يقدّم عبد الفتاح السيسي نفسه، في حواره المعروض بكل نقاط التوزيع، باعتباره “المقاتل”، حتى يخالُ لك أن في كل نقطة من جسده طعنة أو رصاصة، حصاد مشاركته في المعارك التاريخية، من حطين وعين جالوت وحتى أكتوبر 1973، متلبسا روح “بطل الحرب والسلام”.
يتحدّث من الوضع واقفاً فوق تلال الخراب الاقتصادي، والانهيار السياسي، متوعداً من يرفض هذيانه بأن ما حقّقه من إنجازاتٍ يفوق الخيال، فتشتعل، على الفور، الحرب على الدكتور مرسي و”الإخوان”، داخل معسكر المعارضة اللطيفة.
في هذا الطقس السياسي “الخريفي” العاصف، من يستمع إلى تصريحات عبد المنعم أبو الفتوح عن الرئيس محمد مرسي وجماعة الإخوان قد يتصوّر أن الرجل أمضى عمره كله في صراعٍ حامي الوطيس مع الجماعة، أو ربما يصل بك الخيال إلى الظن بأنه عاش عمره السياسي داخل تنظيماتٍ يسارية أو ليبرالية، متشدّدة في رفضها الإسلام السياسي، خصوصاً وهو يصف، في حواره لتلفزيون “العربي”، زميل السنوات الطويلة في جماعة الإخوان، الدكتور محمد مرسي، بأنه وأحمد شفيق، مثل “الطاعون والكوليرا”. غير أن التاريخ القريب يقول لنا إن أبو الفتوح ظل متمسكاً بموقعه البارز في مجلس شورى جماعة الإخوان المسلمين، حتى قرّرت الجماعة عدم اختياره مرشحاً لها في انتخابات الرئاسة 2012.
انتهت علاقة أبو الفتوح بجماعة الإخوان في يوليو/تموز 2011 على وقع أزمة ترشيحات الرئاسة. وعن قرار فصل أبو الفتوح، قال مرشد الإخوان الذي يقبع في الزنزانة، مرتدياً ملابس الإعدام، الدكتور محمد بديع: “لم يكن من السهل على الإخوان، وعليّ شخصياً اتخاذ مثل هذا القرار، وقلت للإخوان يومها إننى كمن يقطع أصابعه، لكن قطع أصابعي أهون عندي من نقض العهد مع الله”. وأكد بديع حينها أن “أبوالفتوح هو الوحيد الذي بايعني مرتين، وهو يعلم جيداً مكانته في قلبي، وأنا أعلم الشعبية التى يتمتع بها، وحاولت جاهداً منع ما حدث، واقترحت عليه حلاً كان سيمثل نهاية مناسبة للمشكلة وترضي الجميع، لكنه رفض”.
عبد المنعم أبو الفتوح، مثل هشام جنينة، يحاولان تجنب بطش نظام الجنرال ذي الخيال الفقير، عن طريق توجيه أكبر عدد من اللكمات العنيفة في وجه المقيّدين بالسلاسل، ممن لا يملكون إمكانية الرد أو الدفاع عن النفس، فالسيد هشام جنينة الذي مازال ينتظر إشارة الرضا من الجنرال، كي يهرول إليه، يتحدّث عن مرحلة الرئيس مرسي، وكأنه كان معتصماً داخل خيمة في ميدان التحرير، مطالبا برحيل النظام، وليس رئيساً للجهاز المركزي للمحاسبات فيه.
تتجاوز المسألة كونها حنقاً على الرئيس مرسي و”الإخوان”، إلى ممارسة نوعٍ من رياضات الرشاقة السياسية التي تقي أصحابها ضربات نظام، هو للبلطجة أقرب، لكنّ الوقائع تؤكد أن هذه الرشاقة قد تؤجل الضربة، لكنها لا تمنعها تماماً. ويمكن الرجوع، هنا، إلى حالة الدكتور عبد الرزاق السنهوري، رئيس مجلس الدولة بعد يوليو/تموز 1952، والذي حاول شراء رضا السلطة، بالإمعان في المزايدة عليها في العداء للإخوان المسلمين.
في الكتاب المهم “ازدهار وانهيار النخبة القانونية المصرية” للدكتور عمرو الشلقاني، تجد مشاهد نهاية السنهوري، كما وضعتها سلطة عبد الناصر، في أزمة مارس/آذار 1954، صورة طبق الأصل من مشاهد تخلص سلطة عبد الفتاح السيسي من هشام جنينة. والعجيب أكثر هو التطابق في أداء الشخصيتين القانونيتين، على الرغم من 62 عاماً تفصل بين الموقفين.
يقدّم الكتاب الخطوط العريضة لما يُعرف في العامية السياسية المصرية بقصة “ضرب السنهوري بالجزمة على سلم مجلس الدولة”، وهي العملية التي جهز لها الضباط جيشاً من المواطنين الشرفاء، اتهموا فيها رئيس مجلس الدولة بالخيانة والعمالة.
يفند المؤلف ما يسميه السرد التقليدي للقصة، بنبراته البطولية، والذي يُظهر السنهوري شهيداً لسيادة القانون واستقلال القضاء، فالرجل الذي يصوّرونه ضحيةً لرفض العسكر تبني دستور ديمقراطي جديد وعقد انتخابات نزيهة، هو نفسه الذي جلس على منصته القضائية في نهاية يوليو/تموز 1952، بعد أسبوع مما يسميه صاحب الكتاب “الانقلاب العسكري”، وأفتى بما ينسف أحكام دستور 1923، ويتعارض مع أبسط قواعد المنطق القانوني السليم، وهو كذلك يمكن اعتباره “ترزي قوانين” للعسكر، حتى إن غلاف مجلة روز اليوسف، قبل أسبوع من الاعتداء على السنهوري، صدر برسم كاريكاتوري يظهر فيه دستور العسكر الجديد كأنه عروس، يتأبّط ذراعيها جمال عبد الناصر ومحمد نجيب، ويزفها صلاح سالم بالورود من الأمام، فيما يدقّ السنهوري الصاجات في خلفية الموكب، ومعه زميله سليمان حافظ.
غير أن ذلك كله لم يشفع، فأمام جبروت العسكر الكل باطل وقبضُ ريح.