر كثيف ومجعد وكان وجهه ذو وجنتين داكنتين، وقال لي أنه كان يدرس الطب في جامعة عين شمس، لكنه وجد أن ذلك غير مثمر، وكنت أرصد تقارير عن الاحتجاجات وقبل أن أغادر لكتابة قصتي، أعدت الكوفية له.
في اليوم التالي وجدني الفخراني على فيسبوك، وعلى مدى الأشهر التالية شاهدنا بعضنا البعض في العديد من المرات، وكنت دائما ما أعثر عليه في المستشفى الميداني خلال الاحتجاجات، حيث كان يستخدم تدريبه الطبي لعلاج الجرحى آنذاك. وتستملكه الرغبة في أن يكون جزءا من التغيير الذي يجتاح بلاده، قال لي إنه بدأ العمل في حملة “المواطن الصحفي” في مبادرة تدعى “رصد”. التي بدأت من خلال صفحة على فيسبوك على أنها محاولة لتحدي رواية النظام الذي كان يسيطر على جميع وسائل الإعلام آنذاك، ونمت بسرعة في خدمة الأخبار التي تقدمها، وملايين المتابعين وفروع في بلدان أخرى.
وتستطرد تشيك، بعد ست سنوات، الفخراني يقبع في سجن شمال القاهرة. وقد حُكم عليه بالسجن مدى الحياة في عام 2015، ويخضع الآن لإعادة المحاكمة بتهمة نشر معلومات كاذبة، والانتماء إلى منظمة محظورة، و “تشكيل غرفة عمليات لتوجيه جماعة الإخوان المسلمين في تحدي الحكومة”، وقضى حتى الآن أكثر من ثلاث سنوات بائسا في السجن، وهو يواجه احتمالا بالبقاء عقودا أخرى في محبسه، وهو محتجز في سجن وادي النطرون وسط تدهور في حالته الصحية.
الفخراني هو واحد من 25 صحفيا يقبعون حاليا في السجون المصرية بسبب عملهم الصحفي، وفقا للجنة حماية الصحفيين، بعدما أطاح عبد الفتاح السيسي بالرئيس محمد مرسي “من جماعة الاخوان المسلمين” في انقلاب عسكري، وأطلق حملة قاسية على الصحافة لم تشهدها مصر منذ عقود.
ومذاك تداهم قوات الأمن قنوات تلفزة، وتراقب الصحف، وتعتقل الصحفيين تعسفيا، كما قتل سبعة صحفيين “ستة منهم قتلوا برصاص الشرطة خلال تغطية الاحتجاجات فيما قضى السابع برصاص الجيش على نقطة تفتيش” وفقا لحصيلة أعدتها لجنة حماية الصحفيين.
ومع ذلك فإن الصحفيين الذين هم خلف القضبان يحظون باهتمام ضئيل، أولئك من أمثال الفخراني الذين كانوا يعملون مع وسائل إعلام متعاطفة مع مرسي والإخوان، يتلقون اهتماما أقل، خلافا لصحفيي الجزيرة الإنجليزية الذين سجنوا، كان اثنان منهم يحملون جنسيات أجنبية، فلا حملات إعلامية لإطلاق سراحهم، ولا محامين مشهورين يدافعون عنهم، ولا تصريحات دبلوماسية نيابة عنهم؛ “كنت ساذجاً في الأيام الأولى بعد اعتقالي” هكذا كتب الفخراني في رسالة من السجن نشرت عام 2015، حيث أردف “اعتقدت أن العالم سيهب للدفاع عني”.
القلب المعطاء
وتتابع الصحافية بمجلة “الفورين بولسي” حديثها، عن الفخراني قائلةً: في الشهور التي تلت الانتفاضة، ركضنا أنا وعبدالله مع بعضنا البعض في كثير من الأحيان خلال الاحتجاجات، وأحيانا أخرى كنا نلتقى في المقاهي للحديث عن حالة الانتفاضة المصرية، حيث كان متحمسا ومتفائلا، على الرغم من تزايد المؤشرات على أن المجلس العسكري الذي حل محل مبارك كان غير مهتم بالإصلاح الديمقراطي في مصر، وكنا نعرف بعضنا لنحو أربعة أشهر عندما عشت كرم الفخراني للمرة الثانية، ففي مايو 2011، هاجمت مجموعة من الغوغاء كنيسة في إمبابة، وهي منطقة مكتظة بالأزقة الضيقة على الجانب الغربي من القاهرة، وكان المزاج في المنطقة لا يزال متوترا في اليوم التالي، وكما ذكرت كنت مع اثنين من زملائي، فيما بدأ رجلان بتتبعنا، وشعرنا أن الوضع آخذ في التحول نحو الخطر، ولكن قبل أن نتمكن من العثور على مكان آمن، كان الرجلان قد انضما لحشد، تحول بعدها تحول إلى أعمال عنف، حيث بدأ الحشد بالصراخ علينا، وكنا قد لجأنا إلى زاوية حيث وجدنا بعضا من الجنود المنتشرين في طوق لتأمين المنطقة، وسمحوا لنا بالتواجد، وقفنا بأمان في ذلك الوقت على الأقل. ولكن كنا لا نزال محاصرين في إمبابة، وكان من الصعب علينا الخروج في تلك الأثناء، فهاتفت الفخراني وأبلغني بـ “البقاء هناك في مكاني”، قائلا “أنا قادم الآن”، وفي غضون نصف ساعة، وصل واصطحبنا إلى بر الأمان.
معظم أصدقاء الفخراني لديهم قصص مشابهة، فشخصيته الجذابة تمنح له شبكة واسعة، والتي كانت مفيدة لمؤسسة إخبارية شبابية مثل رصد، حيث كان للفخراني دور رئيسي فيها، من خلال ربطه الصحفيين بمجموعات خارجية، مثل وكالات الأنباء التركية والألمانية، التي عملت على تدريب الصحفيين في مهدهم، وكثيرا ما سافر إلى مؤتمرات ودورات تدريبية في الخارج.
وكان الفخراني يتابع أحداث الاحتجاجات أو غيرها من التطورات في مصر، من خلال نشرها عبر منصات رصد، بما في ذلك فيسبوك وتويتر والرسائل النصية للمشتركين، وسرعان ما أصبح الفخراني عضوا في الفريق الأساسي لرصد حتى في الوقت الذي كان خلاله يواصل دراسته الطبية، وكان يعمل بجد مع ابتسامته الواسعة المعتادة، “كان يأخذ دائما زمام المبادرة، ويمضي قدما، ويطرق جميع الأبواب”، هكذا يقول خالد نور الدين مؤسس ورئيس مجلس إدارة رصد.
كانت رصد تنمو بسرعة، قبل انتفاضة العام 2011، كان فريق رصد الأساسي مكون من 22 شخصا، قاموا بنشر التحديثات الواردة من المتطوعين في جميع أنحاء البلاد وتراكم متابعو الصفحة إلى ما بين 300،000 إلى 400،000 متابع على فيسبوك، ومع وقع الانقلاب في عام 2013 وصل متابعو الصفحة حوالي 4 ملايين مستخدم وفقا لـ”نور الدين”، فيما تملك الصفحة حاليا أكثر من 10 ملايين متابع وتعمل “تحت الأرض” بشكل موارب بينما نور الدين يعيش في تركيا، والمراسلون يعملون في مصر بغير أسمائهم الأصلية. يتابع “نورالدين” قائلا: “تسعة من صحفيي رصد يقبعون في السجون حاليا، خمسة منهم فقط من صرحوا بعملهم لدى الشبكة”.
البعض من فريق رصد ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين، الفخراني قال لي إنه لم يكن ينتمي للجماعة، بينما أكد نورالدين انتماءه لها، حيث قال إن رصد غير مرتبطة بجماعة الإخوان بعيدا عن انتماءات بعض أفرادها للجماعة بشكل شخصي، ولكن تغطية رصد كانت متعاطفة دون خجل مع الأحزاب الإسلامية التي هيمنت على الانتخابات بعد الثورة، ومع مرسي.
وكان مرسي أول رئيس منتخب بحرية في تاريخ مصر، وقد فاز بفارق بسيط في عام 2012 على أكثر من مرشح كانوا على ارتباط بنظام مبارك المخلوع، وجاء فوزه بعد استيلاء المجلس العسكري على السلطة في مصر حيث قام بحل البرلمان الذي كان يقوده الإسلاميون آنذاك، لكن زعيم الإخوان المسلمين الذي تحول إلى الرئيس لاحقا حكم بكثير من التجاوزات وعدم الخبرة ما أجج حالة العداء بين مؤسسات الدولة ووسائل الإعلام السائدة، فخطابه، واللغة الطائفية التي كان يتحدث بها كبار مؤيديه في كثير من الأحيان، أدت إلى نفور كثيرين من غير الإسلاميين، وبحلول صيف 2013 كان محاصرا بعمق، فيما كان الإعلام المصري يستقطب الجمهور بشدة.
الحب في خط النار
بينما كانت البلاد تنتظم في خطين متوازيين من حوله، وقع الفخراني في الحب، ففي ورشة عمل لرصد حول إستراتيجيات وسائل الإعلام الاجتماعي في مايو 2013، التقى الفخراني شابة كانت قد غادرت منزلها في دولة عربية أخرى لتلحق بتلك الورشة، وسرعان ما افتتن الشابان ببعضهم البعض، فقد وجدت الفخراني ذكيا، منفتحا، يحترم النساء، وأحبت كيف كان “مبتسما دائما”، وكان الفخراني “مفتونا” كما قال محمد سلطان، الناشط الذي كان مسجونا إلى جانب الفخراني لأكثر من سبعة أشهر، لقد سخر الاثنان حبهما لحل تعقيدات اللغة العربية، والحماس الشبابي من أجل إنجاح التغيير الديموقراطي في مصر.
قبل يوم من مغادرتها القاهرة، فاجأها الفخراني بعرض الزواج منها، لم تعطه وقتها إجابة.، ولكن بعد أن طارت للمنزل، استمرت في الحديث كل يوم حيث وضعت خطة للفخراني للحضور ومقابلة عائلتها في أغسطس 2013، لقد كانت خطوة ضرورية بالنسبة له أن يطلب يدها من والدها للزواج، لكن مسار السياسة المصرية لم تسمح له بعقد ذلك الاجتماع الذي كان يتمنى، حيث تظاهر مئات الآلاف من المصريين في جميع أنحاء البلاد مطالبين مرسي بالاستقالة، وبعد أيام، عبد الفتاح السيسي، وزير دفاع مرسي أحكم السيطرة على البلاد، حيث رحب كثير من المصريين باستيلاء الجيش على السلطة مع الاحتفال بذلك، ووصفوا ما حدث بأنه ليس انقلابا ولكنه ثورة، وسط اتهامات لأنصار مرسي على أنهم إرهابيون، فيما اعتبر الفخراني ما حدث أنه ضربة قاصمة للديمقراطية في مصر، حيث كانت تغطية رصد آنذاك تنتقد الانقلاب بشدة، وأقيم معسكري احتجاج كبيرين في العاصمة القاهرة، حيث كانت المعسكرات تعج بآلاف المحتجين الذين تعهدوا بالبقاء حتى إعادة مرسي.
معظم المحتجين كانوا من الإسلاميين، لكنهم لم يكونوا وحدهم هناك، والخطابات التي أطلقت خلال الاحتجاجات كانت في كثير من الأحيان فئوية لاهبة، وفي أحيان أخرى تلوم المسيحيين بالانقلاب ملمحين إلى العنف إذا لم يتم استعادة الرئيس مرسي، وكان أعضاء جماعة الإخوان المسلمين هم دعائم الاحتجاجات الأساسية وقتذاك.
ساعد الفخراني في تغذية بعض الجهات الإعلامية بمقاطع فيديو مسجلة حول الاعتصام الذي أقامه المحتجون في ميدان رابعة العدوية، كل من الفخراني وسلطان كانا يشعران بأن وسائل الإعلام الأجنبية كانت تنقل صورة خاطئة للمحتجين من خلال تصويرهم فقط لعناصر الإخوان الغاضبين، دون توجيه الكاميرا للصورة الأوسع وهي خروج الشعب المصري في الميدان لرفض الاستيلاء على السلطة بشكل غير ديموقراطي من قبل الجيش، فسلطان الذي كان مزدوج الجنسية “مصري أمريكي” كان قد نشأ في الولايات المتحدة الأمريكية، وليس عضوا في التنظيم على الرغم من أن والده من أكبر قيادات التنظيم، ويقول “سلطان” أن الفخراني كان يتحدث إلى الصحفيين الأجانب دائما وكان يعرف كيف يحثهم على تغطية الاحتجاجات إلى حد ما.
في 14 أغسطس 2013، شنت قوات الأمن هجوما على ميدان رابعة العدوية استمر نحو 12 ساعة ويرجح أنه خلّف أكثر من 1000 قتيل، معظمهم من المتظاهرين العزل، وفقا لتقرير هيومن رايتس ووتش، وكان الفخراني قد حضر ذلك الهجوم وقد أصيب بقذيفة غازية في ذراعه أثرت عليه قليلاً، وشهد يومها أسوأ مذبحة في حياته، حيث يقول شقيقه عبدالرحمن كنا نمر على مئات الجثث المتراكمة في الميدان في سعي حثيث للحصول على مخرج تحت إطلاق كثيف للنار من قوات الأمن، فيما أعلن النظام الجديد الحرب على الإخوان المسلمين بشكل أساسي وأي أحد يتحدث ضد الانقلاب، ثم شرعت قواته في حملة اعتقالات واسعة النطاق واعتقلت قادة الإخوان وأعضاءها والصحفيين المؤيدين للإسلاميين، بالإضافة للمحتجين والناشطين.
قضى الفخراني وسلطان 10 أيام بعيدا عن منازلهم في محاولة لتجنب أي مصيدة اعتقال، حيث كانا واثنين آخرين – سامحي مصطفى، وهو أيضا من رصد، ومحمد العادلي، من تلفزيون أمجاد- بقوا معا في شقق يرون أنها آمنة، وكان الفخراني يقوم بجمع لقطات ومعلومات عن عمليات القتل في رابعة للمرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان.
في نهاية المطاف تراجع سلطان عن سعيه في غسل الملابس الداخلية. في حين أن جميع أعضاء المجموعة اشتروا ملابس جديدة في حالة الفرار القائمة، سلطان لم يكن يعرف قياس ألبسته في مصر لأنه نشأ وترعرع في الولايات المتحدة وكانت مصر بالنسبة له لفصل الصيف فقط، حيث غامر الأربعة بالذهاب إلى شقة سلطان لجلب بعض الملابس النظيفة له، لكن توقيتهم كان سيئا، حيث داهمت قوات الأمن الشقة في بحثها عن والد سلطان لحظة وجودهم فيها، فيما لم يكن والده في المنزل وقتذاك لكن ضابط الأمن كان راضيا عن محصوله الذي وجده في الشقة، حيث قبض على أربعة شبان.
حين رأت خطيبة الفخراني خبر اعتقاله بعد نشره على فيسبوك من قبل أحد أصدقائه على الموقع ذاته – حيث كان من المقرر أن يلتقي عائلتها قبل أسبوع من اعتقاله – لم تصدق الأمر، “وبعد ذلك بدأت أفكر، كم عدد الأيام التي سوف تكون؟ “وأغرقني التفكير، هل سيذهب وراء الشمس؟”، وهي العبارة العربية التي تصف حالة المختفين من قبل الدولة حيث يختفون دون أثر، وقبل بضعة أيام، كان الفخراني قد أعطاها كلمات السر لحساباته في وسائل الإعلام الاجتماعي للتجهز لمثل هذا الوضع، ثم مساء ذلك اليوم. فتحت جهاز الكمبيوتر المحمول لها وبدأت بتعطيل حساباته واحدا تلو الآخر لمنع الشرطة من استخدام أي تصريحات أدلى بها في تلك الصفحات ضده، “وبعد ذلك بدأت في البكاء حتى طلعت الشمس”، كما قالت.
خلف القضبان
بعد ما يقرب من ستة أشهر على اعتقال الفخراني، كنت أتصفح التحديثات من خلال حسابي على فيسبوك عندما رأيت منشوراً حديثاً من حسابه، ذُهلت. فقد كنت أتتبع حالته من خلال وسائل الإعلام – كان لا يزال محتجزا في الحبس الاحتياطي- لذلك كنت أتساءل كيف نشر ذلك على فيسبوك.
وسرعان ما كتبت له رسالة أسأله عما إذا كان قد تم الإفراج عنهم، أجاب بعد ستة أيام؛ “كلا، أنا ما زلت في السجن”، كما كتب، مع وجه مبتسم، وقال: “لدي هاتف ذكي في الزنزانة”، لم أكن مقتنعة حقاً أنه هو، بل شككت أن تكون قوات الأمن تستعمل حسابه، وبدأ الفخراني وقتها باستحضار بعض الأدلة، حيث ذكر أننا قد التقينا في مقهى معين، لم يكن ذلك كافياً، فقلت له “ماذا أيضاً؟” فقال “الحصان في ميدان التحرير أثناء موقعة الجمل”، فبالرجوع إلى فبراير 2011، كان النظام قد أرسل بعض الرجال يركبون الجمال والخيول لاقتحام ميدان التحرير في محاولة لإبعاد المتظاهرين. وكانت خطة ناجحة. وفي اليوم التالي التقيت الفخراني هناك، في زقاق خافت بالقرب من المستشفى الميداني وجدنا ذلك الحصان، من بقايا هجوم في اليوم السابق حيث بدا الحيوان متعبا، رأسه تدلى نحو الشارع، فداعب الفخراني أنف الحيوان، وشعر بالأسف لحالته.
أخيراً تأكدت من أنني أتحدث إلى الفخراني، بدأنا المحادثة، كان من بين ما تحدثنا حقيقة وضعه الحالي، حيث كان يستخدم لغة مرمزة لكتابة جمله، ووفقا لسلطان، فإن الفخراني كان محافظا على شخصيته المتفائلة طوال الأشهر السبعة التي قضاها معه، سلطان كان قد أصيب بعيار ناري في ذراعه أدى إلى كسرها خلال فض رابعة، وخلال التشريفة -وهو “حفل ترحيب” متعارف عليه في السجون للمعتقلين الجدد في مصر- حاول الفخراني حماية رفيقه المصاب مستخدما جسده كغطاء. “كنا حرفيا ملقون على الأرض، والضباط من حولنا يوسعوننا ضربا ويدوسون علينا، تلقائيا كنا نتحول إلى وضعية الجنين في محاولة لحماية الأعضاء الرئيسية في أجسامنا بالإضافة إلى الرأس” هكذا قال سلطان، مضيفا: “عبدالله أراد فقط.. أراد فقط الانحناء هنا وهناك في محاولة لإبعاد بعض الضربات عن ذراعي المصاب”.
كان الفخراني بارعا في إجراء اتصالات مع السجناء والحراس على حد سواء لكسب وسائل راحة صغيرة لنفسه ورفاقه في الزنزانة، حيث حصل بنجاح على هواتف مهربة ونفذ خطة جريئة لتأمين زوج من الكماشات اللازمة لعملية جراحية بدائية للتخفيف من الآلام المبرحة في ذراع سلطان. وكان معروفا باستقبال السجناء الجدد وإيجاد سبل للحصول على الضروريات الأساسية التي يحتاجون إليها في بداية سجنهم، وبعد حوالي شهر من اعتقاله، أرسل الفخراني أول رسالة نصية إلى خطيبته، وأرسل لها أيضاً مقطعا من أنشودة إسلامية قديمة “على الرغم من الفراق، فإن القلب هو أرضكم، ويتوق الحب لكم”. في وقت لاحق من تلك الليلة، تحدث إليها، قالت له لأول مرة “اشتقت لك”، فضحك الفخراني قبل الرد “هل كان لا بد من اعتقالي حتى تبلغيني أنك اشتقت لي؟”. عندما ألقي القبض عليه، على الرغم من أنها لم تقبل عرضه للزواج، إلا أنها اتخذت قراراً سريعاً بالتشبث به، وفي وقت لاحق قررت أنها تريد الزواج منه. قالت لي “إنه خياري”.
في تلك الأشهر الأولى، قال انه اتصل بها مرة واحدة كل أسبوع، حيث كان قد استأجر هو ورفاقه في الزنزانة الهاتف المحمول المهرب من سجين آخر لما يعادل 45 $ لليلة الواحدة، “استمر في القول أنه سيخرج من محبسه قريبا”، كما قالت، “وخصوصا بأنه صحفي، حيث اعتقد أن جميع وسائل الإعلام لن تبقى صامتة حيال ذلك”. وبحلول فبراير 2014، كان الفخراني ورفاقه في الزنزانة قد تمكنوا من الحصول على عقد مع اثنين من الهواتف للتبادل فيما بينها، وبدأ بمهاتفتها يوميا، وكان الأمر لا يخلو من المخاطر، فذات مرة، اكتشف حراس الزنزانة الهاتف في أمتعته، قضى حينها 10 أيام في عنبر التأديب، حيث كانت مزدحمة بعشر سجناء في زنزانة مخصصة للحبس الانفرادي، يحرمون فيها من الملابس والبطانيات، والأسرة، ويمنحون فقط دلوا للمرحاض. بالنسبة للفخراني، الأمر كان يستحق ذلك.
في الأشهر الأولى من الاعتقال، وفقا لمحمد سلطان، “بذلت جهودا مضنية لإنهاء علاقته بخطيبته، حتى يجنبها الشكوك من أنها مرتبطة بشخص قد يمضي عقوداً في السجن”. يقول سلطان: “لقد كنت مقتنعا بأن إنهاء العلاقة هي الخيار المنطقي في هذه الحالة، لكني لم أكن أمتلك قلبه للقيام بذلك. لقد حاول، وتحدث إليها، لكنه لم يستطع، أصبحت تحبه بشكل مكثف.”
سجن وسائل الإعلام
عرفت قضية الفخراني في المحاكم المصرية بـ “غرفة عمليات رابعة”، أنه يحاكم مع 50 آخرين – خليط من الناس من ذوي الخلفيات المختلفة – بما في ذلك خمسة على الأقل من الصحفيين وكبار قادة جماعة الإخوان المسلمين، مثل محمد بديع، المرشد العام للجماعة في عام 2013، وكان إدراج قيادات الإخوان في قضية الصحفيين محاولة واضحة من قبل النظام لتلويث الصحفيين مع جنون مكافحة الإخوان التي اجتاحت مصر بعد الانقلاب.
وتقول ياسمين الرفاعي التي كانت حتى وقت قريب باحثة عن برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في لجنة حماية الصحفيين “يشكل هذا الأمر وعيا لدى الجمهور”، مضيفة: “أعتقد أنهم عاشوا نوعا من التخبط والصخب من حملة القمع التي أعقبت ذلك.”
وحظرت محكمة مصرية جماعة الإخوان المسلمين في سبتمبر 2013، ومنذ ذلك الحين تتهم الحكومة الصحفيين والمعارضين السياسيين دون تمييز بالانتماء إلى تلك الجماعة، وفقا للجنة حماية الصحفيين، فيما اتٌّهم الفخراني بالانتماء إلى منظمة محظورة، ونشر أخبار كاذبة، وحيازة جهاز اتصال لاسلكي، وتشكيل “غرفة عمليات” لتوجيه جماعة الإخوان المسلمين للعمل ضد الحكومة أثناء تفريق احتجاج رابعة.
كما هو الحال في المحاكمات السياسية الأخيرة الأخرى في مصر، مع فارق ضئيل أن الادعاء لم يقدم دليلا على أن ثمة نسخة احتياطية من التهم الموجهة إليه، حيث كان الدليل الوحيد المقدم ضد الفخراني محضر استجوابه من قبل ضباط أمن الدولة، وأنشأت المحكمة لجنة فنية من الخبراء لتقييم الصور ومقاطع الفيديو التي ادعت النيابة أنها ملفقة، حيث وجدت اللجنة أن أيا منها لم يتم تزويرها، وكان ناجي شحاتة القاضي الرئيسي المخصص للمحاكمة، سيئ السمعة لإصداره أحكاما بالإدانة في محاكمة قناة الجزيرة والحكم على مجموعات متعددة من المعارضين حتى الموت في السنوات الأخيرة. وبينما كان المحامون يقدمون حجج الدفاع عنهم، أدلى بتصريحات قائلا إنه “يعتقد أن هؤلاء المتهمين مذنبون”، كما قالت الرفاعي. وأضافت: “هذا يعطيك مؤشرا على مستوى الظلم الذي كان يجري تنفيذه.” شحاتة لم ينتظر حتى ليقوم جميع المتهمين بالإدلاء بحجج الدفاع عنهم فأصدر الحكم عليهم في أبريل 2015، حيث وجد أن المتهمين الـ51 جميعهم مذنبون، وحكم بالموت على 14 شخصا بما فيهم بديع ووالد محمد سلطان بتهمة التخطيط لهجمات تمس الدولة، وحكم بالسجن مدى الحياة على الآخرين بمن فيهم الفخراني، الذي يقدر في مصر بـ25 سنة.
كتبتُ للفخراني على رسائل الفيسبوك بعد تلقيه الحكم: “على الأقل ما زال بوسعنا التواصل معك عبر الإنترنت”، فأجابني مع ابتسامة قائلاً: “لن أتخلى عن القتال، وفي النهاية سوف أحصل على حريتي بالتأكيد ربما بعد عام أو اثنين أو ثلاثة، لكنني مؤمن بحصولي عليها لأن هذه المحاكمة مزورة من دون أي دليل أنا على يقين من أن الحكم سوف يلغى”.
وقد كان على حق جزئيا، ففي ديسمبر عام 2015، ألغت محكمة استئناف القاهرة الأحكام بسبب عدم كفاية الأدلة، وأمرت بإعادة المحاكمة. وقال محاميه أحمد حلمي في المحاكمة الجديدة، التي بدأت في فبراير 2016، إن النيابة العامة لم تقدم أي دليل ضد الفخراني سوى سجل استجوابه.
أفضل سنوات حياتك
والدا الفخراني يعيشان في شقة في الطابق الخامس من مبنى على هضبة صحراوية خارج القاهرة، وعندما زرتهم في فبراير عام 2016، كانت والدته تستعد لزيارته في اليوم التالي، لقد كان المطبخ مبعثراً مكتظاً بعد يوم واحد من الطبخ استعدادا لزيارة السجن – السجناء في مصر غالبا ما يعتمدون على وجبات الطعام التي تقدمها الأسرة لهم- وكان والداه عادة ما يحضران له 10 كيلوجرامات من الطعام المفضل لديه، لتغذيته هو ورفاقه، وكانت الوجبات المقدمة منوعة ما بين اللحوم والدجاج ووجبات أخرى، وكانت قد ملأت حوض المطبخ يومها. والد الفخراني، أحمد، كان يرتدى قبعة من الفرو ويفرك يديه معا ضد البرد، وكانوا قد أحضروا الملابس الدافئة لابنهما ورفاقه في الزنزانة في زيارته الأخيرة. علق الحراس يومها: “أوه، إنها جميلة جدا”، بينما هم يمسكون الملابس، مشيرا إلى أنهم سوف يأخذون بعضاً منها لأنفسهم.
في يناير عام 2016، كان وضع الفخراني قد غدا من سيء إلى أسوأ، حيث تم نقله من سجن طرة إلى سجن وادي النطرون، الذي يفصل بينه وبين أصدقائه، وقاموا بالحط من مستوى معيشته بقسوة، فالحراس يرفضون بشكل تعسفي السماح لوالدي الفخراني بجلب المواد الغذائية والملابس و حتى في بعض الأحيان يمنعونهم من الزيارة. ولم يعد بوسعه الوصول إلى الهاتف المحمول. عندما كانوا يستمعون إلى جلسات محاكمته، علموا أنه انتقل مؤقتا إلى سجن العقرب سيئ السمعة في مصر، وهو سجن يخضع لحراسة مشددة مع ظروف بائسة. وقد تدهورت حالته العاطفية بشكل حاد. “آخر مرتين رأيناه وسلمنا عليه بدا أنه ليس بخير”، قال والده، وأضاف: “إنه يبكي كثيرا. قال لي: “أنا لا أحب لك أن تشاهدني بوجه ليس جيد، ودون ابتسامة جيدة.”
سلطان، الذي أفرج عنه في عام 2015 بعد الاقتراب من الموت في إضراب عن الطعام وبعد التنازل عن جنسيته المصرية، يسمي السجن “مقبرة لرجل على قيد الحياة”، ويقول: “الوصول إلى الهاتف يجعلك تشعر وكأنك حصلت على شريان الحياة”، الفخراني كان يتواصل عبر الرسائل المهربة”. الجزء الأصعب من السجن كما يقول سلطان “رؤية أفضل سنوات حياتك تذهب منك، إنها تتعرض للسلب منك حقاً، إنها فعلا تهدر، عندما يكون بوسعك أن تتقدم في حياتك المهنية، وعندما يكون بوسعك أيضا بناء علاقة والزواج والإنجاب فيما بعد، أعتقد أن هذا الشيء يلتهم تفكير عبدالله، لم يكن أحد يتوقع أن الأمر قد يطول إلى هذا الحد، أعتقد أن الجميع ظن أن الأمر سينتهي في فترة قصيرة”.
سجون مصر تطفح بجميع طبقاتها بعشرات الآلاف من السجناء السياسيين الذين اعتقلوا منذ الانقلاب عام 2013، ويقدر تقرير صادر في سبتمبر 2016 عن الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان ومقرها القاهرة أن هناك حاليا 60000 سجين سياسي في مصر، والقمع الدموي الذي تمارسه الحكومة يغذي تمرد الجهاديين الذي هو محتدم بالفعل، حيث أبدى البعض قلقهم من أن الحبس الشامل للمعارضين المحبطين جنبا إلى جنب مع المتطرفين الإسلاميين يمكن أن يجعل من السجون أرضاً خصبة لنمو موجة جديدة من الجهاديين. لكن الأمر مختلف بالنسبة للفخراني، حيث في رسالة مكتوبة بخط اليد كان قد كتبها لي، قال فيها عبدالله “إن النطاق الكامل للتغييرات التي خضع لها في السجن لن يكون واضحا حتى بعد إطلاق سراحه”، لكنه قد شهد بعض “التغيرات النوعية” كما كتب، في حين ان “الكفاح من أجل الحرية” كان في السابق حدث يستلزم تغطيته، “فإن أيامي في السجن علمتني أن الحرية هي الحياة التي تستحق الكفاح من أجلها”، “تخيل أنك تعيش في … تجربة اجتماعية لمدة ثلاث سنوات في غرفة صغيرة مع 30 من البشر تمثل مجموعة كاملة من منظور اجتماعي”، كما كتب، “والمثير للدهشة أن السجن علمني التعامل مع إنسان ليس السلم الاجتماعي”.
في سبتمبر 2016، بدأ الفخراني في إضراب عن الطعام، حيث تناول الماء والسكر فقط، احتجاجا على عدم حصوله على العلاج الطبي، حيث كان لديه تورم مؤلم دون تفسير له في ساقه، والذي جعل من تنقله أمرا صعبا، وفي رسالة له تم تهريبها من السجن أواخر سبتمبر، قال إن مسؤولي السجن رفضوا طلبه على أن يتم تحويله إلى مستشفى لتشخيص مرضه.
بعد أن قرر رفض تناول الطعام، انخفض وزنه من 80 كيلوغراما عندما دخل السجن لحوالي 50 كيلوغراما. وفي رسالة لخطيبته كُتبت في بداية شهر نوفمبر، قال لها أنه قد كسر الإضراب عن الطعام بشكل جزئي من أجل أن يكون قادراً على اتخاذ مسكنات للألم، ثم اضطر بعد ذلك إلى إنهائه بداية شهر ديسمبر، بسبب تدهور حالته الصحية.
كان حبس الفخراني أكثر حدث أثر عليه في حياته: “قبل ثلاث سنوات عندما سألتني، لم يكن أولويتي الرئيسية أن يتم الإفراج عني. كانت أولويتي الرئيسية تتمثل في استرداد جو من الحرية وحرية الرأي والتعبير”، كتبها في رسالة لي في أكتوبر، مضيفا: “لكن بعد ثلاث سنوات من السجن غير القانوني.. الآن أستطيع أن أقول أن أكبر أمل لي هو أن يفرج عني من الظلم. على الرغم من أنني أعلم أن خروجي من السجن لن يعود بحريتي كما كان من قبل”، لكن الصراع لم يطفئ له حماسته المثالية، “بشكل غير متوقع ورغم كل الصعاب الثورة المصرية لا تزال سائدة في روح الشباب المصري”، كما كتب، مضيفا: “إن النظام لا يزال يشعر بالتهديد من قيامة انتفاضة الشباب المصري مرة أخرى”.
اليوم الذي سيسقط فيه النظام في مصر قد يكون بعيد المنال، ولكن بالنسبة للفخراني، فالمستقبل لا يزال يحتوي على أمل انتصار شخصي وسياسي. “يعجز قلمي عن وصف ما أشعر به في هذه اللحظات”، كما كتب في حروف عربية منمقة خلال فصل الصيف لتهنئة سلطان على خطبته، مضيفا: “مشاعري هي السعادة مختلطة مع الفرح، السعادة لك لأنك أنت حر في الزواج وأنا لا أزال بعد مسجوناً، والفرح لك طالبا من الله أن يبارك لك.” ثم دعا الله “أن يمنحه الحرية في أقرب وقت ممكن، وأن يسمح له بالزواج ممن يحب” ثم أنهى رسالته بوجه مبتسم.
* نشر هذا المقال في مجلة الشؤون الخارجية الأمريكية بتاريخ 16 يناير من العام 2017