قبل عام، بالتمام والكمال، وفي اليوم ذاته من الشهر 8 أكتوبر/تشرين الأول 2015، أبدى الزميل الكاتب السعودي المعروف، جمال خاشقجي، ارتياحاً لما اعتبره موقفاً مصرياً جديداً، متناغماً مع الرؤية السعودية للموضوع السوري، فكتب على موقع “تويتر” إن “الموقف المصري من العدوان الروسي في سورية قد يتغيّر بإذن الله”.
لم يمر سوى عام، حتى عاد الكاتب نفسه يغرّد مصدوماً، أو مندهشاً، من الموقف المصري من الموضوع ذاته، فعلق متعجباً “الدبلوماسية المصرية غريبة، صوتت مع مشروع قرار فرنسي بمجلس الأمن يفرض حظر طيران فوق حلب، ثم صوتت لمشروع روسي يناقضه خلال أقل من ساعة”.
موقف الصدمة، ذاته، عبر عنه، بألم شديد، مندوب السعودية في الأمم المتحدة، عبدالله المعلمي، بالقول إنه كان من المؤلم أن يكون الموقف السنغالي والماليزي أقرب إلى الموقف التوافقي العربي من موقف مصر.
تبدو السعودية، رسمياً وشعبياً، مصدومة، أو قل مجروحة، من هذا الخذلان الذي فاجأها به عبد الفتاح السيسي، معلناً تمرّده، إلى حين، على “الأرز” السعودي، معلناً الانحياز، أو التماهي، مع “الفودكا” الروسية، لكنه لا يريد أن يخسر مذاق الجبنة الفرنسية، فصوّت مع روسيا ضد فرنسا، ثم صوّت مع فرنسا، وهو موقنٌ بأن الفيتو الروسي سيغطيه.. لكنه في النهاية، وعلى نحو قاطع، مع شبيهه في الوحشية بشار الأسد، حتى لو كان ذلك على حساب فرنسا التي قدمت “الميسترال” تلو الأخرى، للنظام المصري، وقد قيل، في ذلك، إن التمويل سعودي لصفقة حاملتي الطائرات التي تسلم السيسي آخرهما قبل أيام.
هذا نظام لا يعرف المبدئية في العلاقات، والسعوديون أول من يدرك ذلك، منذ فضيحة التسريبات، فلماذا الصدمة، إذن، من نظامٍ تمت صناعته بأموال المانحين، وزراعته في مصر على أرضٍ امتلأت بالجماجم والدماء؟.
أذكر أنني علقت على تفاؤل خاشقجي، في العام الماضي، بتغير موقف السيسي من سورية بالقول: نعم.. قد يتغير، لأن هذه مصر الجديدة التي تدار بعقلية الديليفري، حيث التوصيل لمن يطلب، ومن يدفع، والمواقف طازجةٌ وساخنة، يوماً بيوم، إذ تُمارس السياسة بالقطعة، كما يفعل عمال الأجرة اليومية، فالبوصلة هي إيراد آخر النهار، لا فرق بين العمل في بناء دار عبادة أو طلاء دار مناسبات، أو بيت للتجميل، أو بيت لأي شيء آخر.
إنه تغيّر، ويتغيّر، وسوف يتغير، لكنه هنا لا يمكن أن نطلق عليه “الموقف”، فالموقف مبدأ، والمبدأ ثابت، ومحاطٌ عادة بغلاف قيمي وأخلاقي، يجعل حركته واتجاهه أكثر اتّساقاً مع المستقر في الضمير. لذا، من الأفضل أن نقول إن قرار عبد الفتاح السيسي، أو ولاء عبد الفتاح السيسي، أو اختياره، هو الذي سيتغيّر، ويتبدل ويتحول، وينقلب أيضاً.
وفي هذا لكم في تراجيديا الحرب في اليمن المثل والدليل والعبرة، حيث كان الولاء تامّاً، والتطابق كاملاً، والتقافز بخفةٍ على سلم الطائرة الملكية يحدث بكل سرور وحبور، عندما كان “الأرز” يتدفق بانتظام. وحين التقطت قرون الاستشعار أن ثمة موقفاً سعودياً مختلفاً بعض الشيء، مع وصول ملك جديد، جاءت التبدّلات والتقلبات، وأومأت العيون التي بطرفها زيغ لطهران، ودعت القاهرة الفن الحوثي، تشكيلاً وتصويراً، للاستعراض على أرضها، وبعثت سفيراً لها إلى صنعاء، في وقتٍ كان فيه العرب يسحبون سفراءهم منها، كإجراءٍ لازم لنزع الشرعية عن الانقلاب الطائفي المدعوم إيرانياً.
كان التدخل العربي الذي تقوده السعودية، في مستنقع الأزمة اليمنية، يرفع شعاراً يبدو أخلاقياً بامتياز: لجم انقلاب طائفي على أحلام الشعب اليمني بعد ثورة 2011، غير أن الأهداف الأخلاقية، حين تستخدم فيها الصفقات والتكتيكات غير الأخلاقية تفقد جدارتها الأخلاقية، وتتطور إلى مآلاتٍ كارثيةٍ وإجرامية، كما حصل في جريمة قصف مقر العزاء في صنعاء، وأظن أن تناقضاً منطقياً وأخلاقياً يسود الموقف السعودي في الموضوع اليمني، إذ لا يمكن أن تدعم انقلاباً باليمين، وتحارب انقلاباً آخر باليسار، أو تحاول أن تستعمل انقلاباً في مواجهة انقلاب آخر.
ولا بأس من تكرار القول: يبدأ الحسم في ميادين القتال بحسم الاختيارات ونقاء العقيدة أولاً، وهو ما يفضي إلى مواقف استراتيجية، مكتملة الوضوح والاتساق، غير ذلك لا ينتج إلا ألاعيب تكتيكية، وتقلبات أكروباتية، تليق بلاعبي السيرك، أو عفاريت الديليفري المنتشرين على الطرقات. وعلى ذلك، ليس مستبعداً أن يصدر التغيير من القاهرة، بشأن الصراع السوري، على الطريقة نفسها التي رأيناها في الموضوع اليمني، بحساب المقدّمات والنتائج، كما يقول المناطقة.