جاء خطاب السيسي الأخير، في ذكرى المولد النبوي الشريف، ليؤكد مجددا أن مصر تنتقل يوما بعد يوم من سيئ إلى اسوأ، وباتت الآمال تتضاءل في الخروج من المأزق التاريخي الذي تسبب فيه نظام السيسي وسياساته الحالية، وهذا ما لا يختلف عليه المراقبون للمشهد المصري.
لقد جاءت كلمات السيسي في الاحتفال بذكرى المولد النبوي لهذه السنة 1438 هجرية / 2016 ميلادية تكرارا لما دأب عليه، ليصبح كالعادة مادة خصبة لمواقع التواصل الاجتماعي التي باتت عدو السيسي الأول، والكاشفة لتناقضاته.
أكثر من نصف خطاب السيسي – الذي جاوز الثلاثين دقيقة – حول ما يسمى تجديد الخطاب الديني (الإسلامي بالطبع)، بدا الإسلام فيه كأنه محور الشر والإرهاب في العالم، وهذا ما لم يخلو منه خطاب واحد للسيسي في أي مناسبة دينية أو في غيرها.
لقد كانت كلمات السيسي امتدادا لسائر خطاباته، ووصلا لما سبق في الاحتفال بالمولد النبوي الشريف السنة الماضية، عندما قال: “مليار ونصف مسلم سيقتلون العالم كله ليعيشوا هم”، وطالب وقتها الأزهر ورجاله بثورة دينية على النصوص التي تحض – حسب رأيه – على العنف والإرهاب!
لم تكن عين السيسي أثناء حديثه حول تجديد الخطاب الديني متوجهة نحو الداخل على الإطلاق، ولكنها كانت صوب الخارج، تُبرق كلماتُه رسالة واضحة لليمين المتطرف المعادي للإسلام، والصاعد بقوة في الغرب، طلبا لدعم استمراريته في الحكم.
من ناحية أخرى، حملت كلمات السيسي بعدا جديدا هذه المرة، حيث لم يُهن مقام الأزهر ويُستخف به وبشيخه كما أُهين واستُخف به في هذا اليوم، بما حملته كلمات السيسي لشيخ الأزهر، من إشارات واضحة على وجود أزمة وضغوط على الأزهر وشيخه، عندما قال: “أنا بقول لفضيلة الإمام كل ما أشوفه أنت بتعذبني، فيقولي أنت بتحبني ولا لأ.. ولا حكايتك إيه؟“.
سقطات الحديث، في خطابات السيسي باتت أكثر مما يحصى، وتمثل مادة خصبة للكتاب والناشطين على مواقع التواصل من كل حدب وصوب، وآخرها قوله: “يتم تقديم الله بصورة لا تليق عن طريق القتل والتفزيع والدمار والخراب باسم الدين”، وقوله: “اللي يقدر على ربنا يقدر علينا“.
وبعيدا عن السقطات، جاء الخطاب مختزلا ما آلت إليه الدولة المصرية، ومعبرا بوضوح عن حالة تقزم أصابت مصر بدت جلية في خطاب من يحكمها.
تحمل كلمات السيسي على الدوام؛ تناقضات واضحة بين خطاب النظام وبين أدائه. فخطاب النظام خطاب المن، أما الأداء فهو العجز والتقصير وقلة الحيلة إلا من الأذى لمصر وشعبها.
عندما تحدث السيسي عن الأوضاع الاقتصادية، وذكر أنه لا خيار غير ما يتم عمله الآن بدا شديد التناقض، معتمدا على أن ذاكرة المصريين سريعة النسيان كذاكرة سمكة، فهل كان أيضا لا خيار للسيسي عندما أهدر أكثر من ستين مليار جنيه من مدخرات المصريين في حفر تفريعة جديدة بلا جدوى اقتصادية؟ أم كان أيضا لا خيار إلا بالتفريط في مقدرات مصر بتوقيع اتفاقية سد النهضة؟ ولا خيار في ضياع عشرات المليارات من المنح الخليجية، التي لم يُرَ لها أثرا؟ أم كان لا خيار في صفقات أسلحة بمليارات أنعشت اقتصاديات غربية، ومن ناحية أخري تتزايد نسب الفقر في مصر ويتعاظم الفساد بشكل مخيف؟
وبينما كان خطاب السيسي يتصدر الفضائيات المصرية، مؤكدا أنه سيستكمل باقي جوانب المعركة مع الإرهاب، وستتم مواجهته بالوسائل العسكرية، والأمنية كانت قوات النظام تعتقل نجل الرئيس محمد مرسي من منزله، وكانت مصر تعيش خبر تصفية أربعة من شبابها على يد قوات الأمن (واحد منهم يوم الخطاب وثلاثة في اليوم الذي قبله) تحت دعوى الارهاب الذي يتحدث السيسي عنه، بما يدعو إلى التساؤل عن هذا الإرهاب، ومن يمارسه حقا في ظل مئات قتلوا بيد قوات الأمن خارج القانون.
وبعيدا عن المتناقضات العديدة، والتي تناولها كثيرون في خطاب السيسي، استوقفتني تلك الكلمات التي قال فيها: “إحنا تأخرنا كثير قوي قوي في الإصلاح لدرجة إن إحنا اضطرينا”، ثم يقول: “أنا دايما بقول لزمايلنا في لقاءاتنا اللي احنا بنعملها كان قدامنا دلوقتي إن احنا نعبر (مشيرا بإصبعيه ويحلّقهما على شكل دائرة) يعني ترعة صغيرة صعبة بس ننجح أو نستنى ويبقى نعبر بحر لا يمكن حننجح فيه، إحنا اخترنا دلوقتي“.
ووفقا لما سبق، إذا كان ما تعيشه مصر الآن من تراجعات لم تعرفها على مدار تاريخها الحديث، يمثل عبور “ترعة صغيرة صعبة ” مضمون النجاح حسب تعبير السيسي، فهنا يثور سؤال إذا كانت هذه هي ترعة السيسي، فكيف يكون البحر الذي تحدث عنه، هل هو البحر بلا شطآن؟
أعتقد أن مصر إذا استمرت في ظل خلطة نظام الحكم الحالية بقيادة السيسي؛ سوف تنجح فعلا في عبور ترعة السيسي الصعبة، ولكن إلى بحر لجّي هادر موجه، وبلا شطآن.
نسأل الله لسفينة مصر السلامة، والنجاة فمصر تعيش أخطر مراحلها عبر التاريخ؛ ولكن من يعي ذلك.