لحظات إيمانية تلك التي جمعت قيادات جماعة الإخوان، على اختلافهم، خلف فضيلة الشيخ الدكتور “يوسف القرضاوي” رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، يوم الأربعاء الماضي (5 من أكتوبر/تشرين الأول) في مسجد “فاتح” بإستطنبول؛ في صلاة للغائب على روح الرحل الدكتور “محمد كمال”، الذي أحسبه شهيداً، ولا أزكيه على الله تعالى، ولكني لا أخفي الله واضحة؛ فقد تابعتُها واضعاً يدي على قلبي مما سيحدث بعد انتهائها.
استجاب الإمام “القرضاوي” إلى دعوة وجهت إليه للمجىء إلى تركيا لأداء صلاة الجماعة على الشهيد، بإذن الله “محمد كمال” في لفتة معهودة من رجل يرى نفسه شريكاً في الكفاح من أجل نصرة راية الحق والخير في الكون؛ مثلما يرى كل شهيد من أجل هذه الراية أخاً له؛ أما الدعوة فمن المفترض أنها وصلت الشيخ باسم الصف كله، صف الإخوان المسلمين؛ لا أحد المُختلفين اليوم؛ ولا أقول جبهتين فلم أعهد القوم إلا جبهة واحدة، فضلاً عن أن مثلي لا يمكنه الاعتراف بالجماعة إلا وحدة وكياناً ونسقاً واحداً جهة وجبهة، أفراداً ومجموعاً..
وضعتُ يداً ثقيلة لا على قلب يرفرف بل على روح تئن، فور رؤيتي للجمع، بخاصة في الصف الأول، متوقعاً، من آسف، وفق قراءة للواقع سابقة لم أكن أحب أن أحيا لكي أراها، متوقعاً ما سيحدث بعد التسليم من انسحاب فرد.. وبقاء آخر.
حينما تتصالح ذواتنا تصالحاً تاماً كاملاً مع هدي وشرع ديننا الحنيف الحكيم؛ وحينما نكون على قدر المسئولية مع خالق السموات والأرض، في أوقات الصفاء قبل أوقات المحن، نكون في الصلاة مع الله كما في غيرها قمة الصفاء والألق ومحاولة القرب منه تعالى؛ وحينما تاخذ الدنيا بأيدينا بعيداً عن ما يحب تعالى، والعياذ بالله، تختلف أحوالنا؛ فنكون بين يديه تعالى في حال، وعقب نهاية الصلاة في حال آخر مغاير للأول.
قد يقول قائل ولكن الحياة ليست كالصلاة؛ وهذه ملحوظة مردود عليها بان الأخيرة ؛ الحياة الدنيا؛ إن لم تكن كالصلاة في قالبها، فينبغي أن تكون في قمة قلبها مرضاة لله.
ليس من الطبيعي ولا المعقول أن تلتئم قيادات الإخوان فتعرف بعضها بعضاً في صلاة للغائب على روح أحد قادتها، رحمه الله، ومرافقه وكل الشهداء في مصر والعالم؛ الذين نحتسبهم في عليين؛ فإذا ما اجتمعوا أدوا الصلاة ثم واصلوا نهج الخلاف؛ وإنها لكلمة حق أرجوه بها، واسأله أن ألقاه عليها.
كان من المنطقي أن تلتقي جميع أطياف الجماعة في قلب هذه المحنة للبحث عن مخرج؛ لا أن تنتظر حتى يذهب الدكتور “كمال” ومن أمامه مئات الأرواح إلى لقاء الله تعالى فيما هم مصرون على ابتعادهم عن بعضهم البعض لأسباب حقيقية وأخرى، عفواً غير هذا.
فإن كان عمر اللقاء الأساسي للبحث عن مخرج قد بدأ وتنامى في الغياب؛ فإن رجلاً جاوز الستين؛ وقد كان عضواً في مكتب الإرشاد؛ وقاد معسكر الشباب بعد الانقلاب؛ ثم مكتب الأزمة منذ فبراير/شباط 2014؛ ونهجاً توافقت الجماعة عليه في ذلك الوقت ثم اختلفت وافترقت؛ فإن الدكتور “كمال” الذي سمح البعض لنفسه للخلاف في الرأي والتوجه؛ بعد اتفاق مع نفس الرأي والحراك؛ ولستُ في مقام الدفاع عن رأي، ولكن عن حيثيات اختلاف بعد اتفاق، سمح البعض لنفسه أن يقول فيه ما قال؛ ودحض الرجل أقوالهم بصورة عملية مرة لما استجاب لدعوة الشيخ “يوسف القرضاوي”؛ ولجنة من أبرز علماء الأمة وحركييها معلناً منذ قرابة ستة أشهر استقالته من اللجنة الإدارية العليا وكل منصب في الجماعة، وعدم ترشحه مرة أخرى مفسحاً المجال للشباب ولقيادات أخرى لكي تُعمل عقلها وتبذل جهداً في سبيل الوصول إلى حل للأزمة الحالية، ومرة لما استشهد.
لقد كانت صلاة الغائب على الرجل بداية فرصة للاصطفاف داخل الإخوان، ولو أن كل مصلٍ، مع الاحترام لكل مخلص، جعل الله نصب عينيه وافترض أن الذي لقاه ليس الدكتور “كمال”، بل إنه هو نفسه؛ وما سياق هذا على الله ببعيد على الجميع؛ فلماذا مواصلة الشقاق من بعد؟
إن محبة الدكتور “كمال” ليست كلمات يمجده البعض بها؛ ومرة بعد أخرى يُثبت الرجل بعده عن ما رماه به البعض، ربما بحسن نيّة؛ وكانت المرة الثانية درساً لمن يدري.
إن الأمر عفواً ليس إثبات قرب من الشيخ “القرضاوي”؛ ولا إلتقاط للصور إلى جواره؛ فوجوده بينكم في الجنازة لا ينفي أنه طالب الجميع من قبل بالاستقالة؛ واستجاب الراحل؛ فمتى يتعلم الجمع من الموت دروس الحياة؟!
إن المحنة الحالية تتطلب من الجميع التجرد عن الأهواء؛ والبعد عن المُندسين وأصحاب الأهواء والمصالح؛ والتجر د لخدمة هذا الدين بعيداً عن الأسماء والمسميات والمكاسب ولو كانت معنوية.
إننا هنا في الغربة .. في خارج مصر لا نزرع لكي نحصد مكاسب أياً ما كانت صغرت أم كبرت؛ بل إن علينا واجب حصاد الوضع المُرّ للوضع في مصر، ومن قبل ومن بعد الأمة، وهو وضع لا يسمح بمزيد من الشقاق والتكالب على الحياة، من ناحية البعض، وإن تتطلب الأمر من البعض التنازل عما يراه قيادة هو أحق بها في الحياة الدنيا، فليتذكر أنه عما قريب سيلقى الله تعالى؛ فيسأله عن محنة هو كان أحد أسبابها؛ حتى ولو لم يقصد؛ كان من أسبابها بشكل مباشر ثم أصر على البقاء عقبها في ما يراه من منصب، ولو استمرت المحنة، واستشهد الآلاف من الصف واعتقلوا وأصيبوا.
إن الجماعة لتحتاج إلى كل دفقة خير؛ ونبضة إخلاص في قلب كل شريف في مثل هذه الاوقات العصيبة، بل إن مفهوم الجماعة نفسه صار في حاجة إلى تعديل يُدخلُ كل مخلص في التفكير في نطاقها، ولو لم يكن منها، ما دام حريصاً على نصرة ربه ودينه، ويخرج من هم غير هذا لو كانوا في قلبها.
إن الفرص في المحن والأزمات صعب أن تتكرر وهي تحتاج إلى رجال مهيئين إلى العمل لا إلى إحسان الكلام وعرص الحجج .. فليت الجميع يتمسك بالله أولاً ثم حكم العقل والبعد عن كل ما هو مثير للجدل والخلاف؛ حتى لا تطول المحنة وابتعادنا عن بلادنا دون نتيجة أو مجرد جديد، ويطول أمد الألم بأهلنا في مصر ومن ثم الأمة.