في فترة رئاسته القصيرة، عقد الرئيس الأسبق محمد مرسي لقاءين موسعين مع الإعلاميين، الأول كان حاشدا بعد توليه السلطة بوقت قصير، وحضره عدد كبير من الصحفيين والإعلاميين، وكان لقاء للتعارف وتقديم نفسه للإعلام، وكنت من المدعوين للقاء، وكان لقاء صاخبا باحترام، فيه صراحة وسعة صدر كبيرة للغاية من مرسي، وفيه جرأة تصل إلى حد الاستعراض المقيت من بعض الإعلاميين.
أذكر أن مرسي قال يومها أنه يحب ألّا يكون -كرئيس جمهورية- مخيفا لأي إعلامي، فرد عليه أحدهم بأنهم لا يخافون منه، بل هو الذي ينبغي أن يخاف منهم! كان لقاء يعبر عن أجواء ديمقراطية بأوسع دلالتها ورحابتها، ثم عقد لقاء ثانيا بعد عدة أشهر حضره عدد أقل نسبيا من العدد الضخم السابق من الصحفيين والإعلاميين، وقد دعيت لحضور هذا اللقاء أيضا في قصر الاتحادية، وجرى فيه حديث كان معظمه عن الحالة الاقتصادية وعن أراضي الدولة المنهوبة وعن جهود الرئاسة في استردادها، وكان حاضرا في هذا اللقاء الدكتور معتز عبد الفتاح، الذي كان يتحرك داخل القاعة وخارجها كأحد كبار رجال القصر المقربين من مرسي ووثيقي الصداقة مع رجالات الرئاسة وقتها.
في هذا اللقاء، تحدث مرسي عن البرقية الشهيرة التي أرسلت إلى “صديقي بيريز”، والتي أثارت ضجة كبيرة، واعتبرت تزلفا لإسرائيل وتقديم أوراق اعتماد لها، ودافع مرسي عن البرقية باعتبار أنها صيغة نمطية لا يكتبها، وإنما تعدها جهات السكرتارية للمناسبات العامة بين الدول، وهو يوقع عليها فقط.
غير أن ما لفت انتباهي أكثر في ذلك اللقاء حديث مرسي للإعلاميين عن حالة غريبة أدهشته، وتركت لديه انطباعات لم يكن يتصورها من قبل، قال إن العشرات من رؤساء الدول والملوك ورؤساء الوزارات في عواصم غربية كبيرة اتصلوا به بعد تنصيبه من أجل تهنئته بالمنصب الجديد، ثم أضاف: كانت الاتصالات تبدأ بالتهنئة، ثم يكون الموضوع التالي مباشرة للتهنئة هو “إسرائيل”، ما هو موقفكم منها، وما هو التزام حكومتك بالاتفاقات الموقعة معها، وما هو تصوركم لمستقبل العلاقة، وما هو تقديرك لحماية الحدود المشتركة بين مصر وإسرائيل، وما هي آفاق التعاون المنتظرة بين مصر وإسرائيل في عهدكم، وعلق مرسي للحاضرين قائلا: اكتشفت أن أول شيء وربما آخر شيء يعني العواصم الغربية عن مصر وشؤونها هو علاقتها بإسرائيل، ومدى قدرة النظام على حماية مصالح إسرائيل وأمنها.
تذكرت هذه الواقعة وأنا أتابع ردود الفعل الغاضبة هذا الأسبوع على تصريحات وزير الخارجية سامح شكري، التي قال فيها إنه لا يمكن أن نتهم إسرائيل بالإرهاب ضد الفلسطينيين؛ لأن هذا يحتاج إلى توافق دولي على تعريف الإرهاب، وهو التصريح الذي احتفلت به الصحافة الإسرائيلية احتفالا كبيرا، بقدر ما أثار غضبا واسعا في مصر والعالم العربي، واعتبر إهانة للدم العربي والفلسطيني، وتزلفا غير لائق للكيان المحتل، ولكني –للأمانة- لم أكن متفاجئا بذلك التصريح، بل ولا ما هو أسوأ منه، وتقديري أن “الأسوأ” هذا لن يغيب طويلا، خاصة كلما ارتبكت الخطوات في الداخل، وتصاعد الغضب من السياسات الاقتصادية وغيرها، وتقلصت مساحات القبول للنظام والرئيس نفسه، باختصار، كلما تصاعد الضغط في الداخل كانت الحاجة أكبر لتفهم الخارج ومساعدته، والخارج له معايير وشروط ومطالب ثابتة وجوهرية، وفي مقدمتها مدى موثوقية العلاقة مع إسرائيل.
إلى أي مدى ستصل تلك العلاقات التي وصفتها الخارجية المصرية “بالدافئة” مع إسرائيل، وإلى أي مدى ستقدم مصر تنازلات في هذا الملف، هذا ما سوف تكشفه الأيام المقبلة، وهي قادمة لا محالة، وهو أمر مرتهن بتطورات حاجة النظام السياسي إلى مساعدات الخارج ودعمه وضماناته، وللأمانة، فمصر لن تكون وحدها في هذا السياق، فثمة عواصم عربية أخرى تمضي في الطريق ذاته الآن سرا، بانتظار لحظة إعلان “العلاقات الدافئة” رسميا.