في عام 2006 حلقت الطائرة فوق إسبانيا، ولم يكن زائر السماء قد نزل في تلك الأرض بعد. شاب لا يعرف عن الأندلس إلا القليل من روايات التاريخ والكثير من الأساطير. هل أنبش التاريخ وأقتفي أثر الحقيقة؟ لا أبالي، فأنا طفل أخفق في الشعر والنثر والرسم، خانته لغته بالكلام ولم يبق في تلافيف رأسه سوى تلك الصورة الحالمة. أودعت وريقاتي من فوق السحاب أمنياتي وأحلامي المؤجلة، ولم أدر أن القدر سيقدح في ذات العام صدفة اللقاء.
جــادك الغيــث إِذا الغيـث همـى … يــا زمــان الــوصل بــالأَندلسِ
لـــم يكــن وصْلُــك إِلاّ حُلُمًــا … فــي الكــرى أَو خُلسـة المخـتَلِسِ
“كل شوق يسكن باللقاء.. لا يعول عليه”، أليس كذلك؟ وأنا يا ابن عربي لم يسكن شوقي في اللقاء ولا في الغياب.. ومذاك لم أخلف موعدي بغرناطة، زرتها في كل عام أجدد الوصل، أقف في ذات المكان وأذكر الحمراء باللقاء الأول. وهذا عامي العاشر، غادرتها ولم تغادرني، أردد في خاطري ما قاله ابن غرناطة لسان الدين بن الخطيب:
يـا أُهيْـلَ الحـيّ مـن وادي الغضـا
وبقلبـــي ســـكَنٌ أَنتـــم بــهِ
ضـاق عـن وجـدِي بِكُم رحْبَ الفضا
لا أبــالى شــرقَه مــن غربــهِ
فــأعيدوا عَهْــدَ أنسٍ قــد مضـى
تُعْتِقـــوا عــانيكمُ مــن كرْبــهِ
مضت أربع ساعات وأن أسير بلا توقف، تطرق ذاكرتي رحلة السنوات العشر في حب المدينة وهدير الأزمنة الصاخبة، الظالمة، المقيمة في حواريها.. تطاردني نظرات سعد ودعوات مريمة، أصوات علي في دكاكين الوراقين، صيحات سليمة، وعزم الثائرين في جبال البشارات. وقبل أن أودع البيازين، مشيت في الطرقات هائما، لا أعرف سبيلا للخروج، وكل ممر يعيدني منّي إليّ، حتى استوقفني زقاق ضيق مكلل بالياسمين.
عبرت الزقاق إلى فناء صغير يتوسطه مقعد خشبي، ويطل على بيوت البيازين التي تستلقي أسفل التلة. أغضمت عيناي، أوغلت في حزني يبكى بعضي على بعضي معي، وفي غفلة مني ضمتني وطبعت قبلة على خدي لامست فمي.
كنت أواعدها سرا، تواطأنا على ذلك، واليوم بحنا بحب كتمناه طويلا. وبعد أن قطعت وعدا بأن لا تتركني وحيدا، غادرت غرناطة وأنا أعوّل على ذكراها.. على راحة الدموع والياسمين.
للاطلاع على المقال الأصلي هنا