سألني كثير من المصريين وكثير من المهتمين بالشأن المصري عن “ثورة الغلابة” التي من المفترض أن تنطلق يوم 11 تشرين الثاني/ نوفمبر كما قيل.. هل هي ثورة أم وهم؟ نابعة من قلب الجماهير أم مصنوعة في معامل النظام؟ وكيف ينبغي أن يتعامل معها مقاومو الانقلاب؟
ولكي أجيب عن هذا الأسئلة وغيرها، لا بد أولا من القيام بعملية رفع (ولو مختصر) للواقع المصري والإقليمي والدولي في هذه اللحظة.
أولا: الواقع الداخلي المصري
مشاكل اقتصادية لا حصر لها، تبدأ بسعر صرف الجنيه، ولا تنتهي عند شُحِّ كثير من السلع الأساسية، في ظل سيطرة كاملة للقوات المسلحة على أعصاب الاقتصاد المصري.
الغضب الشعبي أكبر مما يتخيله الكثيرون، والاستجابة للدعوة أمر وارد، الغضب كبير قبل القرارات العنترية الأخيرة (وسيظل حتى لو حاولوا تعديلها لامتصاصه).
في وقت من الأوقات -بُعَيْدَ انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013- كان من الصعب انتقاد “سيسي” في الشوارع وفي وسائل المواصلات العامة، وإذا تجرأت وفعلت ذلك فأنت في خطر شديد.. اليوم أصبح الوضع معكوسا، ومن الصعب ذكره بكلمة خير، سيأكلك الناس أكلا لو فعلت ذلك.
الناس في القاهرة والمحافظات وفي أعماق الصعيد يتساءلون عن يوم 11/11، سائقو السيارات الأجرة يحرضون الناس على النزول، (وكثير منهم يعمل كمجسات ترفع الرأي العام لأجهزة نعرفها جميعا).
الشارع المصري مهيأ لحدث كبير، والمعلومات من القاهرة والمحافظات تقول إن الوضع الحالي يشبه الأسابيع الأخيرة التي سبقت الثلاثين من حزيران/ يونيو.
هل هناك من يعمل على حشد الجماهير لهذا اليوم؟
تقول المعلومات إن أكثر من يعمل على الحشد لهذا اليوم هم رجال أعمال محسوبون على فلول الحزب الوطني، والبقية الباقية تعمل بتردد (إسلاميين وغير إسلاميين).
من الأحداث الغريبة التي جرت خلال الأسابيع الماضية، بعض الاستدعاءات لبعض الناشطين السياسيين والحقوقيين إلى مقرات الأجهزة الأمنية، معاملة ودية، مع “حوار” لا “تحقيق” حول مسألة النزول في اليوم الموعود.
الشيء ذاته حدث في السجون، فبعض المعتقلين -من جميع التيارات- سألتهم الأجهزة الأمنية عن ترتيبات هذا اليوم (بعضهم رد ساخرا : أنا لا أعلم ما حدث في يوم 11/11 من العام الماضي، أو الذي قبله.. كيف سأعلم أي شيء عن 11/11 الذي لم يأت بعد!!!).
بالنسبة للدولة المصرية.. هناك انقسام داخل الدولة، وهو انقسام على مستويين، المستوى الأول: انقسام تجاه معالجة المشاكل القائمة، وتجاه طبيعة دور مصر وتحالفاتها داخليا وخارجيا.
المستوى الثاني: وهو الأخطر.. انقسام في أجهزة سيادية وأمنية. انقسام يجعل الدولة المصرية دولة ذات رأسين، واحد منها فقط في قصر الاتحادية!
حين حَذَّرَتْ بعض السفارات الأجنبية رعاياها في القاهرة كان ذلك بسبب الضوضاء التي خرجت من الغرف المغلقة، تلك الضوضاء التي أظهرت انقساما حادا في الدولة المصرية، وأظهرت أن (مصر الدولة) ليست تحت قيادة موحدة.
عمليات الاغتيال التي حدثت مؤخرا لبعض قيادات عسكرية هامة، والفيديوهات التي خرجت إلى العلن من ضباط تحذر وتتوعد، أي عمليات أو تفجيرات في الشوارع.. كل ذلك وغيره مجرد ضجيج ناتج عن صراع في دولة ذات رأسين.
باختصار.. الوضع معبأ بغضب شعبي، والدولة ليست على قلب رجل واحد.
ثانيا: الوضع الإقليمي
الشركاء الإقليميون الذين صنعوا الانقلاب وأيدوه، الذين خططوا لقتل الثورة منذ 11 شباط/ فبراير 2011 وحتى اليوم.. هؤلاء الشركاء غير راضين عن الوضع الحالي في مصر، وغير راضين عن شخص الرئيس السفيه الموجود في سدة الحكم.
المعونات الاقتصادية سُرُق أغلبها، وما زالت مصر معرضة لانفجار شعبي.
آخر ما يتمناه الحلفاء أن ينفجر الوضع المصري الآن بثورة جديدة، ولكن بقاء هذا الأحمق -الذي ما ترأس إلا بهم- قد يتسبب في ذلك، وملفات اليمن وسوريا والعراق وليبيا لا تحتمل أن تنفجر مصر!
الحقيقة المجمع عليها، أن الوضع الحالي أصبح عبئا على هؤلاء الحلفاء، وهم يعملون لزحزحة الوضع الحالي ولو قليلا، خاصة أن “سيسي” يبتزهم أولا بأول -وهم قابلون للابتزاز إلى أقصى الحدود- وهم يتوقون ليوم الخلاص منه (بشرط أن يأتي عسكري آخر).
تحالفات “سيسي” الخارجية، ومواقفه مع أسياده الإقليميين الذين أتوا به، قطعت شعرة معاوية.
ملحوظة : لو تبيَّن أن هناك معونة اقتصادية في الطريق من أحد الحلفاء فليس معنى ذلك خطأ هذا التحليل، أو عودة المياه لمجاريها.. إنها التزامات دولية لا يمكن أن تنقطع مرة واحدة، خصوصا من دول تخاف انفجار الوضع في مصر (شعبيا).
ثالثا: الوضع الدولي
“سيسي” بعد أن خسر حلفاءه الإقليميين يحاول تدويل الحالة المصرية، لذلك يدخل في ملفات دولية شائكة، ويغير حلفاءه، يفعل ذلك بطريقة ساذجة، ولكنه يحاول!
هذا ما يفسر ارتماءه في أحضان الروس، ومغازلته للإيرانيين، وصفقات البترول من العراق.. إلخ.
مصر بلد مهم للعالم كله، وفرص نجاح المناورات السياسية التي يجربها “سيسي” كفرص عبور شخص أعمى لا يتقن السباحة لبحر المانش، أو فرص عدم وقوع شخص من على حبل رفيع مرتفع وهو يزن مائتي كيلوغرام، يحمل في كل يد شنطة سفر واحدة ثقيلة، وأخرى نصف ثقيلة، مع وجود مجموعة من الأطفال المشاكسين يهزون الحبل لكي ينقطع، أو لكي يختل توازنه..
هذه فرص نجاح “سيسي” في علاقاته الدولية الجديدة.. إنها قفزات في المجهول!
الداعم الدولي الحقيقي الوحيد لـ”سيسي” هو إسرائيل، ولولاها لسقط منذ شهور طوال!
“سيسي” حاليا لا يحقق مصالح أحد سوى إسرائيل، والقوى الدولية تراه عبئا عليها بسبب غبائه وقلة خبرته، وهو لا يملك التراجع، ولا يملك تنفيذ طلباتهم الاقتصادية أو السياسية (سواء طلبات صندوق النقد أو شكليات حقوق الإنسان).
هذا رفع سريع مختصر للواقع المحلي والإقليمي والدولي.. نصل الآن إلى الإجابة عن الأسئلة التي ينشغل بها ملايين المصريين وغير المصريين.
هل هي ثورة؟
ثلاثة آراء في الموضوع..
الأول: أنها “فنكوش مخابراتي” صنعته الأجهزة الأمنية لأسباب ستتضح قريبا، كانوا يتحدثون عن تمرير قرارات اقتصادية صعبة، ولكن ما حدث أن القرارات اتخذت قبل يوم 11، وهذا قد كفانا عناء الرد!
وهؤلاء يستدلون بأدلة كثيرة صحيحة.. خلاصتها أن الدولة والأجهزة الأمنية ووسائل إعلام محسوبة على الدولة تشجع الناس على النزول.
الرأي الثاني: أنها ثورة حقيقية ينبغي دعمها.
ويستدلون أيضا بأدلة كثيرة صحيحة.. خلاصتها أن الأجهزة الأمنية وإعلام الانقلاب يقاومون هذا اليوم، وهم مرعوبون منه!
كيف يستنتج الناس الشيء وعكسه؟ وكيف يكون كلاهما محقا؟
السبب هو وجود صراع داخل الدولة (كما أسلفت)، لذلك يضطرب الناس في فهم الإشارات القادمة من الإعلام (وهو إعلام لا يملك ذرة استقلال أو حياد)، ومن الأجهزة الأمنية، هناك إشارات متضاربة، بعضها يقاوم ويحذر من نزول الناس في يوم 11/11، وفي الوقت ذاته، هناك من يشجع نزولهم ويحرضهم على ذلك، والسبب انقسام نواة الدولة الصلبة.
قد يسأل سائل: لماذا يشجع أحد جناحي الدولة الناس على النزول؟
والإجابة بسيطة.. لأنه يحتاج إلى ظهير شعبي من الجماهير لكي يزيح ساكن الاتحادية، تماما كما احتاجهم في الثلاثين من حزيران/ يونيو لعزل رئيس منتخب!
لقد أصبحت الجماهير طرفا في معادلة التغيير أيا كانت، (وهذا أمر ينطبق على أي يوم وليس على 11/11 فقط)، ولذلك تستطيع الجماهير “الواعية” أن تفرض إرادتها على الجميع في اللحظة الفاصلة، وأن تجبر أي متجبر على التراجع، وأن تغير في المشهد لما فيه خير البلاد والعباد.
الرأي الثالث: أن هذا اليوم مفتوح لكل الاحتمالات، وهو يوم (بلا صاحب)!
وهذا ما أرجحه!
فهناك دائرتان حول الدعوة لما يسمى “ثورة الغلابة”.. دائرة على السوشيال ميديا، يقودها مجموعة من الناشطين، وهؤلاء أطلقوا الدعوة، ولكن لا وزن لهم يذكر في الداخل أو الخارج، ولا أريد أن أشكك في ولائهم لأجهزة مخابرات أو غير ذلك، لأنهم في جميع الأحوال لن يكونوا في صدارة المشهد، وليس لهم أي دور في تحريك الناس بأي حال من الأحوال، لا يوجد شيء اسمه حركة غلابة (داخل مصر)!
(ليس عندي أي دليل أو قرينة لأشكك في أي أحد فيهم، ولا أريد إلقاء التهم جزافا).
وهناك دائرة أخرى.. إنها المجتمع المصري.. ولا علاقة لها بمجموعات “فيسبوك”، فالدعوة انطلقت من “فيسبوك” ووجدت قبولا شعبيا، ومن الممكن استغلالها من أي طرف أو جهاز موجود على الأرض، ومن الممكن استثمارها من مقاومي الانقلاب.
إن الوضع الداخلي، والإقليمي، والدولي يجعل من النظام الحالي نظاما هشا يمكن إسقاطه، وإذا استجاب الناس للدعوة ونزلوا للشوارع والميادين، من الممكن أن تتغير المعادلة في مصر في زمن قياسي، أو على الأقل أن تحدث انفراجة تؤدي إلى تغيير تدريجي.
لا يمكن مقارنة النظام الحالي المنقسم على نفسه، المعزول داخليا وإقليميا ودوليا، بنظام مبارك، إنه أضعف بكثير.
ولكنه نظام محظوظ بمعارضته، فالساحة ليس فيها أي كيان، أو شخصية لها ثقل، والمجتمع منقسم على نفسه، ومن يملك المال والرجال سيفاوض لنفسه ولمصالحه الضيقة لا لمصالح الوطن (كما تعودنا من قياداتهم).
إن تشرذم المعارضة المصرية في الداخل والخارج هو إكسير الحياة الذي يبقي هذه العصابة في سدة الحكم.
السؤال الثاني: هل ننصح الناس بالنزول إلى الشارع في ذلك اليوم؟
تعودت أن أشجع الناس على النزول حين أنزل معهم، وإذا نصحتهم بعدم النزول كنت أشرح أسبابي.
أجد نفسي في حرج من أن أنصح الناس بالوقوف في وجه الدبابات دون أن أكون في الصفوف الأولى.
لذلك أترك تقدير النزول لآحاد الناس، وللقادة الطبيعيين على الأرض، مع التأكيد على أن كل الاحتمالات مفتوحة في هذا اليوم، ومن الممكن أن ينزل الناس وأن يسقطوا النظام، ومن الممكن أن يكون اليوم بداية لشيء كبير ممتد يؤدي إلى مكسب للثورة، ومن الممكن أن يكون يوما عاديا يمر من أوله لآخره دون أحداث تذكر.
السؤال الثالث: ما فرص نجاح هذا اليوم؟
هناك مشكلة في إعلان موعد محدد للثورة، فالأجهزة الأمنية أصبحت مدربة على التعامل مع ثورة (محددة الموعد)، فيتخذون إجراءات أمنية قبل اليوم وأثنائه، بحيث يمر اليوم (ولو بخسائر).
ولكن الميزة في تحديد موعد الثورة.. تتلخص في أن اليوم إذا وصل لآخره والناس صامدون في الشوارع في مدن عدة.. فقل على النظام السلام!
إذا لم تتمكن أجهزة الأمن من السيطرة الكاملة على المشهد مع نهاية اليوم.. فسنرى يوما مثل يوم الثامن والعشرين من كانون الثاني/ يناير 2011 (مع فارق كبير في حجم العنف بالتأكيد) (راجع مقالتي التي نشرت يوم السبت الماضي بعنوان “استعدوا لما هو آت”).
في النهاية.. صحيح أنني لا أملك أن أدعو الناس للنزول إلى الشوارع.. ولكنني أنصح سائر معارضي الانقلاب في الداخل والخارج بأمرين (وهي نصائح تصلح لكل أيام الاحتجاج):
الأول: عمل غرف عمليات لمتابعة الوضع على الأرض قبل اليوم الموعود بأيام عدة، على أن تكون غرف عمليات محترفة تشمل القطر المصري كله، وسيكون من المفيد التواصل بين غرف عمليات الداخل والخارج، وسيكون الأكثر فائدة أن يتعاون الجميع في هذا اليوم بغض النظر عن أي خلاف سياسي أو أيديولوجي.
الثاني: أنصح كل الوطنيين الغيورين على هذا البلد أن لا يفوتوا النزول في اليوم الثاني!
إذا لم تنته أحداث 11/11 في اليوم نفسه.. فلا بد من التعامل مع الحدث بمرونة، من في الداخل مطالب بالتعامل بحسب خطورة الموقف.
والمعارضون في الخارج لا بد لهم أن يتعاملوا مع اللحظة بحكمة ووعي، بعيدا عن الخلافات الصغيرة، والأحقاد والمنافسات الفارغة!
هذا النظام من الممكن أن ينهار في لحظات، وسوف تنصب مائدة مفاوضات يجلس عليها سائر الذئاب، ولا يمكن أن نترك هذه الطاولة دون جماهير في الشارع تفرض الحرية والعدل، ودون ممثلين ينوبون عن الأمة، خصوصا أن من يملك المال والرجال سيبحث عن ثغرة لكي يعقد صفقة له فقط (كما قلت)، ولن يهتم بمطالب الأمة كما عَوَّدَنا.
نصيحتي للناس.. للمصريين داخل مصر وخارجها، في يوم 11/11 أو في أي يوم يتبين فيه أن النظام يتراجع … إياكم أن تفوتوا فرصة النزول في اليوم الثاني!!
ملحوظة: بيان الدكتور محمد البرادعي هام في مضمونه وتوقيته، وأتمنى أن يتاح لي الوقت للتعليق ليس على البيان.. بل على حالة الدكتور البرادعي كلها، من بدايتها إلى اليوم.
عاشت مصر للمصريين وبالمصريين..