كلّ أربع سنوات، وهو موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية، تقوم الدنيا ولا تقعد من كثرة التحليلات والتوقعات التي سيأتي بها الرئيس الجمهوري أو الديموقراطي، وتزداد هذه الموجة العاتية في البلدان العربية، وحتى يُخَيَّل للإنسان العربي أنّ حياته وحياة أمته العربية مرتبطة بفوز ترامب أو كلينتون…!!!
وهنا لا بدّ لنا من البحث عن أوجه التشابه والاختلاف ما بين الديمقراطيين والجمهوريين، وعن موقع العالم والأمة العربية من سياسات الفريقين، وعن موقفنا كعرب من السياسة الأمريكية الديمقراطية والجمهورية.
ولنبدأ بالمقصود:
أولاً ـ أوجه التشابه والاختلاف ما بين الديمقراطيين والجمهوريين:
أ ـ في السياسة الداخلية:
ـ الحزب الديموقراطي سبق الحزب الجمهوري في التأسيس بحوالي نصف قرن، حيث تأسس الحزب الجمهوري عام 1854م، والحزب الديمقراطي في الغالب يمثل الطبقة المتوسطة، ويحظى بتأييد الأجهزة الإعلامية، والمؤسسات الاقتصادية الصغيرة، ورجال الفكر والفن، وذوي المهن الرفيعة كالأطباء والمحامين وأساتذة الجامعات، بينما الحزب الجمهوري يمثل أصحاب رؤوس الأموال، وسيّدات الأعمال، والمؤسسات الصناعية الكبرى، والمصارف والكارتلات النفطية…
ـ لا فرق يُذكر إيديولوجياً بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وإنما اختلاف فقط في مهمّة الحكومة، فكلا الحزبين يُؤمن بالليبرالية ويسعى في تطبيقها داخل الولايات المتحدة وخارجها، فالديمقراطيون يرون أنّ دور الحكومة هو إدارة شؤون الاقتصاد، ومن هذا المنطلق يقولون: إنّ واجبها هو إلزام الشركات بعمل «الشيء الصحيح» مثل ضمان دفعها الحد الأدنى للأجور، وضمان أن يتصرف الناس «بالشكل الصحيح» في أموالهم، مثل توفير جزء من اموالهم لمعاشاتهم عند التقاعد. لكنّ الجمهوريين أشدّ حماسة وتطبيقاً ودعوة إلى الليبرالية الاقتصادية من الديمقراطيين؛ إذ يؤكدون على دور الأسواق الحرة والإنجاز الفردي وعلى أنها العوامل الأساسية وراء الازدهار الاقتصادي، ومن هنا تُحبّذ سياسةُ الحزب عدمَ التدخل بالاقتصاد، وتعمل على تعزيز المسؤولية الشخصية على برامج الرعاية الاجتماعية، ويرفض زيادة الضرائب، ويدعو إلى تقليل الإنفاق الحكومي بدرجات مختلفة، وعلى العموم فإن سياسات الحزب الجمهوري سياسات تركز وتتّجه إلى الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي والمالي بمحاربة التضخم، وتبني السياسات التي تحقق ذلك الهدف القومي. بينما الحزب الديمقراطي أكثر ليبرالية من الجمهوري من الناحية الأخلاقية والاجتماعية؛ لذلك يُصنّف الجمهوريون بأنّهم محافظون من الناحية الاجتماعية والأخلاقية، وليبراليون من الناحية الاقتصادية؛ لهذا يتعين على الحكومة ـ عند الجمهوريين ـ ضمان معاقبة الناس في حال ارتكابهم أعمالا تتنافى مع الأخلاق (مثل تعاطيهم المخدرات)، والحفاظ على تماسك الأسرة من خلال رفضه تشريع قوانين تضرُّ المجتمع وتقوّض أسسه من قبيل رفضه زواج المثليين والاجهاض…أما الديمقراطيون فهم أكثر ليبرالية من الجمهوريين في النواحي الأخلاقية والاجتماعية؛ لذلك لا مانع عندهم من زواج المثليين أو الاجهاض…
ب ـ في السياسة الخارجية:
كلا الفريقين من الديمقراطيين والجمهوريين يحملون نفس الهدف في السياسة الخارجية، ويتمثّل هذا الهدف في زيادة هيمنة الإمبراطورية الأمريكية على العالم، ومحاولة الانفراد في قيادة العالم اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً واجتماعياً…بحيث تكون العولمة بنكهة أمريكية خالصة..!!
وكلا الحزبين يسعى بكلّ ما يملك من قوّة تحقيق هذا الهدف بطريقة فيها تشابه كبير من حيث الجوهر:
فالحزب الديموقراطي يعبر عن استراتيجيته الخارجية بـ “الترغيب والترهيب”، بينما الحزب الجمهوري، يعبر عن استراتيجيته بـ “الحزم والقوة”، ويقول: إن برنامجه يمثل “حزب السلام عن طريق القوة”.
إذن ما يجمع الحزبين في السياسة الخارجية هو لغة القوّة، بينما الفارق هو في الملمس الناعم للديمقراطيين في أوقات الرخاء، فالديمقراطيون يستخدمون النعومة التي تسكن في داخلها القوة، أما الجمهوريون فخشنون في السياسة الخارجية ظاهراً وباطناً، وبالتالي الطرفان من أهلّ القوة، لكنّ الديمقراطيين أكثر خطراً بسبب ملمسهم الناعم…!! والرئيس في كلا الحزبين يعمل ضمن مؤسسة حزبه، وفريق عمله المتخصص الذي يضمّ أفضل الكفاءات؛ لذلك فالأمر مؤسساتي وليس فردياً يرتبط بذات الرئيس المنتخب فقط.
ولكن قد يقول قائل: إنّ الجمهوريون هم أصحاب القوة فقط، ويستدلون بذلك على حربي أفغانستان والعراق التي شنّها بوش…
نقول: إنّ الديمقراطيين خاضوا حروباً دموية، وإنّ من ألقى القنابل الذرية على هيروشيما وناغازاكي، والتي قتلت مئات الآلاف من اليابانيين، هو الرئيس هاري ترومان، وهو ديمقراطي.
وعلى العموم: من الثابت من قراءة التاريخ الأمريكي بعيداً عن ميل الجمهوريين في العقود الأخيرة إلى إشعال فتيل الحروب بشكل كبير؛ أنّ كلّ رئيس أمريكي يترك بصمة في كتاب الرؤساء بمغامرة عسكرية، أو حرب تترك علامة في تاريخه بالبيت الأبيض، من المؤسِّسين، إلى ولسن في العقد الثاني من القرن العشرين، إلى باراك أوباما في مستهل العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين الذي شنّ ضربات عسكرية في مختلف الدول، سواء كانت تركة من سابقيه كأفغانستان والعراق وباكستان، أو ضربات جديدة في ليبيا وسوريا والحرب الأخيرة المُعلنة على تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام…
ثانياً ـ موقع العالم والأمة العربية من سياسات الفريقين:
بالنسبة إلى السياسة الأمريكية الخارجية تحكمها مصالحها الإمبراطورية، ودول العالم إما شريك يساعدها في تحقيق مصالحها، أو ضحية لمصالحها المشروعة وغير المشروعة، ومن هذا المنطلق تنقسم صورة العالم وفق المصلحة الجغرافية الأمريكية إلى المناطق التالية:
ـ أوربا الغربية والشرقية: هي دول شريكة للولايات المتحدة في تحقيق مصالحها؛ لذلك هم شركاء في حلف الناتو، وتربطهم علاقات اقتصادية مميّزة، وعلى العموم تراعي أمريكا حصص الأوربيين عند اقتسام المنافع.
ـ روسيا: تحاول السياسة الخارجية الأمريكية منذ نشأة الاتحاد السوفييتي أن تقضي على حلمه التاريخي، واستطاعت في بداية التسعينات تفكيك الاتحاد السوفييتي، وتسعى الآن أن لا تسمح لروسيا أن تكون دولة عظمى، وهذه هي أولوية في السياسة الأمريكية.
ـ الصين: السياسة الخارجية الأمريكية تنظر إلى الصين بريبة شديدة، وتسعى لعرقلة نمو العملاق الصيني، خشية أن يكون القطب الثاني المكافئ لأمريكا…لذلك أصبحت مناطق المحيط الهادي لها أولوية في السياسة الخارجية الأمريكية…
ـ العالم العربي: العالم العربي بالنسبة لأمريكا هو قاعدة لانطلاقة حضارية مستقبلية، وهو بنفس الوقت مصدر للمواد الأولية وسوق اقتصادية وعسكرية؛ لذلك تسعى جميع السياسات الأمريكية الجمهورية والديمقراطية لنهج سياسات ممنهجة لإبقاء العالم العربي في حالة دائمة من التخلف، والصراع بين دوله، والصراع بين الحكام والمحكومين… وسلكت في سبيل ذلك طرقاً غير مشروعة أخلاقيا وإنسانياً، مثل تنصيبها للحكام العرب المستبدين منذ عقود طويلة، ودعم هؤلاء الحكام عسكرياً وسياسياً وقانونياً، ووقوفها ضدّ ثورات الربيع العربي…
ـ إيران: من حيث الحقيقة تعتبر إيران عصا أمريكا في الشرق الأوسط، والأدوار ترسمها أمريكا، وإيران تلعب الدور الذي ترتضيه أمريكا، أما شعارات الموت لأمريكا فهي ضمن الاتفاق الأمريكي الإيراني، ولعلّ إيران بالنسبة لأمريكا ـ من حيث الحقيقة ـ هي إسرائيل الثانية في الشرق الأوسط، لكن لكلّ دوره المرسوم…
ـ إسرائيل: هي الطفل المدلّل لأمريكا، فلا نستطيع التمييز بدقة بين المنتمي للحزب الجمهوري والحزب الديموقراطي الأمريكيين، وذلك فيما يتعلق بالسياسة الخارجية الأمريكية تجاه إسرائيل، فكلاهما يدعمان الكيان الإسرائيلي بكلّ صراحة ووضوح، وهذا يجعلنا لا نتفاجأ بالمقولة الشهيرة التي نسمعها بعد كلّ انتخابات أمريكية، والتي مفادها: “إنّ الرئيس القادم هو من أكثر الرؤساء المؤيدين لإسرائيل في تاريخ الولايات المتحدة”، ولا غرابة في ذلك؛ لأنّ كلا الرئيسين الديموقراطي والجمهوري استخدما حق النقض (الفيتو) 42 مرة لصالح الكيان الإسرائيلي منذ تأسيس هيئة الأمم المتحدة عام 1945م.
إذن لا فرق يُذكر بين الحزب الديمقراطي والجمهوري، وبالتالي الرئيس الديمقراطي أو الجمهوري، من حيث السياسة الخارجية، فكلاهما يُقدّس المصالح الأمريكية المشروعة وغير المشروعة، ويعادي ويصادق من أجلها، ويسالم ويشنّ الحروب من أجلها، وصديقهم هو الذي يحقق مصالحهم، وعدوّهم من منعهم من تحقيق مصالحهم ولو كانت غير مشروعة…!!!
ثالثاً: موقفنا كعرب من السياسة الأمريكية الديمقراطية والجمهورية:
بالحقيقة نستطيع أن نقول: إنّ جميع الدول العربية تسير تحت وصاية الأمريكيين ـ ديمقراطيين وجمهوريين ـ بل والأدهى من ذلك أنّ الحكّام العرب لا يستمدُّون شرعيتهم من شعوبهم؛ بل من رضا ودعم الولايات المتحدة الأمريكية، فأمريكا هي صانع وداعم الملوك والسلاطين والأمراء والزعماء والرؤساء أصحاب الفخامة والجلالة والنّيافة والقداسة من المحيط إلى الخليج…وقد كان يظنّ البعض أنّ دول الممانعة العربية هي استثناء من ذلك، لكنّ ثورات الربيع العربي برهنت لكلّ عاقل أنّ الأمريكيين راضون وداعمون لهذه الأنظمة التي خدعت شعوبها، والحالة السورية واضحة من حيث التواطؤ الأمريكي الذي يتبادل الأدوار مع روسيا؛ من أجل الحفاظ على نظام الأسد، أو تحضير البديل الذي يوافق الهوى الأمريكي الإسرائيلي…
إذن لن يتغيّر على العرب شيء، فأوباما مثل ترامب، فكلاهما سيدعم الديكتاتورية العربية، وسيزيد من بؤس الشعوب العربية، وسيسعون إلى تقسيم المقسّم، وتفقير الغني من الدول العربية، وتركيع الفقير منها…
ومن يطلب الخير من الأمريكيين كمن يطلب الماء من النار…
فلا ماء عند الديمقراطيين، ولا ماء عند الجمهوريين، وهما وجهان لعملة واحدة…
لكنْ قد يكون ثمّة فارق وحيد بين الديمقراطيين والجمهوريين وهو: الوقاحة في طريقة تحقيق الهدف، فأوباما كان ناعماً، أما ترامب فسيكون خشناً فظّاً غليظاً…فترامب ملياردير يفهم بمنطق الربح والخسارة أكثر من لغة الدبلوماسية الناعمة…
وعلى كلّ حال، فالحكام العرب قد اعتادوا على خشونة الأمريكيين ونعومتهم…فلن يتغيّر عليهم شيء، إلا زيادة من التبعية والاستسلام…وهذا لا يُزعجهم كثيراً، فطالما أنّ العرش بخير، فهم بألف ألف خير…